الحلولية الكمونية: تعريف
تدور معظم رؤى العالم حول ثلاثة عناصر هي في الواقع عنصران اثنان: الإله من جهة والإنسان والطبيعة (أي العالم) من جهة أخرى. ومذهب الحلول أو الكمون (أو الحلولية الكمونية الواحدية أو وحدة الوجود) هو المذهب القائل بأن الإله والعالم (الإنسان والطبيعة) مُكوَّن من جوهر واحد، ومن ثم فهو عالم متماسك بشكل عضوي مصمت لا تتخلله أية ثغرات ولا يعرف الانقطاع ويتسم بالواحدية الصارمة، ويمكن رد كل الظواهر فيه، مهما بلغ تَنوُّعها وانعدام تجانسها، إلى مبدأ واحد كامن في العالم هو مصدر وحدة الكون وتماسكه ومصدر حياته وحيويته وهو القوة الدافعة له الكامنة فيه، ويمكن تفسير كل شيء من خلاله.
ووحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية قد يختلفان في بعض الأوجه الفرعية إلا أنهما يتفقان في الأساسيات والبنية. فكلاهما يرى أن العالم يتكون من جوهر واحد.
1 ـ وهذا الجوهر الواحد أو المبدأ الواحد يُسمَّى «الإله» أو «الجوهر الإلهي» في منظومات وحدة الوجود الروحية (الحلولية الكمونية الروحية)، ويجري التعبير عن هذا بالقول: "حل الإله في العالم، أي في الطبيعة والإنسان". ويمكن تسمية الجوهر الواحد تسميات شبه روحية شبه مادية، كأن يُقال إن المبدأ الواحد هو «روح الشعب» أو «روح التاريخ» أو «العقل المطلق» وما شابه ذلك من مصطلحات هيجلية روحية اسماً مادية فعلاً. وتذهب وحدة الوجود الروحية إلى أن الإله هو الأصل،والعالم إن هو إلا وهم. وإن كان ثمة عالم فهو جزء من الإله وليس له وجود مستقل (إنكار الكونية).
2 ـ أما في منظومات وحدة الوجود المادية (الحلولية الكمونية المادية)، فهذا المبدأ (أو الجوهر) الواحد يُسمَّى «قانون الحركة» أو «قوانين الطبيعة» أو «الطبيعة/المادة» أو «قوانين الأشياء» أو «القانون الطبيعي» أو «قوانين الضرورة الطبيعية» أو «القوانين العلمية». هذا القانون قانون شامل يمكن تفسير كل الظواهر، ومن بينها الظاهرة الإنسانية، من خلاله. وفي هذه الحالة، يجري التعبير عن وحدة الوجود بالقول "تسري قوانين الحركة المادية على كل الأشياء في الكون"، ويُقال: "استناداً إلى القوانين العلمية، نحن نذهب إلى كذا وكذا". وإذا كان ثمة إله فليس له جوهر مستقل وإنما هو كامن في العالم؛ باطن فيه، محايث له، وليس له وجود مستقل عنه، ولذا فإن العالم مكتف بذاته، يحوي داخله ما يكفي لتفسيره ولا وجود للإله خارجه (تأليه الكون).
ولا تصل المنظومة الحلولية الكمونية الواحدية دائماً إلى مرحلة وحدة الوجود دفعة واحدة، فثمة درجات من تَركُز الحلول والكمون في الكون. ويمكن أن تحدث درجة من الحلول أو الكمون لا تؤدي بالضرورة إلى وحدة الوجود، كما يمكن أن يتم الحلول (أو الكمون) جزئياً في الإنسان لا في الطبيعة، ولكن النموذج الحلولي يصل إلى تحقُّقه الكامل ولحظته النماذجية بالتجسد الكامل للإله في العالم وكمونه فيه، وفقدان الإله تجاوزه وتنزُّهه في مرحلة وحدة الوجود الروحية، ثم بفقدانه اسمه في مرحلة وحدة الوجود المادية، حيث يصبح الإله والعالم (الإنسان والطبيعة) شيئاً واحداً،ويصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ من العالم، ليست له إرادة مستقلة أو وعي مستقل، غير قادر على تجاوز محيطه.
لا يوجد، إذن، أي فارق بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية إلا في التسمية. وكما يقول نوفاليس ليس هناك فرق بين أن تقول "أنا جزء لا يتجزأ من العالم" وأن تقول "العالم جزء لا يتجزأ مني"، ونفس القول ينطبق على وحدة الوجود، فلا يوجد فرق بين أن تقول "إن العالم إن هو إلا جزء لا يتجزأ من الإله" وأن تقول "إن الإله إن هو إلا جزء لا يتجزأ من العالم"، ولا فرق بين أن يقول المرء "لا موجود إلا هو" (أي الإله، بالمعنى الحرفي) أو "لا موجود إلا هي" (أي الطبيعة/المادة).
أشرنا إلى أن ثمة تَماثُلاً بل تَرادُفاً بين وحدة الوجود الروحية ووحدة الوجود المادية، ولذا فإن أية منظومة حلولية كمونية يمكن أن تصبح روحية ثم مادية في فترتين متتاليتين، أو تصبح روحية اسماً مادية فعلاً في الوقت نفسه، كما هو الحال في المنظومة الهيجيلية حيث يتم التعبير عن الظواهر الروحية بمصطلحات مادية ويتم التعبير عن الظواهر المادية بمصطلحات روحية، أي أنها واحدية روحية/مادية أو مثالية/مادية في آن واحد. وهذا هو المعنى الحقيقي لاتحاد المقدَّس والزمني وعبارات هيجل الأخرى. وعلى المستوى التاريخي يُلاحَظ أن عمليات العلمنة عادةً ما تسبقها مرحلة يسود فيها الفكر الحلولي الكموني الروحي، ثم يصبح فكراً حلولياً كمونياً مادياً، أي علمانياً، في نهاية الأمر.
ولعل أهم أشكال الحلولية الواحدية هي الغنوصية التي نذهب إلى أنها خطاب فلسفي (معرفي أخلاقي) واحدي كموني استمر عبر مئات السنين وتَبدَّى من خلال عدة فلسفات وأنساق معرفية ودينية من أهمها: القبَّالاة اللوريانية، وأفكار غلاة المتصوفة والباطنية، وفلسفة إسبينوزا وهيجل ونيتشه، وأخيراً العلمانية الشاملة المادية الحديثة التي هي فلسفة غنوصية وشكل من أشكال الحلول. وهكذا، فإن الغنوصية كانت وحدة وجود (واحدية) روحية وأصبحت عبر مسار التاريخ وحدة وجود واحدية مادية، إلى أن انتهى بها الأمر إلى السيطرة على العالم بأسره بعد تدويل المنظومة العلمانية من خلال التشكيل الإمبريالي الغربي. ويمكن القول بأن وحدة الوجود الروحية كانت الشكل الأكثر شيوعاً حتى القرن الثامن عشر، وأن الشكل الآخر (وحدة الوجود المادية، أي العلمانية الشاملة) هو الشكل الغالب الآن.
الحلولية الكمونية بين الثنائية الصلبة والسيولة الشاملة
توجد أشكال مختلفة من الحلولية الكمونية حسب مدى اتساع نطاقها وكيفية تسميتها للمبدأ الواحد ونقطة الحلول والكمون وتأرجُحها بين إنكار الكون وتأليهه ونوعية الاستجابة لوحدة الوجود. ومع هذا يمكن الحديث عن شكلين أساسيين هما: الحلولية الكمونية الصلبة والحلولية الكمونية السائلة الشاملة. وفي إطار الحلولية الكمونية الثنائية الصلبة، يمكن أن يتركز الحلول أو الكمون في الإنسان (الواحدية الذاتية ـ تأليه الإنسان وإنكار الطبيعة)، فيمكن أن يكون فرد بعينه (البطل الذي لا يُقهَر) الذي يصبح بذلك مركز الكـون. ويمكن أن يكون الجنس البشري بأسره (الواحدية الإنسانية). ويمكن أن يتركز الحلول أو الكمـون في جماعة بعينها (الشـعب المقدَّس المختار) تصبح مركز الكون، فتتم التفرقة وبشكل حاد بين من يقع داخل دائرة القداسة وموضع الحلول والكمون ومن يقع خارجها (الواحدية الإمبريالية والعرْقية). ويمكن أن يتركز الحلول والكمون في الطبيعة فيمكن أن يكون موضع الحلول الأرض المقدَّسة أو جبلاً بعينه أو شجرة أو الطبيعة بأسرها (الواحدية الموضوعية المادية ـ تأليه الطبيعة وإنكار الإنسان). وهناك بطبيعة الحال تناقض عميق بين تأليه الإنسان وتأليه الطبيعة، ففي الحالة الأولى يشغل الإنسان مركز الكون أما في الحالة الثانية فهو كائن ليست له أية أهمية خاصة. فالحلولية الكمونية بهذا المعنى تؤدي إلى تأرجح حاد بين إنسانية متطرفة تنكر الكون وطبيعية متطرفة معادية للإنسان وتنكر وجوده. وهذه هي مرحلة الثنائية الصلبة التي تتسم بالهرمية الصارمة.
ولكن الثنائية الصلبة عادةً ما تُمحى لصالح الموضوع والكون فيهيمن الموضوع وتظهر الواحدية الموضوعية المادية التي تنكر الثنائية والتجاوز. ثم يتسع نطاق دائرة الحلول والكمون ليشمل الكون بأسره وتصبح كل الأشياء موضع الحلول ومن ثم تتعدد المراكز ويصبح العالم لا مركز له. وهذه هي الحلولية الكمونية الشاملة السائلة، إذ يتجلَّى المركز من خلال كل الكائنات فيذوب فيها ويختفي وتفقد كل الكائنات حدودها وحيزها، إذ تختفي المساحات بينها ومن ثم هويتها وتَعيُّنها وقيمتها وتذوب في القوة الواحدة التي تسري في الكون وتتخلل ثناياه (القوة الدافعة للمادة، الكامنة فيها) وتعود الأشياء إلى حالة جنينية رحميّة محيطية (تشبه الفطيرة) تُسقط أية ثنائية أو تعددية ولا تعرف تمييزاً بين ما هو أعلى (في قمة الهرم) وما هو أدنى (في قاعدته)، وما هو هامشي وما هو مركزي، وما هو خير وما هو شر؛ نظام دائري مصمت لا تتخلله ثغرات أو مسافات، تشبه نهايته بدايته، وتشبه قمته قاعدته، وتشبه أسبابه نتائجه، وتشبه هوامشه مركزه، ومن ثم تنشأ إشكاليات في النظام المعرفي والأخلاقي، إذ تفقد الأشياء حدودها وهويتها ويَصعُب التمييز بينهما، كما تَصعُب التفرقة بين الخير والشر، وتختفي الإرادة والمقدرة على التجاوز وتسود الواحدية والحتمية.
التوحيد والحلولية الكمونية الواحدية
نرى أن ثمة تضـاداً بين التوحيد والحلولية الكمونية، فالتوحيد هو الإيمان بإله واحد، قادر فاعل عادل، قائم بذاته، واجب الوجود، مُنزَّه عن الطبيعة والتاريخ والإنسان، بائن عن خلقه، مغاير للحوادث، فهو مركز الكون المفارق له الذي يمنحه التماسك. وهو لأنه مفارق للكون يخلق حيزاً إنسانياً وحيزاً طبيعياً الأمر الذي يمنح الإنسـان الاسـتقلال عن سـائر الموجـودات والمقـدرة على الاختيار وعلى تجاوز عالمه المادي وذاته الطبيعية المادية. أما الحلولية الكمونية، كما أسلفنا، فهي الإيمان بإله حال كامن في الطبيعة والإنسان والتاريخ، أي أن مركز الكون كامن فيه، وهو بحلوله هذا يلغي أي حيز، إنسانياً كان أم طبيعياً، ومن ثم فإن التوحيد هو عكس الحلولية الكمونية. كما أن تصاعد معدلات الحلولية الكمونية يعني تزايد محاولة تفسير الكون في إطار القوانين الكامنة فيه دون الإهابة بأية قوانين خارجة عنه متجاوزة له، ويُحسَم الصراع لصالح التمركز حول الموضوع وتأليه الكون.
مفردات الحلولية الكمونية الواحدية
تحل المنظومة الحلولية الكمونية مشكلة التواصل بين الخالق والمخلوق (وعلاقة الكل بالجزء) عن طريق التجسد والكمون، إذ أن الإله (حسب هذه المنظومة) كي يتواصل مع المخلوق، يفقد تجاوزه ويتجسد ويكمن (ويحل) في أحد مخلوقاته أو في بعضها أو فيها كلها، فيتحد بالكون، وبذا يستطيع الإنسان إدراكه بشكل مباشر، إما من خلال حواسه الخمس أو من خلال عملية عرفان إشراقية تتم من خلال الصلة المباشرة بين الإنسان ومصدر العرفان، ولذا فإن الكل يصبح هو الجزء ويصبح الجزء هو الكل ويصبح مركز الكون كامناً فيه. ويقف هذا على طرف النقيض من المنظومة التوحيدية حيث يتواصل الخالق مع المخلوق من خلال العقل والوحي، ويظل مركز الكون هو الإله العلي المتجاوز للكـون. ومن هـنا، يمكن القول بأن المنظومة الحلولية الكمونية منظومة مغلقة دائرية، ملتفة حول نفسها، نصفها بأنها منظومة عضوية. ودائرية المنظومة الحلولية الكمونية وانغلاقها والتفافها حول نفسها تعبير عن النزعة الجنينية في الإنسان، أي رغبته في الانسحاب من عالم الهوية والخصوصية والتركيب والحدود والإرادة الحرة إلى الكل الكوني الطبيعي المادي والذوبان فيه باعتباره القوة الدافعة للمادة، الكامنة فيها، والذي يقضي على كل الثنائيات بحيث يتوحد الخالق والمخلوق وتلتصق الذات بالموضوع والإنسان بالطبيعة، وبحيث يُختزَل كل شيء إلى مستوى بسيط أملس، أي أن الإنسان يعود إلى الرحم الدافئ الرخو (حالة كمونية محيطية سائلة) حيث لا حدود ولا وعي ولا هوية ولا اختيارات، أو يعود إلى اللحظات الأولى بعد الولادة، حين كان الطفل الإنساني يظن أنه جزء من أمه لا ينفصل عنها، وحين كان يمسك بثديها ويظن أنه قد تواصل مع العالم بأسره وتَحكَّم فيه!
والنزعة الكمونية الجنينية تعبِّر عن نفسها من خلال مفردات الحلولية الكمونية الواحدية الإدراكية الأساسية وأهمها الجسد (وبخاصة الجنس والرحم وثدي الأم والأرض). فالجسد أكثر الأشياء مباشرةً لدى الإنسان؛ إدراكه عملية سهلة لا تتطلب إعمال الفكر، والعلاقة بين أجزائه واضحة، والمسافة بين المدرك والمدرَك في حالة الجسد غير موجودة، والعلاقة بين السبب والنتيجة والدافع والمؤثر واضحة تمام الوضوح للإنسان. وعلاوة على هذا، فإن الجسد أول شيء يشعر به الإنسان، فالطفل يدرك في البداية جسده ثم جسد أمه، ويعرف تضاريس جسده ثم تضاريس جسد أمه الذي يتركز في الثدي مصدر حياته واستمراره ولذته.
ويبدو أن الإنسان، في بداية بزوغ وعيه، أدرك عمليات أخرى مرتبطة بجسده، رسَّخت عنده إدراك العالم من خلال الجسد المادي:
1 ـ عملية الولادة وخروج الطفل من الرحم، إذ رأى الإنسان الجسد وهو يتولد من جسد آخر، فظن أن الجسد مصدر الحياة.
2 ـ في اللحظات والأيام والشهور الأولى من حياته، يستمد الإنسان حياته من خلال التواصل الجسدي المباشر بثدي أمه ويتصور أنه جزء منها.
3 ـ في تواصله مع الآخر (الأنثى)، كان أول أشكال الاتصال (وأسهلها وأكثرها بساطة) الجماع الجنسي: دخول الذكر في فرج الأنثى، بكل ما يحمله ذلك من تواصل جسدي مباشر. كما أن الجنس كان يمنحه لحظات فردوسية يفقد فيها إحساسه بالحدود والهوية والإرادة ويمارس إحساساً بالخلود ويلتحم بالكون.
4 ـ وحينما ربط الإنسان بين العملية الجنسية والولادة (الحياة) وبين الرضاعة (استمرار الحياة)، اكتملت عنده مفردات الحلولية الكمونية الواحدية التي تؤكد الجسد باعتباره مصدراً للمعرفة والعلم والتكامل والتماسك. فالجسد هو الذي يحل محل فكرة الكل، ولذا فإن من الأفكار الأساسية في المنظومات الحلولية الكمونية فكرة تفاعل الماكروكوزم والميكروكوزم، أي تقابل العالم الكبير (الكون) بالعالم الصغير (جسد الإنسان) وتعادلهما (فالأول صورة مكبرة من الآخر). كما تؤكد مفردات الحلولية الجنس باعتباره مصدراً للحياة وطريقة للتواصل بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والقوى الكونية (مانحة الحياة). ولذا، فإنه ربط بين كل هذا وبين مفهوم الأرض، هذا الشيء الموضوعي الموجود خارجه. ولكنه، مع هذا، يحيطه من كل جانب (مثل الرحم) ويمنحه الحياة (مثل الثدي).
إن كل المفردات التي أشرنا إليها كامنة في تجارب الإنسان المباشرة الأولية للإنسان. كما أن استخدام الإنسان للجسد (والجنس والرحم وثدي الأم والأرض) كصورة مجازية إدراكية (تفيد معنى محو المسافة بين الذات وما هو أكبر منها وذوبانها فيه) هو أمر متوقع، بمعنى أن الإنسان في بدايته الجنينية وفي طفولته الأولى كان جزءاً من الطبيعـة. ومن هنا، فإن جـوانبه الطبيعية/المـادية تظل معه عبر حياته مهما بلغ من ربانية وتَجاوُز. ولهذا، فإن إدراك الإنسان للعالم من خلال المقولات المادية الجسدية اللصيقة بتجاربه المادية المباشرة الأولى، دون تجريد أو تجاوز ودون اجتهاد أو إجهاد، أمر طبيعي. فمن منا لا يدرك جسده ولا يعرفه؟ ومن منا لا يعرف الجوع والعطش والفرح والحزن الجسدي؟ ومن منا لا يعرف الأرض والجنس والرحم والرضاعة واللحظات الفردوسية الأولى؟ لكن أن نستخدم المقولات الأولية في تفسير الجوانب المادية البسيطة من حياتنا الإنسانية المركبة شيء، وأن نستخدمها في تفسير كل جوانب حياتنا الإنسانية شيء آخر. والمحاولة التفسيرية الحلولية الكمونية (بمفرداتها الجنينية الجسدية) تتسم ببدائيتها وسذاجتها وبالارتباط المتطرف بين النموذج والظاهرة إذ لا تكاد توجد أية مسافة بين النموذج والظاهرة وبين السبب والنتيجة وبين الدال والمدلول. وهي محاولة تستخدم المادة البسيطة لفهم ما ليس بمادة، فكل مفردات الحلولية الكمونية هي أشياء مادية لها صفات المادة، فهي مقولات إدراكية مادية، وهي تمثل محاولة المتناهي (المادي) القفز على التناهي وصولاً إلى حالة اللامتناهي، ولكنه يصر على العثور على اللامتناهي في المحسـوس والمتنـاهي، أي أنهـا تفترض كمون مركز العالم في المادة. ومن ثم، فهي محاولة تفسيرية مستحيلة تؤدي إلى اختزال الإنسان المركب (الرباني) القادر على التجاوز الذي يعيش في الثنائيات ويحوي داخله درجة من التركيب لا يمكن ردها إلى النظام الطبيعي (أي القبس الإلهي) بحيث يصير إنساناً طبيعياً مادياً ذا بُعد واحد لا يمكنه تجاوز ذاته أو تجاوز الطبيعة أو المرجعية الكمونية فيسقط في حمأة المادة ويعود إلى السيولة الرحمية والطبيعة/المادة.
وقد عبَّرت الحلولية الكمونية عن نفسها بشكل مباشر وواضح في الرؤى الوثنية للكون وقصة الخلق، فهذه الرؤى عادةً ما تستبعد فكرة خلق العالم من عدم (والتي تفترض وجود مسافة بين الخالق والمخلوق)، كما تستبعد فكرة الخلق المحدد في زمان ومكان بمشيئة إلهية ولغرض إلهي، وتستبدل بها نظريات تذهب إلى أن العالم نتيجة التقاء جنسي بين الآلهة (التي تمثل عناصر الطبيعة المادية) فتتزوج آلهة الأرض من آلهة السماء أو آلهة الشمـس من عنصـر في الأرض، أي أن الخـلق ليـس نتيجـة عملية تتم خارج المادة والطبيعة أو لغرض إلهي أخلاقي. وتكتسب الآلهة خصائص البشر (إذ لا توجد مسافة بينها وبينهم) فتحابي شعبها وتغار عليه، وقد تدخل معه علاقة جنسية أو شبه جنسية أو علاقة حب جنسي يعقبها زواج مقدَّس، أو تقيم علاقة تعاقدية خاصة جداً تُميِّز هذا الشعب عن بقية الشعوب وتمنحه مركزية في الكون (بل يُلاحَظ أن عبادة القضيب أو الرحم أو إلهة الخصب التي ترمز للرحم تنتشر في الحلوليات الكمونية الأكثر بدائية، فالقضيب يصبح هنا الدال والمدلول وأيقونة الحلولية الكبرى. كما أن الاحتفالات والشعائر الدينية الحلولية تأخذ عادةً طابعاً جنسياً، وفي عبادات المايا كان الطقس الأساسي هو أن يقوم الملك باستقطار بعض نقط الدم من قضيبه، وأثناء هذه العملية كان يرى الآلهة ويعرف إرادتها). هذا على عكس العبادات التوحيدية حيث يحتل الجنس مكانته كنشاط إنساني ضمن نشاطات إنسانية أخرى، مختلطاً بها وليس منفصلاً أو مستقلاً عنها، ومن ثم يكتسب الجنس مضموناً اجتماعياً مركباً، وبالتالي فهو لا يحتل أية مركزية ولا يصبح صورة مجازية إدراكية كبرى. وإذا كانت المنظومات الحلولية الكمونية ترى أن الإنسان يحقق ذاته من خلال إلغاء حدود كل شيء، فإن كثيراً من الحركات المشيحانية والباطنية تُلغي حدود الملكية الخاصة والجنس. ومن ثم، تظهر شيوعية الأرض والنساء (الرحم الطبيعي والرحم الإنساني)، الأمر الذي يُلغي أي تمايز أو هرمية وأية هويات إنسانية محددة. أما المنظومات التوحيدية فتؤكد فكرة الحدود، ومن ثم تؤكد فكرة العدل في توزيع الملكية وإدارتها دون إلغائها، وتؤكد فكرة الزواج والأسرة كمؤسسات مبنية على الاستقرار والطمأنينة والحب.
وحتى حينما ابتعد الإنسان البدائي الطبيعي عن الجسد (والجنس والثدي والرحم)، فإن هذا لم تَنتُج عنه أية مقدرة على التجاوز أو التجريد إذ أصبحت الأرض (بدلاً من الجسد) موضع تقديس الإنسان. فالمكان مباشر ومادي (على عكس الزمان، فهو غير مباشر وغير ملموس). ولذا، نجد أن العقل البدائي يتسم بإدراك عميق للمكان، أي الأرض، وإغفال شبه تام للزمان، وهي سمة يتصف بها أيضاً إدراك الطفل الذي يبدأ بالإحاطة بمفهوم المكان متدرجاً تدرجاً بالغ البطء إلى أن ينضج ويحيط بفكرة الزمان والتاريخ. ومن هنا، نجد أن العقل البدائي (الحسي المادي الوثني العاجز عن التجريد) قد ربط بين مفردات الحلولية الكمونية الجسد (الجنس ـ ثدي الأم ـ الرحم) من جهة وبين الأرض من جهة أخرى. فالأرض، مثل الجسد، هي أقرب الأسباب للنتائج وأكثرها التصاقاً بها، ولا توجد مسافة بينها وبين الإنسان. وهي كيان مادي يستطيع الإنسان أن يدركه بحواسه الخمس دون إعمال عقل أو جهد. وقد رأي هذا الإنسان البدائي المادي الوثني الديدان وهي تخرج من باطن الأرض والنباتات وهي تشقها وتُخرج براعم ثم زهوراً. والأرض، بهذا، في نظره المصدر المباشر للرزق، فمنها تأتي المحاصيل بل مواد البناء. وهو يرى الأرض وهي تُخْصب ثم تُقحل ثم تُخْصب عبر الفصول؛ مصدر حياتها وحيويتها من داخلها. والإنسان، أخيراً، يعود للأرض فيُدفَن فيها، فالأرض إذن هي البداية ومصدر الرزق والمأوى والنهاية أي أنها موضع الكمون، ولذا فإن الأرض هي الرحم النهائي والجسد الأعظم مصدر الحياة والخلق وهي الإله، فهي المصدر وإليها المآل.
وعادةً ما تدور العبادات الوثنية الحلولية حول تقديس الأرض المقدَّسة والدورة الكونية للطبيعة، وعادةً ما تُقرَن الأرض بفرج المرأة مصدر الحياة والخلق (ومن هنا تركيز الغنوصية على الجنس والمرأة). وتظهر فكرة الإله الحي أو المصلوب أو المذبوح الذي يُبعَث من جديد كل عام، وهي عملية ذبح وبعث تُفسِّر دورات الطبيعة، فكأن الإله جزء من الطبيعـة/المادة ودورتها لا يتجاوزها، يحـيا بحياتها ويمـوت بموتها، يُخْصب حينما تُخْصب الطبيعة ويُجدب تماماً بجدبها. والصورة المجازية: الجسد/الأرض/الجنس/الثدي/الرحم، تحاول أن تفرض قدراً من الوحدة على تعددية العالم وتنوُّعه وكثرته وأن تبين العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ولكن هذه الوحدة هي وحدة لا تتجاوز العالم المــادي (حتـى ولا جسـد الإنسـان) إذ أن مبـدأ الوحدة كامن فيه لا يتجاوزه ولا يعلو عليه.
والفلسفات المادية (التي تُعبِّر عن وحدة الوجود المادية)، وضمن ذلك العلمانية الشاملة (الحلولية الكمونية المادية)، تستخدم مفردات الحلولية الكمونية، وخصوصاً فيما يتعلق بتقديس الجنس والأرض. ولعل فكر ما بعد الحداثة، باسـتخدامه الأعضاء التناسـلية كصورة مجازية إدراكية أساسـية، يُشـكِّل عودة للحلوليات الوثنية وعبادة القضيب والرحم.
صيغ مختلفة للتعبير عن العلمانية الشاملة (وحدة الوجود المادية والحلولية الكمونية المادية)
تلخص التعبيرات القرآنية: "إن هي إلا حياتنا الدنيا" (الأنعام 292 ـ المؤمنون 37)، و"ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت وتحيا" (الجاثية 24) الموقف الحلولي الكموني الواحدي المادي أو العلمانية الشاملة ببساطة وبلاغة. فالمرجعية الوحيدة هي الدنيا وعالم الحواس الخمسة والعقل المادي الذي يتواصل مع العالم المادي من خلال الحواس الخمس.
ولكن الخطاب العلماني لا يعبِّر عن العلمانية الشاملة والحلولية الكمونية بهذه البساطة. ولعل الصيغة الهيجلية في الحديث عن اتحاد المقدَّس بالزمني والفكرة بالطبيعة والإله بالتاريخ... إلخ من أكثر الصيغ تركيباً وأكثرها شيوعاً للتعبير عن الحلولية الكمونية والواحدية المادية/الروحية. وهناك صياغات أخرى أقل تركيباً من الصيغة الهيجلية وأكثر بساطة وأصبحت جزءاً من خطابنا التحليلي دون أن ندرك النموذج (الواحدي المادي) الكامن وراءها. وقد قمنا بتحليل مصطلحات مثل: «وحدة (أي واحدية) العلوم» و«الإنسان الطبيعي» و«نهاية التاريخ» في مداخل أخرى لنبين أنها تعبِّر عن نموذج العلمانية الشاملة، ويمكن أن نورد فيما يلي بعض المصطلحات الأخرى الشائعة ذات البُعد الواحدي المادي:
- يتحدث البعض عن أن "ما يحكم العالم هو قوانين الحركة أو قوانين التغير أو قوانين الضرورة الطبيعية"، ومثل هذا القول يصدر عن الإيمان بوجود جوهر واحد يتبعه كل شيء وتذعن له كل الظواهر وأن القوانين كامنة في المادة غير مفارقة لها.
- إن قلنا "لا يستطيع الإنسان تَجاوُز حدود المادة" أو "حدود الطبيعة" أو "حدود جسده"، فنحن نتحدث في إطار حلولي كموني واحدي مادي، ينكر وجود أية آفاق مفارقة للمعطيات المادية، وهي وحدها تحوي كل ما يلزم لفهم العالم.
- إن قلنا "لابد من القضاء على الثنائيات" فنحن نقول "لابد من سيادة الواحدية المادية والقانون الواحد الكامن في الأشياء، فنحن لا نعرف قانونين؛ واحد للأشياء وواحد للإنسان"، أي أننا نرى أن ثمة جوهراً واحداً وقانوناً واحداً كامناً.
- إن استخدم أحد مثل هذه العبارة: "إن النموذج الذي استخدمه هو نموذج اقتصادي محض" فقد َعبَّر بشكل مصقول عن الحلولية الكمونية المادية والواحدية المادية، فهو يقول في واقع الأمر إن النموذج الذي يستخدمه قد استبعد من الظاهرة التي يدرسها كل العناصر الإنسانية غير الاقتصادية، وأبقى على عنصر واحد هو العنصر الاقتصادي (المادي) وفسَّر الإنسـان في إطـاره ونظر إليه باعتباره ظاهرة بسـيطة، إنساناً ذا بُعد واحد يسري عليه ما يسري على الظواهر الطبيعية، فهو شيء بين الأشياء يمكن دراسته في إطار دوافعه الاقتصادية، ومن ثم يمكن رصده من خلال نماذج اقتصادية رياضية محضة، دون الإهابة بأي شيء متجاوز للمادة (الاقتصادية) المحضة. وقل نفس الشيء عمن يستخدم نموذجاً فرويدياً محضاً (يؤكد الواحدية المادية الجنسية بدلاً من الواحدية المادية الاقتصادية).
- وقد تزداد الأمور صقلاً، فيضطر الحلول الكموني المادي إلى أن يتحدث عن قدر من التجاوز لسطح المادة وعن استقلالية الوعي الإنساني وعن البناء الفوقي المستقل عن البناء التحتي وهكذا. ولكن الحلولية الكمونية الواحدية تفرض نفسها لتؤكد أن مُستقَر الحقيقة هو القانون الكامن في المادة فيضطرون إلى القول بأن الوعي الإنساني، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، يمكن رده إلى حركة المادة، وأن البناء الفوقي ليس ظاهرة مستقلة (بالإنجليزية: فينومينون phenomenon) وإنما هو ظاهر تابعة وحسب (بالإنجليزية: إبي فينومينون epiphenomenon)، ولذا فإن البناء التحتي (المادي) هو ما يحدد حركة وشكل وبنية البناء الفوقي ويتحكم فيه.
- في هذا الإطار أيضاً يمكن فهم عبارة مثل "إن الإنسان يصوغ ذاته أثناء صراعه مع الطبيعة/المادة"، فوعيه ـ حسب هذه الصياغة ـ يتشكل ويزداد تركيباً (هكذا، بشكل آلي مادي يُقال له «جدلي» من داخل عملية الصراع مع الطبيعة نفسها وبسبب تكرارها)، فتتراكم المعرفة وربما ذرات الوعي الإنساني، وبدلاً من الحديث عن لحظة الخلق الفارقة يتحدثون عن "الطفرة" وعن "تحوُّل الكم إلى كيف" وهكذا، وهي عبارات أقل ما توصف به أنها غامضة جداً، مجرد أسماء ذات رنين علمي لعملية غير مفهومة. ولكن ما يهم فيها من منظور هذا المدخل أنها تؤكد كمونية القوى التي تُحدث التغيير وتنكر وجود أية قوى خارجية مفارقة. فالإنسان يصوغ نفسه بنفسه من خلال صراعه مع مادة أولية (الجوهر المادي الواحد) وفي إطارها، تماماً كما يخلق الإله العالم من مادة قديمة في النظريات الحلولية الكمونية الواحدية الروحية.
- وحينما يظهر نظام وتناسق في الكون قد يفصح عن وجود مُنظِّم خارجي مفارق وعن غائية، فإنهم يحاولون اسـتيعابه في الحلولية الكمونية الواحدية المادية، بحيث يصبــح النظام كامناً في المادة فيتحدثون عن "المادة ذاتية التنظيم" أو "المادة رفيعة التنظيم".
- النظرية الداروينية نظرية حلولية كمونية واحدية مادية، لا تقبل سـوى قوانين التطور الكامنة في المادة لتفسـير الظواهـر كافة.
- وقول الداروينيين (والنيتشويين والماركسيين) "بأن الصراع بين الأنواع أو الأجناس أو الطبقات هو المحرك الوحيد أو الأساسي للسلوك الإنساني" هو القول بأن ثمة مبدأ واحداً كامناً في البشر وفي الطبيعة/المادة يحركهم ويتحكم فيه في حتمية كاملة.
- المبدأ الواحد يمكن أن يتجلى من خلال التاريخ فيُقال "إن مسار التاريخ أثبت كذا..." أو "هذا هو حكم التاريخ" أو "لابد أن تواكب حركة التاريخ والتقدم وإلا اكتُسحت تماماً وأُلقي بك في مزبلة التاريخ" فهذه كلها صياغـات ترى أن التـاريخ هو موضع الكـمون، وهو التعبير عن الجـوهر الواحد الذي ينتظم كل الكائنات ويحركها.
- النظرية العنصرية والنظريات التفسيرية العرْقية نظريات حلولية كمونية مادية، فهي تجد أن ثمة عنصراً مادياً واحداً، العرْق، هو الذي يمكن من خلاله تفسير تَطوُّر التاريخ. والصفات العرْقية صفات مادية كامنة في الإنسان.
- الحديث عن "زمانية كل شيء" و"زمانية النص" و"تاريخانية الظواهر الإنسانية كافة" هو القول بأن كل شيء يوجد داخل الزمان لا يتجاوزه، فالزمان هو مُستقَر كل شيء، كل المعرفة كامنة فيه، ولا يوجد شيء خارجه، فهو المبدأ المادي الواحد الذي يتخلل كل الأشياء ويدفعها.
- نحن نرى أن هيمنة الصورة المجازية العضوية على التفكير الغربي مظهر من مظاهر الحلولية الكمونية الواحدية المادية، فالصورة المجازية العضوية صورة مجازية تَجسُّدية حلولية تدور حول المبدأ الواحد الكامن لا المتجاوز، فالكائن العضوي تُوجَد في داخله قوة نموه وفنائه ولا يُدفَع من الخارج. واستخدام الجسد والجنس كصور مجازية أساسية هو محاولة لاستخدام صور مجازية إدراكية تنقل العالم في ماديته وشيئيته الكاملة، دون أي شيء متجاوز له، فالجسد، مثل العالم المادي، هو موضع الحلول والكمون.
- وتتضح الحلولية الكمونية في مفهوم الشعب العضوي (فولك). فالشعب العضوي هو شعب تربطه علاقة عضوية بأرضـه وثقافته، يكونون كلاًّ متلاحماً فلا يوجد للشعب وجود خارج أرضه ولا يمكن أن يؤسـس ثقافته بدون وجوده عليها. وثقافة هذا الشعب تعبير عضوي عن روح هذا الشعب النابعة من خصوصيته والتصاقه بأرضه. وهكذا، فكل شيء كامن داخل الشعب في كيان عضوي مصمت لا يستطيع الأجنبي أن يخترقه أو حتى يفهمه. ولذا، تدور معظم الأيديولوجيات العنصرية (الصهيونية ـ النازية ـ القوميات المتطرفة) حول صورة مجازية عضوية، وهي أيديولوجيات حلولية كمونية مادية.
- وقول البنيويين إن العالم لا يُوجَد خارج مجموعة من البنى، وأن قوانين البنية كامنة فيها، محايثة لها، هو القول بأن ثمة مبدأ واحداً ذا مقدرة تفسيرية كبرى هو مبدأ مادي واحدي في نهاية الأمر، فالبنية تتسم بالوحدة الصارمة (رغم كل ما تحويه من ثنائيات متعارضة). وهي توجد في في هذ العالم لا تتجاوزه.
- وقول أنصار ما بعد الحداثة، والسوفسطائيين من قَبْلهم، بالصيرورة الكاملة، هو القول بأن المبدأ المادي الواحد يأخذ شكل صيرورة مطلقة تسقط في قبضتها الأشياء كافة، ولا تملك الإفلات منها. وهذا يعني في واقع الأمر تَحوُّل الإله/الصيرورة (إله هيجل، مقابل الإله/الطبيعة، إله إسبينوزا) إلى صيرورة وحسـب ويفقـد ألوهيته، أي أنها تعميق للكمونية وإنكار لأي تَجاوُز حتى لو كان لفظياً.
- تظهر الحلولية الكمونية الواحدية المادية في إصرار أنصار ما بعد الحداثة على إنكار أصل الإنسان الرباني، فيتحدث دريدا عن "وعي إنساني كامل بدون أساس إلهي، بل بدون أساس إنساني"، لأن الأساس الإنساني يعني قدراً من الانفصال عن الطبيعة/ المادة بحيث لا يوجد سوى جوهر مادي واحد. ومن هنا حديث رورتي عن عالم لا يَعبُد فيه الإنسان شيئاً، لا إلهاً ولا ذاته، عالم تُنزَع فيه القداسة عن كل شيء لأنه لا يوجد سوى جوهر مادي، فلا مجال للحيز الإنساني المستقل.
- وقول أنصار ما بعد الحداثة (الذي قد يبدو وكأنه لا معنى له) "لا يوجد شيء خارج النص" يمكن فهمه في إطار الصيرورة الكاملة. فالمبدأ المادي الواحد هنا هو الصيرورة الكاملة بدون إله، لعب اللغة وتراقص الدوال، والمعنى لا يُوجَد خارجهما، ومن ثم فالنص هو نفسه صيرورة بدون إله أو مركز، ومن يريد أن يعرف معناه فليدخل في دوامته، وهو إن دخل فلن يخرج، إذ لا يُوجَد شيء خارج النص، فالمعنى كامن فيه، وهو، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، بلا معنى ثابت أو نهائي.
وفي محاولتنا تطـوير خطـاب تحليلي يصل إلى هـذه الواحدية الصارمة وإلى فكرة الجوهر المادي الواحد ويعبِّر عنها، نستخدم بعض العبارات والمصطلحات التي تُعبِّر بأشكال مختلفة عن فكرة الكمون والحلول والواحدية المادية. وهذه المصطلحات والعبارات ليست من نحتنا أو صياغتنا تماماً، فهي جزء من الخطاب التحليلي الفلسفي العام في الغرب الذي يتسم كما أسلفنا بالهيجلية، وما نفعله نحن هو أننا نُبيِّن أبعادها الكلية والنهائية وعلاقتها بالتفكير الحلولي الكموني المادي، وفيما يلي بعض هذه العبارات:
- يمكن أن يُشار إلى المبدأ الواحد، سواء كان متجاوزاً للطبيعة أو كامناً فيها، بأنه «المطلق»، فيقال تعبيراً عن الحلوليـة: "حَلَّ المطلق في النسبي وأصبح كامناً فيه وامتزجا تماماً وأصبحا كلاًّ واحداً".
- ويمكن أن يُشـار إلى المبدأ الواحد بأنه «المقدَّس»، فيُقــال تعبيراً عن الحلولية: "امتزج المقدَّس بالزمني أو الدنيوي"، كما يمكن أن نقول: "لقد أصبح كل شيء مفعماً بالقداسة فتَسَاوَى المقدَّس والزمني وأصبحا كلاًّ عضوياً واحداً، وتساوت الأشياء وتمت تسويتها".
- ويمكــن أن يُشـار إلى المبــدأ الواحـد بأنــه «الكــل»، فيُقــال تعبيراً عن الحلولية الكمونية الواحدية: "استــوعب الكــل الأجــزاء بحيـث أصبـح هنـاك كلٌّ واحد وحسب" كما يُقال "الكل لا يوجد إلا في الأجزاء".
- كما يمكن أن يُشار إلى المبدأ الواحد بالمركز، فيُقال: "حل المركز في العالم وأصبح كامناً فيه بحيث أصبح هناك كل عضوي". على عكس النماذج التوحيدية حيث يظل المطلق منفصلاً عن النسبي، والمقدس منفصلاً عن الزمني، والكل عن الجزء، ويظل المركز مفارقاً للعالم فتظل هناك ثنائية فضفاضة، وتظل هناك مسافة بين الخالق والمخلوق هي في جوهرها الحيز الإنساني الذي يؤدي إلى ظهور كل متكامل فضفاض بشكل غير عضوي لا كل متلاحم بشكل عضوي، يتساوى داخله الإنسان بالأشياء وتهيمن الواحدية المادية.
شحوب الإله
«شحوب الإله» مصطلح قمنا بصياغته (على غرار مصطلح نيتشه «موت الإله») لنصف إحدى مراحل الحلولية الكمونية ومستوى من مستويات العلمنة والانتقال من المرجعية المتجاوزة إلى المرجعية الكامنة. وهي مرحلة يحل فيها الإله في الإنسان أو في الطبيعة أو في كليهما معاً ويوشك أن يتوحد بهما دون أن يفعل.ولكنه مع هذا يفقد كثيراً من تجاوزه وربما لا يبقى منه سوى الاسم بحلوله في الكون. كما يمكن أن يحدث العكس، وهو أن يخلق الإله العالم ثم ينسحب منه ويتركه وشأنه، ويحتفظ الإله باسمه ولكنه يفقد فاعليته نتيجة ابتعاده عن الكون وانفصاله عنه. وسواء حل الإله في العالم أو انسحب منه، فإنه يتم تهميشه، ومن ثم فإن الغرض والغاية في العالم يختفيان تقريباً. وبعض المنظومات العلمانية الجزئية (الربوبية على سبيل المثال) تقف عند مرحلة شحوب الإله دون أن تَعبُر الخط إلى مرحلة موت الإله. فالربوبية والماسونية والموحدانية كلها تعبِّر عن فكرة شحوب الإله.
ظلال الإله
أشار نيتشه إلى ما سماه «ظلال الإله» وهي بعض الأفكارالكلية و المطلقة التي استمر وجودها حتى بعد ظهور الرؤية العلمية المادية وانتشارها. ومن أهم تبديات ظلال الإله فكرة الكل والحقيقة والثنائيات الأخلاقية والسببية والغائية وفكرة الإنسان نفسه كذات مستقلة عن الطبيعة/المادة. ورغم أنها مجرد ظلال إلا أنها تصبح بمنزلة مركز للعالم وتمنحه قدراً من الصلابة. وطالب نيتشه بضرورة تطهير العالم تماماً من ظلال الإله هذه حتى يصبح العالم عالماً سائلاً لا مركز له. وعالم ما بعد الحداثة هو العالم الذي تم تطهيره تماماً من كل ظلال الإله، فأصبح عالماً بلا مركز، مادة محضة سائلة. واختفت الذات الإنسانية وكل أوهام الإنسانية الهيومانية الغربية، كما اختفى الموضوع الثابت ذو الحدود الواضحة.
موت الإله
«موت الإله» مصطلح يعني أن القوة الخالقة للعالم المتجاوزة له قد اختفت وفَقَد الإله اسمه، وهو ما يعني الاختفاء الكامل للمرجعية المتجاوزة وظهور المرجعية الكامنة. عندئذ يُسمَّى المبدأ الواحد، مصدر وحدة العالم وتماسكه، «الطبيعة/المادة» أو التنويعات المختلفة عليه. وحين يتم ذلك تتحوَّل وحدة الوجود الروحية إلى وحدة وجود مادية. ونحن نُعبِّر عن هذا بقولنا إن الإله يحل في المادة ويتوحد بها ولا يصبح له وجود، فلحظة الوحدة الكاملة للوجود والواحدية المادية (اللحظة النماذجية العلمانية) هي أيضاًَ لحظة فقدان الإله لتجاوزه واسمه، أي موته. ويصبح مركز الكون كامناً فيه، ويصبح الكون (الإنسان والطبيعة) مكوَّناً من مادة واحدة ويختفي الغرض والغاية تماماً ويموت الإنسان، أي يختفي كمقولة مستقلة عن النظام الطبيعي/المادي. وعبارة «موت الإله» عند نيتشه (صاحب العبارة) تعني غياب فكرة الكل التي تشكل أساس الأنطولوجيا الغربية.
ولو أردنا التعبير عن هذه الفكرة بالمصطلح الإسلامي لقلنا «نسيان الإله» بدلاً من «موت الإله»، وذلك انطلاقاً من الآية "نسوا الله فأنساهم أنفسهم" (الحشر/19). وهي تعني وجود الإنسان ككيان مستقل عن الطبيعة يحقق قدراً من التجاوز لها بسبب علاقته بالإله المتجاوز. فإن نسى الإنسان الله وظن أنه غير موجود، نسي نفسه وجوهره الإنساني المتجاوز ومركزيته في الطبيعة وما يُميِّزه كإنسان ونسي أنه إنسان إنسان، إنسان غير طبيعي مُستخلَف من إله عليٍّ قدير مجاوز للطبيعة والمادة.
الجزء الرابع: العلمانية الشاملة
الباب الأول: إشـكالية تعريف العلمانية
العلمانية: إشكالية التعريف
من أهم المصطلحات في الخطاب التحليلي الاجتماعي والسياسي والفلسفي الحديث في الشرق والغرب مصطلح «العلمانية». ويظن كثير من الناس أن مصطلحاً مهماً بهذه الدرجة لابد أن يكون واضحاً تمام الوضوح، محدد المعاني والمعالم والأبعاد. وهذا أمر بعيد كل البُعد عن الواقع. وسنحاول في مداخل هذا الباب أن نبيِّن بعض الأسباب والإشكاليات التي أدَّت إلى هذا الوضع، وسنتناول كل إشكالية في مدخل مستقل.
1 ـ إشكالية العلمانيتين: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة.
2 ـ شيوع تعريف العلمانية باعتبارها «فصل الدين عن الدولة»، وهو ما سطَّح القضية تماماً، وقلَّص نطاقها.
3 ـ تصوُّر أن العلمانية «مجموعة أفكار وممارسات واضحة» الأمر الذي أدَّى إلى إهمال عمليات العلمنة الكامنة والبنيوية.
4 ـ تصوُّر العلمانية باعتبارها فكرة ثابتة لا متتالية نماذجية آخذة في التحقق.
ثم سنتناول، في باب مستقل، إشكالية اختلاط مصطلح «علمانية» في الشرق والغرب والمفاهيم الكامنة وراءه.
إشكالية العلمانيتين: علمانية جزئية وعلمانية شاملة
لعل من أهم الأسباب التي أدَّت إلى اختلال مصطلح «علمانية» ما نسميه «إشكالية العلمانيتين». وجوهر هذه الإشـكالية أن مصطـلح «علمانية» (سواء في الخطاب التحليلي الغربي أم العربي) يشير في واقع الأمر إلى أكثر من مدلول. ويمكننا تَخيُّل مُتصل من المدلولات في أقصى أطرافه ما نسميه «العلمانية الجزئية»، وفي الطرف الآخر ما نسميه «العلمانية الشاملة» وتتمازج المدلولات فيما بينها وتختلط وتتشابك وتتشابه وتتصارع.
1 ـ العلمانية الجزئية: هي رؤية جزئية للواقع (برجماتية ـ إجرائية) لا تتعامل مع الأبعاد الكلية والنهائية (المعرفية) ومن ثم لا تتسم بالشمول. وتذهب هذه الرؤية إلى وجوب فصل الدين عن عالم السياسة وربما الاقتصاد، وهو ما يُعبَّر عنه بعبارة «فصل الدين عن الدولة». ومثل هذه الرؤية الجزئية تَلزَم الصمت بشأن المجالات الأخرى من الحياة. كما أنها لا تنكر وجود مطلقات وكليات أخلاقية وإنسانية وربما دينية أو وجود ماورائيات وميتافيزيقا. ولذا لا تتفرع عنها منظومات معرفية أو أخلاقية. كما أنها رؤية محددة للإنسان، إلا أنها تراه إنساناً طبيعياً مادياً في بعض جوانب من حياته (رقعة الحياة العامة) وحسب، وتَلزَم الصمت فيما يتصل بالجوانب الأخرى من حياته. ويمكن تسمية العلمانية الجزئية «العلمانية الأخلاقية» أو «العلمانية الإنسانية».
2 ـ العلمانية الشاملة: رؤية شاملة للواقع ذات بُعد معرفي (كليّ ونهائي) تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة. فإما أن تُنكر وجودها تماماً في أسوأ حال، أو تهمِّشها في أحسنه، وترى العالم باعتباره مادياً زمانياً كل ما فيه في حالة حركة ومن ثم فهو نسبي. ويتفرع عن هذه الرؤية منظومات معرفية (الحواس والواقع المادي مصدر المعرفة) وأخلاقية (المعرفة المادية المصدر الوحيد للأخلاق) وتاريخية (التاريخ يتبع مساراً واحداً وإن اتبع مسارات مختلفة فإنه سيؤدي في نهاية الأمر إلى نفس النقطة النهائية) ورؤية للإنسان (الإنسان ليس سوى مادة، فهو إنسان طبيعي/مادي) والطبيعة (الطبيعة هي الأخرى مادة في حالة حركة دائمة). كل هذا يعني أن كل الأمور في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير تاريخانية زمنية نسبية. ويمكن تسمية العلمانية الشاملة «العلمانية الطبيعية/المادية» أو «العلمانية العدمية».
والتعريف الأول هو التعريف الشائع بين معظم الناس والدارسين وهو الذي على أساسه يتصورون أنهم يديرون حياتهم. ولا يتبنَّى التعريف الثاني سوى بعض الفلاسفة والمتخصصين. ومع هذا، يختلط التعريفان دائماً ويتشابكان، فتظهر تعريفات متنوعة مختلفة في درجات شمولها وجزئيتها، ويُشار لها جميعاً بكلمة «علمانية» دون تحديد أو تمييز. وهذا هو جوهر إشكالية العلمانيتين.
إشكالية تعريف العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة
»فصل الدين عن الدولة» ترجمة للعبارة الإنجليزية «سيباريشن أوف تشيرش آند ستيت separation of church and state»، وهي أكثر تعريفات العلمانية شيوعاً في العالم، سواء في الغرب أو في الشرق. وهي عبارة تعني حرفياً «فصل المؤسسات الدينية (الكنيسة) عن المؤسسات السياسية (الدولة)». والعبارة تحصر عمليات العلمنة في المجال السياسي وربما الاقتصادي أيضاً (رقعة الحياة العامة) وتَستبعد شتى النشاطات الإنسانية الأخرى، أي أنها تشير إلى العلمانية الجزئية وحسب.
ونحن نذهـب إلى أن ثمة فـصلاً حتـمياً نسـبياً للـدين والكهنوت عن الدولة في كل المجتمعات الإنسانية تقريباً، إلا في بعض المجتمعات الموغلة في البساطة والبدائية حيث نجد أن رئيس القبيلة هو النبي والساحر والكاهن (وأحياناً سليل الآلهة) وأن طقوس الحياة اليومية طقوس دينية كما هو الحال في العبادة اليسرائيلية قبل ظهور العبادة القربانية المركزية. أما في المجتمعات الأكثر تركيباً، فإن التمايز يبدأ في البروز. وحتى في الإمبراطوريات الوثنية التي يحكمها ملك متأله، فإن ثمة تمايزاً بين الملك المتأله وكبير الكهنة وقائد الجيوش! فالمؤسسة الدينية لا يمكن أن تتوحد بالمؤسسة السياسية في أي تركيب سياسي حضاري مركب، تماماً مثلما يستحيل أن تتوحد مؤسسة الشرطة الخاصة بالأمن الداخلي بمؤسسة الجيش الموكل إليها الأمن الخارجي، ولا أن تتوحد المؤسسة التعليمية بالمؤسسة الدينية. وفي العصور الوسطى المسيحية، كانت هناك سلطة دينية (الكنيسة) وأخرى زمنية (النظام الإقطاعي). بل داخل الكنيسة نفسها، كان هناك من ينشغل بأمور الدين وحسب ومن ينشغل بأمور الدنيا.
وحينما قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، فهو في واقع الأمر يقرر مثل هذا التمايز المؤسسي (فالقطاع الزراعي، حيث يمكن أن يؤبر المرء أو لا يؤبر حسب مقدار معرفته العلمية الدنيوية وحسب ما يمليه عليه عقله وتقديره للملابسات، متحرر في بعض جوانبه من المطلقات الأخلاقية والدينية). بل إن الجهاد نفسه ينطوي على مثل هذه الجوانب. قال ابن إسحق: "فخرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يبادره إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به". قال ابن إسحق: "فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن منذر بن الجموح قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل.. أمنزلاً أنزلكه الله ليـس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يارسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فامض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوِّر ماءه من القُلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون". فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "لقد أشرت بالرأي".
وثمة تمييز هنا بين الوحي (الذي لا يمكن الحوار بشأنه) وبين الحرب والخديعة (أي آليات إدارة المعركة العسكرية التي تخضع لإدراك ملابسات اللحظة)، أي أن ثمة تمايزاً بين المؤسسة الدينية والمؤسسة العسكرية (ومما له أعمق الدلالة أن المسلمين كسبوا هذه المعركة). ومع تَزايُد تركيبية الدولة الإسلامية (مع الفتوحات والمواجهات)، تزايد التمايز بين المؤسسات وتَزايَد الفصل بينها. وغني عن القول أن الكهنوت (من منظور النموذج الإسلامي) لا يمكنه أن يلعب دوراً أساسياً، فعملية التفسير هي عملية اجتهادية وباب الاجتهاد مفتوح أمام الجميع ولا عصمة لبشر.
ومن ثم، فإن فصل المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة عملية ليست مقصورة على المجتمعات العلمانية بأية حال وإنما هي عملية موجودة في معظم المجتمعات المركبة بشكل من الأشكال. ولذا، يتحدث بعض أصحاب هذا التعريف عن غياب التَعارُض في واقع الأمر بين العلمانية والتدين وأن بإمكانهما التعايش معاً. وهو أمر ممكن بالفعل إذا كان المعنى هو مجرد تمايز المجال السياسي عن المجال الديني وإبعاد رجال الدين والكهنوت عن مؤسـسات صنع القرار السـياسي. وأعتقد أن كثيراً ممن يتصورون أنهم أعداء للعلمانية سيقبلون هذا الفصل أو التمايز، إذا ما تأكدوا أن القيمة الحاكمة والمرجعية النهائية للمجتمع (وضمن ذلك مؤسسات صنع القرار) هي القيمة المطلقة (أخلاقية ـ إنسانية ـ دينية) وليس صالح الدولة أو المصالح الاقتصادية أو أية معايير نسبية أخرى، أي أن من الممكن أن يقبلوا بعلمنة المجال السياسي طالما كانت المرجعية النهائية مرجعية متجاوزة للدنيا وللرؤية النفعية المادية التي تجعل الطبيعة/المادة المرجعية الوحيدة.
ولكن هذه العلمانية الجزئية (المرتبطة بالمراحل الأولى لتطور العلمانية الغربية) تراجعت وهُمِّشت إذ تصاعدت معدلات العلمنة بحيث تجاوزت مجالات الاقتصاد والسياسة والأيديولوجيا وأصبحت العلمنة ظاهرة اجتماعية كاسحة، وتحولاً بنيوياً عميقاً يتجاوز عملية فصل الدين عن الدولة وعملية التنظيم الاجتماعي (الرأسمالي والاشتراكي) ويتجاوز أية تعريفات معجمية وأية تصورات فكرية قاصرة محدودة، فلم تَعُد هناك رقعة للحياة العامة مستقلة عن الحياة الخاصة. فالدولة العلمانية والمؤسسات التربوية والترفيهية والإعلامية وصلت إلى وجدان الإنسان وتغلغلت في أحلامه ووجهت سلوكه وعلاقته بأعضاء أسرته النووية، ولم يعد من الممكن الحديث عن فصل هذا عن ذاك. بل إننا يمكننا أن نتحدث لا عن «فصل الدين عن الدولة» وإنما عن «هيمنة الدولة على الدين».
ومن ثم أصبحت المقدرة التفسيرية والتصنيفية لنموذج العلمانية الجزئية ضعيفة إلى أبعد حد وأصبح مصطلح علمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة دالاً يقصر عن الإحاطة بمدلوله أي ظاهرة العلمانية في شمولها وتركيبيتها. ومع هذا تم الاحتفاظ به واستمر شيوعه حتى بعد ظهور بعض التعريفات الأخرى الأكثر شمولاً. ولذا اكتسب مصطلح (العلمانية) خاصية جيولوجية تراكمية فحين يظهر تعريف جديد يُضاف إلى التعريفات السابقة ويستمر إلى جوارها دون أن يحاول أحد صياغة كل التعريفات في نموذج واحد شامل ومركب له مقدرة تفسيرية عالية. وقد أدَّى هذا إلى أن الحوار بشأن العلمانية أصبح مُشوَشاً بل مستحيلاً إذ يستخدم المتحاورون نفس المصطلح (علمانية) ولكن كل واحد منهم يُسقط عليه معنى مختلفاً ويراه في إطار مرجعية مختلفة.
إشكالية تعريف العلمانية باعتبارها مجموعة أفكار وممارسات ومخططات واضحة محددة
يتصوَّر البعض أن عمليات العلمنة عمليات اجتماعية وسياسية وفكرية، وأنها تتم من خلال مخطط ثقافي مسبق ومن خلال آليات وممارسات واضحة (مثل نقل الأفكار وإشاعة الإباحية والذهاب إلى الشواطئ العرايا) يمكن تحديدها ببساطة ويمكن تبنيها أو رفضها بشكل واع.،مثل هؤلاء عادةً ما يتصورون أن التدين هو الآخر مجموعة من الممارسات البسيطة الواضحة (مثل الذهاب إلى المسجد والصوم). وبالتالي فإن إشاعة العلمنة يعني (من هذا المنظور) إصدار تشريعات سياسية معينة والحض على أفكار بعينها، وهكذا. وللتحقق من معدلات العلمنة (والتدين) في مجتمع ما، فإن الباحث الذي يؤمن بمثل هذه الرؤية يتناول عمليات العلمنة الواضحة وآلياتها المباشرة ويبحث عن المؤشرات المحسوسة الظاهرة، فإن وجدها صنَّف المجتمع باعتباره مجتمعاً علمانياً وإن لم يجدها فهو مجتمع إيماني.
ومن نفس المنظور الاختزالي تُناقَش العلمانية في إطار نقل الأفكار والتأثير والتأثر، فيُنظر إلى العلمانية على أنها مجموعة من الأفكـار الغربية صاغها بعـض المفكرين الغربيين، وقام بعض الناس بتطبيقها، ثم قلدهم البعض الآخـر، ثم اتسع نطاق التقليد والممارسات تدريجياً وانتشرت العلمانية.
وفي العالم العربي يسود تصوُّر مفاده أن بعض المفكرين العرب (وخصوصاً مسيحيي الشام) قام "بنقل" الأفكار العلمانية الغربية وأنهم "تسببوا" بذلك في نشر العلمانية في بلادنا. بل يذهب البعض إلى أن عملية نقل وتطبيق الأفكار العلمانية تتم من خلال مخطط محكم (أو ربما مؤامرة عالمية يُقال لها أحياناً «صليبية» أو «يهودية» أو «غربية»). ويذهب دعاة هذه الرؤية إلى أن الأفكار العلمانية ظهرت في أوربا المسيحية بسبب طبيعة المسيحية باعتبارها عقيدة تفصل الدين عن الدولة، وبسبب فساد الكنيسة وسطوتها ولولا فساد الكنيسة لما ظهرت العلمانية. فالعلمانية من ثم ظاهرة مسيحية مرتبطة ارتباطاً كاملاً بالغرب المسيحي، لا علاقة للإسلام والمسلمين بها. ولذا تصبح مهمة من يود الحرب ضد العلمانية هي البحث عن الأفكار العلمانية والممارسات العلمانية (الواضحة) وعن القنوات التي يتم من خلالها نقل الأفكار والانغماس في الممارسات العلمانية. ومهمة من يبغى الإصلاح هي ببساطة استئصال شأفة هذه الأفكار والممارسات، يساعده في هذا البوليس السري والمخابرات العامة.
ولا يمكن أن نقلل أهمية الأفكار والممارسات العلمانية الواضحة، فهي تساعد ولا شك على تَقبُّل الناس للمُثُل العلمانية، وخصوصاً إذا أشرف على عملية نقل الأفكار وفرض الممارسات مؤسسة ضخمة مثل الدولة المركزية. ولكن مع هذا يظل تَصوُّر العلمانية باعتبارها مجموعة أفكار وممارسات واضحة تصوراً ساذجاً، ويشكل اختزالاً وتبسيطاً لظاهرة العلمانية وتاريخها، وللظواهر الاجتماعية على وجه العموم.
وهذه الرؤية تتجاهل بعض الحقائق البديهية والبسيطة:
1 ـ النماذج الطبيعية/المادية موجودة بشكل كامن في أي مجتمع بشري، ومكوِّن ضروري وأساسي في الوجود الإنساني. وعلى المستوى الفكري، يمكن القول بأن الأفكار العلمانية كامنة في أي مجتمع على وجه الأرض (ومنها المجتمعات الإسلامية بطبيعة الحال)، فإغراء التفسيرات المادية والنزعة الجنينية التي تُعبِّر عن نفسها في الرغبة في التحـكم الكامـل وفي التخلي عن الحـدود وعن المسئولية الخُلقية جزء من النزعة العامة الموجودة في النفس البشرية. وهي نزعة تُعبِّر عن نفسها في النزوع نحو الحلولية الكمونية الواحدية. وهذا يعني أن الاتجاه نحو العلمنة والواحدية المادية إمكانية كامنة في إنسانيتنا المشتركة، ومن ثم في المجتمعات الإسلامية، التي تُوجَد فيها نزعات حلولية كمونية واحدية متطرفة، وفي أي مجتمع إنساني.
2 ـ أية جماعة إنسانية، مهما بلغ تدينها وتَمسُّكها بأهداب دينها (وضمن ذلك الأمة الإسلامية) لابد أن تتعامل في كثير من الأحيان مع الزمان والمكان والطبيعة والجسد من خلال إجراءات زمنية صارمة دون أي تجاوز. فعملية بناء بيت عبادة يتطلب اختيار عمال يتسمون بالكفاءة في أدائهم المهني، ونحن لا ننظر كثيراً في أدائهم الأخلاقي أو في معتقداتهم الدينية إلا بمقـدار تأثير هذا في أدائهم المهني، أي أن عملية اختيار العمال تخضع لمعايير زمنيـة. ومع هذا، يظل الهدف النهائي من عملية بناء بيت العبادة إقامة الشعائر وليس الربح المادي، فالبناء وسيلة وليس غاية. وعناصر العلمنة موجودة في أي مجتمع، في الهامش وفي حالة كمون، ويمكن أن تنتقل من الهامش إلى المركز ومن الكمون إلى التحقق، إن ظهرت اللحظة التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية المواتية وساد الجو الفكري المناسب.
3 ـ والسلوك الإنساني يبلغ الغاية في التركيب وما يحدده ليس العوامل الواضحة والبرامج المحددة وحسب. فدور العناصر الكامنة غير الواضحة غير الواعية في تشكيل السلوك الإنساني قوي، بل إنها في معظم الأحيان تكون أقوى كـثيراً من العـناصر الواضحـة التي يستطيع الإنسان أن يمارس إرادته ضدها، فيتحاشاها أو يحاصرها أو يحيدها.
ومن ثم فدراسة ظاهرة العلمانية باعتبارها مجموعة من الأفكار المحددة والممارسات الواضحة، تتجاهل الكثير من جوانبها وبالتالي تفشل في رصدها. ومصطلح «علمانية» الذي لا يشير إلا إلى هذه الجوانب هو دال قاصر عن الإحاطة بمدلوله. فالعلمانية ثمرة عمليات كثيرة متداخلة بعضها ظاهر واضح والآخر بنيوي كامن، وتشمل كل جوانب الحياة، العامة والخاصة، والظاهرة والباطنة، وقد تتم هذه العمليات من خلال الدولة المركزية، بمؤسساتها الرسمية، أو من خلال قطاع اللذة من خلال مؤسساته الخاصة، أو من خلال عشرات المؤسسات الأخرى (ومنها المؤسسات الدينية)، أو من خلال أهم المنتجات الحضارية أو أتفهها.
إشكالية تصور العلمانية باعتبارها فكرة ثابتة لا متتالية نماذجية آخذة فى التحقق
يظن كثير من الناس أن العلمانية فكرة ثابتة أو مخطط محدد ، بينما هي في الواقع متتالية نماذجية تتحقق تدريجياً في الزمان، ومن خلال عمليات علمنة متصاعدة آخذة في الاتساع. ومن ثم نجد أن معدلات العلمنة في المراحل الأولى لمتتالية العلمنة تختلف عن نظيرتها في المراحل الأخيرة. كما أن المجالات التي تتم علمنتها في المراحل الأولى محدودة ولا تتجاوز بعض جوانب رقعة الحياة العامة. ولكن نطاق العلمنة يبدأ في الاتساع وتزداد حدته فتغطي مزيداً من المجالات إلى أن تغطي معظم المجالات أو تمتد لتغطيها جميعاً، ولا فرق في هذا بين رقعة الحياة العامة ورقعة الحياة الخاصة.
ولكن مصطلح «علمانية» قد عُرِّف في المراحل الأولى في متتالية العلمنة قبل أن تكتمل حلقاتها وقبل أن تتحقق بعض إمكاناتها وقبل أن تتبلور نتائجها على أرض الواقع والتاريخ. ولذا نجد هناك حديثاً عن فصل الدين عن الدولة، وعدم التدخل في حياة الإنسان الخاصة واحترام الدين والقيم (وهذه جميعاً من سمات العلمانية الجزئية). وما حدث على أرض الواقع قد تجاوز ذلك تماماً، الأمر الذي جعل الدال «علمانية» قاصراً عن الإحاطة بمدلوله.
ففي المراحل الأولى من تَطوُّر العلمانية يُلاحَظ أن الدولة القومية لم تكن قد طوَّرت بعد مؤسساتها الأمنية والتربوية (الإرشادية والتعليمية)، فكانت هي نفسـها دولة جزئية لا تتسـم بالشـمولية. ولم تكن وسائل الإعلام قد بلغت بعد ما بلغته من قوة وسطوة، ولم يكن قطاع اللذة قد بلغ بعد ما بلغه من مقدرة على الإغواء. وهذا يعني أن كثيراً من قطاعـات حياة الإنسـان كانت بمنأى عن عمليات العلمنة، التي كانت في غالب الأمر محصورة في عالمي الاقتصاد والسياسـة. وإذا كانت علمنة ظاهرة ما هو استيعابها في إطار المرجعية المادية الكامنة وهيمنة الواحدية الموضوعية المادية، فإن علمنة الاقتصاد تعني أن يصبح النشاط الاقتصادي مرجعية ذاته، أي أن يصبح نشاطاً اقتصادياً محضاً (ويخضع كل شيء لآليات السوق غير الإنسانية) ويصبح النشاط السياسي سياسياً (فتظهر الدولة المطلقة التي تود أن تُخضع كل شيء لغاياتها).
ورغم عمليات العلمنة هذه، ورغم حدتها، فقد ظل الإنسان بمنأى عنها. فلم تكن إعادة صياغته قد تمت بحيث يصبح المواطن الرشيد المُدجَّن الذي يدين بالولاء للدولة وحسب، أو الإنسان الاقتصادي الجسماني، الذي يتحرك حسب ما يصله من تعليمات رشيدة من الدولة أو وسائل الإعلام، ويُغيِّر قيمه حسب ما يصله من تعليمات. ولأن عملية إعادة صياغته تمت إلى حدٍّ ما بشكل براني، فإنه كان حراً تماماً من الداخل يعيش داخل تراثه الثقافي وعقائده الدينية المتوارثة. لقد ظل الإنسان قائماً في مركز الكون يُشكل نقطة مطلقة، غير مُستوعَبة في النظام الطبيعي المادي، يمثل ثغرة معرفية فيه ونقطة مرجعية متجاوزة تصلح أساساً لتحديد الغاية والمعيارية. وقد شكَّلت هذه النقطة أساساً فلسفياً قوياً لظهور فلسفات إنسانية تحوي مطلقات، كما أنها كنقطة متجاوزة للنظام الطبيعي يمكن أن تُشير إلى الماورائيات (الإنسان غير الطبيعي والإنسان الرباني)، وإلى الرؤية الإيمانية (في هذه الحالة المسيحية). وقد أدَّى هذا إلى انقسام الحياة إلى قسمين: حياة عامة خاضعة للمرجعيات المادية، وأخرى خاصة متحررة منها.
لكل هذا، لم تقض المسيحية نحبها على الفور مع ظهور الفكر العلماني، بل استمرت بمطلقاتها الدينية والأخلاقية والإنسانية في ضمائر الناس ووجدانهم وعقولهم، بل في بعض المؤسسات الوسيطة مثل الأسرة. وقد لعبت النزعة الإنسانية الهيومانية دوراً مماثلاً، فقد استوردت بعض مطلقات العقيدة المسيحية وعلمنتها بشكل سطحي وجعلتها مطلقات إنسانية واحتفظت بها داخل منظومتها الطبيعية المادية (دون أن تكون لها أية علاقة فلسفية حقيقية بهذه المنظومة). وسواء أكانت منظومة إيمانية أم إنسانية، فقد احتفظت بمرجعية متجاوزة تخلق ثنائية. واستناداً إلى هذا، تم تطوير منظومات معرفية وأخلاقية تستند إلى مطلقات إنسانية.
بهذه الطريقة، زوَّدت المسيحية والنزعة الهيومانية (والاشتراكية الإنسانية) الإنسان الغربي بالإطار الميتافيزيقي والقيمي والكلي وبضمير وهدف وغاية وأساس لرؤيته للكون ليست مادية تماماً يمكنه من خلالها إدارة حياته الشخصية بل بعض جوانب حياته الاجتماعية، دون السقوط في النسبية والعدمية الكاملة التي تجعل هذا الاستمرار مستحيلاً أو مكلفاً لأقصى درجة. وبهذه الطريقة، تَمكَّن المجتمع العلماني من تحاشي مواجهة ما يُسمَّى «المشكلة الهوبزية»، أي مشكلة محاولة تأسيس مجتمع يدور في إطار المرجعية المادية الكامنة، كل فرد فيه يحاول أن يحقق مصلحته الشخصية المادية (منفعته ولذته) ولا يلتزم بأية مرجعية أخلاقية أو إنسانية متجاوزة، بحيث يصبح الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان وتصبح كل العلاقات تعاقدية.
إن ما حدث هو أن بعض مجالات الحياة العامة وحسب تمت علمنتها، وظلت الحياة الخاصة حتى عهد قريب جداً محكومة بالقيم المسيحية أو بالقيم العلمانية التي تستند في واقع الأمر إلى مطلقات إنسانية أخلاقية، أو مطلقات مسيحية متخفية. فكأن الإنسان الغربي كان يعيش حياته العامة في مجتمع علماني داخل إطار المرجعية المادية الكامنة (علمانية شاملة)، ولكنه كان يحلم ويحب ويكره ويتزوج ويموت داخل إطار المرجعية المتجاوزة المسيحية أو شبه المسيحية الإنسانية (علمانية جزئية). ولذا، كان من الممكن أن نجد أستاذاً للفلسفة يُدرِّس فلسفة إباحية عدمية في الجامعة (حياته العامة) ولكنه لا يسمح لابنته أن تعيش مع شخص دون زواج، بل يذهب إلى الكنيسة كل أحد. وكان من الممكن أن نجد رأسمالياً يؤمن بشكل كامل بقيم السوق النفعية ولكنه يدافع بشراسة عن مؤسسة الأسرة، فتمت عملية الضبط الاجتماعي الخارجية من خلال المرجعية المادية الكامنة، وتمت عملية الضبط الاجتماعي الداخلية من خلال المنظومة المسيحية أو المنظومة الهيومانية. ولعل هذا هو أساس الزعم العلماني الخاص باستقلال الحياة العامة التي تحكم قيم الدولة العلمانية عن الحياة الخاصة التي تتركها الدولة العلمانية للفرد يمارس فيها حريته الدينية وهويته الإثنية. فالفرد في الغرب كان بالفعل حراً في حياته الخاصة لا لأن الدولة (وكذلك قطاع اللذة) قد أحجمت عن التدخل فيها (و"استعمارها" على حد قول هابرماس) وإنما لأن المسيحية والمطلقات الهيومانية استمرت في وجدانه. ولم يكن بوسع الدولة العلمانية أو وسائل الإعلام وقطاع اللذة التغلغل في هذا المجال، ومن ثم تمت إعاقة المتتالية العلمانية عن التحقق لتظل بالأساس علمانية جزئية.
ولكن الأمور تغيَّرت إذ تتابعت حلقات المتتالية بخطى أخذت تتزايد في السرعة (إلى أن اكتملت في منتصف الستينيات). فقد ازدادت الدولة العلمانية قوة وتغولت وأصبحت الدولة التنين التي تنبأ بها هوبز وأحكمت بمؤسساتها الأمنية قبضتها على الفرد من الخارج. كما أحكمت مؤسساتها التربوية قبضتها عليه من الداخل، تساعدها في ذلك وسائل الإعلام وقطاع اللذة اللذان تمدَّدا وتغولا بطريقة تفوق تغوُّل الدولة وتنينيتها. واتسع نطاق العلمنة وتخطى عالم السياسة والاقتصاد ووصل إلى عالم الفلسفة (فلسفة الاستنارة والعقلانية المادية)، ثم عالم الوجدان. وأخيراً إلى عالم السلوك اليومي، أي أن الإنسان تم ترشيده وتدجينه تماماً من الداخل والخارج، ولم يَعُد هناك أي أثر للمرجعية المتجاوزة، ولم يعد هناك أي أساس لأية معيارية، إذ أصبح لكل مجال من مجالات الحياة معياريته (غير الإنسانية) المستقلة. فتآكلت بقايا القيم المسيحية والقيم الإنسـانية الهيومانية ومات الإله (على حد قول نيتشـه) وظهرت الفلسـفات المعادية للإنسـان، مثل البنيوية وما بعد الحداثة، التي تُنكر على الإنسان المقدرة على التجاوز.
وقد حدث الشيء نفسه للمنظومة الاشتراكية. فبدلاً من التأرجح بين المرجعية المتجاوزة (الإنسان والقيم الإنسانية المطلقة) والمرجعية الكامنة (وسائل الإنتاج ـ حركة المادة ـ إشباع الحاجات والملذات المادية)، تَغوَّلت الدولة السوفيتية وتَغوَّل الحزب ووسائل الإعلام وقطاع اللذة وزاد التركيز على الاشتراكية العلمية في صفوف النخب الحاكمة الاشتراكية، وأصبح اللحاق بالغرب الذي يدور في إطار الطبيعة/المادة (وليس تحقيق إمكانات الإنسان المتجاوزة) هو المثل الأعلى. فتم ترشيد الإنسان وتدجينه، وبدأ يختفي تدريجياً أي إحساس بمطلقات متجاوزة (ظلال الإله) إلى أن اختفى الإنسان ومات الإله وسادت النسبية والنفعية.
ثم تتالت الحلقات وبعد أن تمت السيطرة على الإنسان تماماً وأصبح مذعناً لقانون الطبيعة والأشياء وسقط تماماً في دوامة الصيرورة والنسبية، اتسع نطاق الصيرورة ليبتلع الطبيعة/المادة نفسها، كمصدر للمعيارية ومركز للعالم، ودخل العالم عصر ما بعد الحداثة والسيولة الشاملة واللامعيارية.
والفرق بين ما نسميه «العلمانية الجزئية» وما نسميه «العلمانية الشاملة» هو في واقع الأمر الفرق بين مراحل تاريخية لنفس النموذج؛ حلقات في نفس المتتالية. ففي المراحل الأولى للمتتالية تتسم العلمانية بالجزئية حينما يكون مجالها مقصوراً على المجالين الاقتصادي والسياسي، حين يكون هناك بقايا مطلقات مسيحية وإنسانية، وحين تتسم الدولة ووسائل الإعلام وقطاع اللذة بالضعف والعجز عن اقتحام (أو استعمار) كل مجالات الحياة، وحين يكون هناك معيارية إنسانية أو طبيعية/مادية. ولكن، في المراحل الأخيرة، ومع تزايد قوة الدولة ووسائل الإعلام وقطاع اللذة وتَمكُّنه من الوصول إلى الفرد وإحكام القبضة عليه من الداخل والخارج، ومع اتساع مجال عمليات العلمنة وضمور المطلقات واختفائها وتهميش الإنسان وسيادة النسبية الأخلاقية ثم النسبية المعرفية، تظهر العلمانية الشاملة.
وما طرحناه هو متتالية نماذجية، أي متتالية مجردة. وتاريخ العلمنة في العالم الغربي يختلف عن تاريخ العلمنة في العالم الثالث. بل يختلف تاريخ العلمنة من بلد إلى بلد وداخل كل تشكيل حضاري. فتاريخ العلمنة في إنجلترا يختلف عن تاريخ العلمنة في الولاياـت المتحـدة وروسيا القيصـرية وألمانيـا النازيـة، تمامـاً كمـا يختلف تاريـخ العلمـنة في اليـابان عنـه في الهنـد أو فـي تركـيا. كمـا أن هناك دائماً حركـات مقـاومة واحتـجاج. فرغم أننا دخلنا مرحلة السيولة الشاملة إلا أن هناك جيوباً إنسانية (هيومانية) ومسيحية لا تزال تحاول تأكيد أسبقية الإنسان على الطبيعة، وهناك عقلانيون ماديون يحاولون تأكيد الطبيعة/المادة باعتبارها مصدراً للمعيارية.
ولكن، مع هذا، يظل لهذه المتتالية مقدرة تفسيرية عالية إذ يمكن من خلالها أن ندرك الفرق بين المجتمع الإنجليزي في منتصف القرن الثامن عشر والمجتمع الإنجليزي في أواخر القرن العشرين، فكلاهما مجتمع علماني ولكن شتان بينهما، فالأول تسوده العلمانية الجزئية، حيث الفرد فيه لم يخضع بعد للمرجعية المادية الكامنة، وأما الثاني فهو مجتمع تسود فيه العلمانية الشاملة وتسيطر عليه الواحدية المادية تماماً ثم السيولة الشاملة. وهذا هو أيضاً الفرق بين المجتمع المصري في أوائل الخمسينيات والمجتمع المصري في أواخر التسعينيات. وهو الفرق بين الخطاب العلماني في المراحل الأولى للعلمنة والخطاب العلماني في المراحل الأخيرة. وهو الفرق بين الدولة السوفيتية والدولة الأمريكية بعد إعلان الثورة (الأمريكية والبلشفية) مباشرةً والدولتان السوفيتية والأمريكية في الثمانينيات.
ولا يمكن القول بأن كل فرد يمر في حياته من خلال المتتالية العلمانية والانتقال من الجزئي إلى الكلي والشامل (فهذه عملية اجتماعية تاريخية). ومع هذا لا يتبنى الفرد النموذج السائد في مجتمعه بقضه وقضيضه، فمعظم البشر يعيشون حياتهم المتعينة مستخدمين أكثر من نموذج وأكثر من مرجعية، بعضها قد يكون متناقضاً تماماً مع البعض الآخر. فيمكن أن يعلمن الإنسان حياته الاقتصادية والسياسية بشكل كامل ويُخضعها للمرجعيات والمعايير والمنظومات العلمانية الشاملة، وفي الوقت نفسه يرفض (بشكل واع أو غير واع)، علمنة سلوكه أو حياته الشخصية بنفس الدرجة (أو لا يَجسُر على ذلك) ويرفض إخضاعها لنفس المرجعية والمعايير والمنظومات التي طَبَّقها على حياته العامة، أي أنه في حياته السياسية والاقتصادية يخضع للعلمانية الشاملة والواحدية المادية ويصبح شيئاً بين الأشياء، وفي حياته الخاصة يدور في إطار مرجعية متجاوزة ولذا فإنه يظل بشراً حر الإرادة ذا حس خُلقي قوي يعي ثنائيات المطلق والنسبي، أي يدور في إطار العلمانية الجزئية.
ومع هذا، تجب الإشارة إلى بعض الأفراد ممن يتبنون نماذج علمانية شاملة ويستخدمون ديباجات جزئية عن وعي وبدهاء مقـصود، لأن الناس ينفـرون بفطـرتهم الإنسـانية من الـعلمانية الشـاملة بسبب وحشيتها وعدميتها.
الباب الثانى: إشكالية اختلاط الحقل الدلالي لمصطلح ومفهوم »علمانية«
إشكالية اختلاط الحقل الدلالى لمصطلح "علمانية"والمفاهيم الكامنة وراءه
من أهم الإشكاليات التي تواجه دراسي الظواهر العلمانية أن مصطلح «علمانية» (سواء في المعجم الغربي أو العربي) مختلط الدلالة، فكل معجم يأتي بعده تعريفات متضاربة. فإذا انتقلنا إلى تعريف المفهوم الكامن فإن الأمر يزداد اختلاطاً. وفي المداخل المتبقية في هذا الباب سنتناول التعريف المعجمي لكلمة «علمانية» في العالم الغربي والعربي ثم تعريف المفهوم.
التعريف المعجمى لمصطلح "علمانية" فى العالم الغربى
كلمة «علمانية» هي ترجمة لكلمة «سكيولاريزم secularism» الإنجليزية التي لها نظائرها في اللغات الأوربية. والكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية «سَيكولوم saeculum» وتعني «العصر» أو «الجيل» أو «القرن». أما في لاتينية العصور الوسطى (التي تهمنا في سياق هذا المدخل)، فإن الكلمة تعني «العالم» أو «الدنيا» (في مقابل الكنيسة). ويوجد لفظ لاتيني آخر للإشارة إلى العالم، وهو «موندوس mundus». ولفظة «سيكولوم» مرادفة للكلمة اليونانية «آيون aeon» والتي تعني «العصر»، أما «موندوس» فهي مرادفة للفظ اليوناني «كوزموس comos» والذي يعني «الكون» (في مقابل «كيوس chaos» بمعنى «فوضى»). ومن هنا، فإن كلمة «سَيكولوم» تؤكد البُعد الزماني أما «موندوس» فتؤكد البُعد المكاني.
وقد استُخدم المصطلح سكيولار secular»»، لأول مرة، مع نهاية حرب الثلاثين عاماً (عام 1648عند توقيع صلح وستفاليا وبداية ظهور الدولة القومية (أي الدولة العلمانية) الحديثة، وهو التاريخ الذي يعتمده كثير من المؤرخين بدايةً لمولد الظاهرة العلمانية في الغـرب. وكان مـعنى المصطلح في البداية محـدود الدلالة ولا يتسـم بأي نوع من أنواع الشمول، إذ تمت الإشارة إلى «علمنة» ممتلكات الكنيسة وحسب بمعنى «نقلها إلى سلطات سياسية غير دينية»، أي إلى سلطة الدولة أو الدول التي لا تخضع لسلطة الكنيسة. وفي فرنسا، في القرن الثامن عشر، أصبحت الكلمة تعني (من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية) «المصادرة غير الشرعية لممتلكات الكنيسة». أما من وجهة نظر مجموعة المفكرين الفرنسيين المدافعين عن مُثُل الاستنارة والعقلانية المادية والمعروفين باسم «الفلاسفة» (فيلوسوف Philosophes) (ويشار إليهم أيضاً باسم الموسوعيين)، فإن الكلمة كانت تعني «المصادرة الشرعية لممتلكات الكنيسة لصالح الدولة».
ولكن المجال الدلالي للكلمة اتسع، وبدأت الكلمة تتجه نحو مزيد من التركيب دون أن تصل إلى الشمول الكامل على يد جون هوليوك John Holyooke (1817 ـ 1906) أول من نحت المصطلح بمعناه الحديث وحوَّله إلى أحد أهم المصطلحات في الخطاب السياسي والاجتماعي والفلسفي الغربي. ولم يكن جون هوليوك، لسوء الحظ، يتسم بكثير من العمق الفلسفي أو التحليلي، ولذا ساهم تعريفه في تعميق مشكلة العلمانيتين واختلاط الحقل الدلالي. وقد حاول أن يأتي بتعريف تَصوَّر أنه محايد تماماً (ليست له علاقة بمصطلحات مثل «ملحد» أو «لاأدري»). فعرَّف العلمانية بأنها "الإيمان بإمكانية إصلاح حال الإنسان من خلال الطرق المادية دون التصدي لقضية الإيمان سواء بالقبول أو الرفض".
والحديث عن "إصلاح حال الإنسان" يفترض وجود نموذج متكامل ورؤية شاملة ومنظومة معرفية قيمية. فهل العلمانية إذن هي هذه الرؤية الشاملة؟ إن كان الأمر كذلك، فإن هوليوك لم يعطنا ملامح هذا النموذج وهذه المنظومة، فهو لا يتصدى البتة لقضية القيمة (هل هي قيم مادية؟) أو قضية المعرفة (هل مصدرها الحواس وحسب؟). وهو يتحدث عن الإنسان دون تعريف للسمات الأساسية لما يشكل جوهر الإنسان الذي ستتم العملية الإصلاحية عليه وباسمه (هل هو إنسان طبيعي؟). وهناك الحديث عن الإصلاح "من خلال الطرق المادية" فهل يعطينا هذا مفتاحاً لطبيعة النموذج الذي سيتم تبنيه؟ أليست هذه هي العلمانية الشاملة؟ وهذا الموقف ألا يعني الرفض الكامل للإيمان، وليس عدم التصدي له وحسب، كما يدَّعي؟ فالمصطلح يحتوي على قضايا خفية كثيرة وعلى ميتافيزيقا خفية وعلى منظومة قيمية انسلخت عن الإيمان الديني وتبنت الطرق المادية، فكأنه تبنى النموذج الشامل للعلمانية دون أن يدرك هو نفسه ذلك، وتصور أنه سيترك الإيمان الديني وشأنه.
وقد تم تبسيط تعريف هوليوك للعلمانية فأصبح المصطلح يعني «فصل الدين عن الدولة»، أي فصل العقائد الدينية عن رقعة الحياة العامة، وهو تعريف أكثر جزئية من تعريف هوليوك وأشد شمولاً من تعريف الكلمة عند توقيع صلح وستفاليا. ومرجعية هوليوك التاريخية هي أوربا في القرن التاسع عشر وتعريفه للعلمانية ينبع من هذه المرجعية. ومن المعروف أن التاريخ لم يتوقف قط في العالم الغربي، فحدثت تطورات اقتصادية وسياسية واجتماعية أدت إلى تحولات هائلة في رقعة الحياة العامة والخاصة وكافة العلاقات الإنسانية. وأخذت هذه التحولات في التصاعُد في بداية القرن العشرين وتصاعدت حدتها في منتصف القرن. فالمؤسسة الحاكمة في الغرب لم تَعُد الدولة الصغيرة الضعيفة التي تنافسها العديد من المؤسسات الأهلية الأخرى، بل أصبحت دولة ذات أذرع طويلة وتتبعها مؤسسات أمنية عديدة. وظهر قطاع الإعلام واللذة في المجتمع، وهما قطاعان ضخمان رهيبان يصلان إلى الرجال والنساء والأطفال في كل مكان وزمان. وكل هذه المؤسسات الحكومية وغير الحكومية تتدخل في أخص خصوصيات حياة الإنسان وضمن ذلك حياته الجنسية وعلاقة الآباء بأطفالهم وتصوغ صورة الإنسان لنفسه. في هذا الإطار الجديد، بأي معنى من المعاني يمكن الحديث عن العلمانية باعتبارها فصل الدين عن الدولة، أي دولة نتحدث عنها؟ وما دور قطاع اللذة؟ هل لا يزال الحديث عن علمانية جزئية، أم عن شيء مغاير تماماً أكثر جذرية وشمولاً يمكن أن نطلق عليه «العلمانية الشاملة»؟
ويتضح الاختلاط بين العلمانيتين الجزئية والشاملة في التعريفات التي ترد في المعاجم اللغوية الغربية الحديثة. وقد حاول قاموس أكسفورد أن يحصر الحقل الدلالي المتسع لكلمة «علمانية»، فأورد استخدامات عديدة للكلمة لا تعنينا كثيراً، مثل «ينتمي إلى عصر أو مدة زمنية طويلة» أو «يُحتفَل به مرة كل عصر أو قرن، وفي كل فترة طويلة»، فيقال: «الألعاب والمسرحيات والعروض العلمانية» بمعنى «الألعاب والعروض التي كانت تُقام في روما القديمة مرة كل عصر (أو كل مائة وعشرين عاماً) وتستمر لمدة ثلاثة أيام وليال»، ويُقال «قصيدة علمانية» بمعنى «قصيدة تُتلى في هذه الأعياد». وفي اللغة العلمية، يُشار إلى «التغيرات العلمانية» باعتبارها التغيرات التي تحدث على فترة زمنية خلال عصور طويلة.
وتُستخدَم كلمــة «علمــاني» أيضاً للإشــارة إلى "أعـضــاء الكـهنــوت الذين يعيــشون في الدنيا لا في عــزلة الأديرة". أو للإشارة إلى «العوام» (وهو استخدام نادر). وهذه الاستخدامات كلها ـ كما أسلفنا ـ لا علاقة لها بكلمــة «علمــانية» بالمعنـى الاصطـلاحي الحـديث للكلمة، وإن كانت كلها تتضمن فكرة الزمن والدنيا.
أما بقية الاستخدامات، فهي تشير إلى عملية التأرجح بين الجزئية والشمولية، دون أن ي�
ري مركب وشـامل للعلمانية
فشل علم الاجتماع الغربى فى تطوير نموذج مركب وشامل للعلمانية
علم الاجتماع الغربي والعلوم الإنسانية الغربية ككل هي جزء من المجتمع الغربي، أفقها محدد بأفق مجتمعها في معظم الأحيان، ولذا نجد أن علم الاجتماع الغربي يتأرجح بين العلمانية الشاملة والجزئية فيُنظر إلى العلمانية باعتبارها «فصل الدين عن الدولة» أو باعتبارها «مجموعة أفكار وممارسات ومخططات واضحة محددة» أو باعتبارها «فكرة ثابتة لا مثالية نماذجية آخذة في التحقق». كما أن علم الاجتماع الغربي قد ورث أيضاً الاختلاط في الحقل الدلالي لكلمة «علمانية».
كل هذه العناصر ساهمت ولا شك في أن يفشل علم الاجتماع الغربي في أن يطوِّر نموذجاً شاملاً ومركباً للعلمانية. ولكن أهم العناصر التي ساهمت في ذلك الإخفاق أن مرجعية علم الاجتماع الغربي والعلوم الغربية الإنسانية ومنطلقاتها هي العلمانية الشاملة. فعلى سبيل المثال ترى هذه العلوم أنه يجب فصل الواقع (الحياة الدنيا) عن كل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية حتى تصبح العلوم محايدة، خالية من القيمة (بالإنجليزية: فاليو فري value ياتجهت العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية نحو النماذج الكمية والنماذج المادية لتركز الاهتمام على تلك الظواهر التي توجد داخل هذا النطاق وحسب. ومن هذا المنظور تم تقويض مفهوم الإنسانية المشتركة إلى أن اختفى مع سيادة الواحدية المادية الموضوعية. ثم انتهى بأن ثبتت هذه العلوم ميتافيزيقا العلمانية الشاملة من إيمان بحتمية التقدم وبأن العقل المادي لا نهائي قادر على تسجيل كل شيء... إلخ. لكل هذا أصبح علم الاجتماع الغربي نفسه جزءاً من المنظومة العلمانية الكلية الشاملة لا توجد مسافة تفصل بين الواحد والآخر. فبدأ يدرك الواقع كأجزاء متناثرة، وخصوصاً أن مصطلح «علمانية» كان قد عُرِّف وتكلّس قبل ظهور كثير من الظواهر العلمانية الأساسية.
ومما زاد الموضوع تفاقماً أن الإنسان الغربي حينما بدأ مشروعه التحديثي كان ممتلئاً بالتفاؤل بشأنه، وكان يتوقع أن يحقق له هذا المشروع السعادة الكاملة أو على الأقل قسطاً كبيراً من السعادة. ولذا، حينما كانت تظهر جوانب سلبية، كان يصنفها على أنها "ظواهر هامشية" أو "نتائج جانبية" أو "ثمن معقول" للتقدم. ورغم تزايد الجوانب السلبية، إلا أنه استمر في التركيز على المتتالية المثالية السعيدة فتحكمت في إدراكه وأحكامه ومن ثم استمر في تهميش الجوانب السلبية وتهميش المصطلحات التي تشير إليها وظلت هذه المصطلحات، بمدلولها السلبي، خارج نطاق عملية تعريف ـ أو إعادة تعريف ـ العلمانية.
ويمكن أن نضيف أيضاً أن علم الاجتماع الغربي قد تحددت مقولاته الإدراكية والتحليلية قبل أن تتم عملية التلاقي بين الرأسمالية والاشتراكية وقبل أن تظهر الوحدة الكامنة وراء كثير من الظواهر. ولذا كان علم الاجتماع الغربي يتصور أن الثنائيات التي ظهرت داخل المنظومة العلمانية الغربية ثنائيات حقيقية ذات مقدرة تفسيرية عالية. فكان يرصد الواقع من خلال نموذج الإنسانية مقابل الطبيعية، ونموذج الرأسمالية مقابل الاشتراكية، وهكذا دون إدراك الوحدة النهائية الكامنة فيما بين هذه الثنائيات، ودون إدراك أنها ثنائيات واهية في طريقها إلى الزوال بفعل عوامل التعرية التاريخية وآليات التلاقي.
لكل هذا نجد أن علم الاجتماع الغربي يرصد الواقع العلماني (في الشرق والغرب) لا باعتباره كلاً متكاملاً وإنما باعتباره مجموعة من ظواهر مختلفة مستقلة لها تواريخ مستقلة. فكلما اتضحت معالم ظاهرة ما فإنه كان يحصر سماتها ويُطلق عليها اسماً، الظاهرة تلو الأخرى، دون أن يربط بعضها ببعض داخل نموذج تفسيري واحد. ولذا ظهرت نماذج تفسيرية متعددة، ونجد أن هناك حديثاً عن «الترشيد» مستقلاً عن حديث «الاستنارة» وعن حديث «التفكيك» وعن حديث «العلمانية»، ولم يتم رصد علاقة مفهوم الإنسان الطبيعي وتعاظم نفوذ الدولة القومية بضمور الحس الخُلقي ثم بضمور الحس السياسي والإباحية وتزايد الحياد والتجريد والتنميط. وأصبح تاريخ العلمانية مستقلاً تماماً عن تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة وعن تاريخ الاستعمار الغربي وحركات مثل النازية والصهيونية. وقد ظهر عدد لا حصر له من المصطلحات يُشير بعضها إلى الثمرات الإيجابية لعملية التحديث أو الترشيد أو العلمنة، من بينها: التقدم ـ الحراك ـ زيادة الإنتاج ـ هزيمة الطبيعة ـ معرفة قوانين الواقع والتحكم فيه. كما ظهرت أيضـاً مجموعة من المصطلحات المحايدة ( على الأقل من وجهة نظر أصحابها ) من بينها: التلاقي ـ المجتمع التكنولوجي ـ المجتمع ما بعد الصناعي ـ زمانية كل الظواهر ونسبيتها.
في الوقت نفسه، ظهرت مصطلحات عديدة تشير إلى بعض نتائجها السلبية غير المقصودة أو إلى ظواهر سلبية مرتبطة بها أو ناجمة عنها، من بينها: أزمة الحضارة الحديثة ـ أزمة الإنسان في العصر الحديث ـ ثمن التقدم ـ النتائج السلبية لعملية التحديث ـ التلوث البيئي ـ هيمنة النماذج المادية والكمية والآلية ـ الاغتراب ـ أزمة المعنى ـ ضمور الحس الخلقي ـ هيمنة القيم النفعية ـ غياب المركز ـ تفشِّي النسبية المعرفية والأخلاقية ـ اللامعيارية (الأنومي) ـ تفتُّت المجتمع ـ سيادة العلاقات التعاقدية بدلاً من العلاقات التراحمية ـ إشكالية الجماينشافت مقابل الجيسيلشافت ـ سيطرة الدولة على الفرد من خلال أجهزتها العديدة ـ هيمنة المؤسسات والبيروقراطيات ـ تآكل الأسرة ـ بداية اختفاء ظاهرة الإنسان ـ ظهور فلسفات معادية للإنسان ـ العدمية الفلسفية ـ الإحساس بالعبث ـ التدويل ـ تراجُع الفردية والخصوصية ـ أمركة العالم ـ التنميط ـ سيطرة أجهزة الإعلام على البشر ـ ما بعد الأيديولوجيا ـ ظهور الحتميات والجبريات المختلفة (البيولوجية والبيئية والوراثية والتاريخية) ـ العالم الحديث كقفص حديدي ـ التسلع (أي تحوُّل الإنسان إلى سلعة) ـ التشيؤ (أي تحوُّل الإنسان إلى شيء) ـ موت الإله ـ موت الإنسان (ويُلاحَظ أن معظم المصطلحات السلبية هي نتاج ما نسميه «العلمانية الشاملة»).
ورغم دقة هذه المصطلحات، كلٌّ في حد ذاته، إلا أنها ظلت متباعدة. وقد صُنِّفت أحياناً إلى مجموعات أكبر، ولكن ظل هناك غياب ملحوظ للنموذج التفسيري الكلي الذي يُبيِّن الوحدة الكامنة وراء التعدد.
ورغم أن نطاق عمليات العلمنة قد اتسع، ورغم أن الكثيرين اتضح لهم أنها تشكل في مجموعها منظومة متكاملة يمكن رؤيتها في مقدمتها وحلقات تطورها ونتائجها الإيجابية المقصودة والسلبية غير المقصودة، ورغم أن المتتالية المتحققة التي انتهت بالإمبريالية ونهب العالم والإبادة النازية والتلوث البيئي والإباحية وتآكل الأسرة وانتشار المخدرات والجريمة والإيدز والتي ظهرت بدلاً من المتتالية المثالية المُفْتَرَضة السعيدة، ورغم ثمن العلمانية الشاملة الفادح، حيث لم يعد هناك مجال للحديث عن استقلالية الحياة الخاصة، ورغم تَساقُط الثنائيات المختلفة وهو ما أدَّى إلى تهميش الفلسفة الإنسانية الهيومانية وسقوط النموذج الاشتراكي، ورغم تآكل بقايا المسيحية وتَغوُّل الدولة ووسائل الإعلام وقطاع اللذة، رغم كل هذا، فإن الإنسان الغربي لم ير الوحدة الكامنة ولم يتوصل إلى نموذج تفسيري شامل مركب متكامل لظاهرة العلمانية، واكتفى بمراجعة كثير من المصطلحات التي سكها لوصف واقعه التحديثي في ضوء ما تَكشَّف له من خلال عملية التحقق التاريخي. ولذا، فهو لم يعد يتحدث عن «الاستنارة» وحسب، وإنما أصبح يتحدث أيضاً عن «الاستنارة المظلمة». ولم يعد يتحدث عن «العقل الخلاق» وحسب، وإنما يتحدث أيضاً عن «تآكل العقل النقدي» وعن «العقل التفكيكي» و«العقل الأداتي» الذي لا يكترث بالإنسان ولا بالمضمون الخلقي لعملية الترشيد. وهو لا يتحدث عن «مركزية الإنسان» و«الإنسانية الهيومانية» وحسب، وإنما يتحدث أيضاً عن «الإنسان ذي البُعد الواحد» و«الإنسان الشيء» وعن «استبعاد الإنسان من المركز» وعن «العداء للإنسانية (أنتي هيومانيزم anti-humanism)». كما أنه لا يتحدث عن «التقدم» وحسب وإنما يتحدث أيضاً عن «نهاية التاريخ» و«عبثية الواقع» و«ثمن التقدم».
ورغم أن الإنسان الغربي أعاد صياغة المصطلحات وربط بعضها بالبعض الآخر (فالترشيد الذي كان مرتبطاً بالانعتاق ظهرت علاقته بالتنميط وبالاغتراب)، فقد ظلت في معظمها محتفظة باستقلاليتها لا تنتظمها منظومة واحدة. ولعل ماكس فيبر هو عالم الاجتماع الغربي الذي اقترب من عملية الربط بين كل المصطلحات والظواهر بطريقة تكاد تكون شاملة من خلال مفهوم الترشيد.
لقد أخفقت العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية في رصد ظاهرة العلمانية وفي تطوير نموذج شامل ومركب لها أو رؤيتها من منظور إنساني عالمي مقارن. وإن كان من الممكن تفسير إخفاق العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية في التوصل إلى نموذج شامل ومركب ومتكامل للعلمانية، فإن تفسير إخفاقنا نحن غير ممكن، فنحن نرى ظاهرة العلمانية ونرى الإنسان الذي يتفاعل معها من الخارج (حتى الآن على الأقل). ولهذا، فلابد أن نرى الأمور بشكل أكثر تركيباً وشمولاً وكلية، ولابد أن يكون بوسعنا رؤية علاقة كامنة شاملة بين العناصر والجوانب المختلفة التي قد تبدو مستقلة. وليس هناك ما يدعو لأن نقبل تصنيفات الإنسان الغربي ومصطلحاته لوصف واقعه. فالواجب العلمي يفرض علينا أن نبحث عن مثل هذه العلاقة الشاملة الكامنة. ولعل الوقت قد حان الآن لإعادة النظر في كل مصطلحات العلوم الاجتماعية (ذات الأصل الغربي) لصياغة نماذج ومصطلحات جديدة تتفق مع تجربتنا الوجودية المتعينة بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وبعد علمنة السلوك في العالم الغربي وضمور رقعة الحياة الخاصة وتهميش المسيحية تماماً وظهور أدبيات غربية مراجعة تساعدنا في عملية التعريف وإعادة التعريف.
نحو نموذج تفسيرى مركب وشامل للعلمانية
بعد أن رصدنا فشل علم الاجتماع الغربي في تطوير نموذج شامل ومركب للعلمانية، وبعد أن بيَّنا أن مصطلح «علماني» شائع لأقصى درجة، وخلافي لأقصى درجة، فإننا سنحاول أن نقوم بتطوير نموذج تحليلي جديد وسنؤسس عليه تعريفاً لما نسميه «العلمانية الشاملة». وقد لجأنا لعدة إستراتيجيات:
1 ـ التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالي المشترك أو المتداخل.
2 ـ تطوير مصطلحات تحليلية جديدة لبلورة النموذج الكامن.
3 ـ دراسة النمط الأساسي الكامن وراء عمليات العلمنة وتوضيح علاقة العلمانية بالتفكيك وما بعد الحداثة.
4 ـ توضيح علاقة العلمانية بالإمبريالية.
ثم طرحنا بعد ذلك تعريفنا للعلمانية الشاملة.
العلمانية : التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالى المشترك أو المتداخل
مصطلح «العلمانية» ـ كما تَقدَّم ـ مُبهَم ومُختلَط، ولو كان الأمر بيدنا لاستغنينا تماماً عنه ولاستخدمنا بعض المصطلحات الأخرى (وخصوصاً مصطلح «نزع القداسة» أو «الواحدية الكونية المادية») نظراً لأنها مصطلحات أكثر شمولاً وأكثر عمقاً ودقة من لفظ «العلمانية»، كما أنها مصطلحات جديدة غير محملة بأعباء أو أخلاقيات أيديولوجية وعقائدية حادة كما هو الحال مع لفظ «علمانية».
ولكن هناك إشكالية تواجهنا جميعاً، وهي أن هذا المصطلح قد أحرز شيوعاً غير عادي بين دعاة العلمانية وأعدائها، وبين أعضاء النخبة والجماهير على حدٍّ سواء. ولذا، لا مناص من استخدامه، فالبدء من نقطة الصفر مسألة مستحيلة في مثل هذه الأمور. وما سنلجأ إليه هو إعادة تعريف مصطلح «علمانية» بحيث يصبح مجاله الدلالي أكثر اتساعاً وشمولاً. كما أننا سنستخدم مصطلح «علمنة» على نطاق واسع (لتأكيد البُعد الزمني للمصطلح).
ونحن نحاول أن نقدم نموذجاً مركباً للعلمنة والعلمانية، وذلك لا باعتبار العلمنة مجموعة من الأفكار والممارسات الواضحة، ولا باعتبارها رؤية تغطي بعض مجالات الحياة دون الأخرى وحسب، ولا باعتبارها فكرة ثابتة لا متتالية نماذجية، وإنما باعتبارها رؤية شاملة لإعادة صياغة الواقع في إطار المرجعية المادية الكامنة النهائية وهيمنة الواحدية المادية الموضوعية. ونحن نعتقد أن هذا النموذج له قيمة تفسيرية وتصنيفية عالية وأنه سيكون بمنزلة النظرية التفسيرية والتصنيفية العامة التي تحاول أن تكتشف قدراً معقولاً من الوحدة بين الظواهر التي صُنِّفت باعتبارها ظواهر مستقلة. وهو نموذج تنضوي تحته كلٌّ من الرأسمالية والاشتراكية باعتبارهما نموذجين ماديين في تنظيم المجتمعات البشرية، ومن ثم فهما مجرد تنويعين على نموذج أعمق وأشمل، أي العلمانية (والعقلانية المادية والواحدية المادية). بل إننا نستخدم نموذج العلمنة لنفسر العديد من الظواهر في العصر الحديث لا في الغرب وحسب وإنما على مستوى العالم بأسره، ونشير إلى ما نسميه «الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية» باعتبار أن هذه الرؤية لم تُطبَّق على الداخل الغربي من خلال الدولة العلمانية المركزية (المطلقة) وحسـب وإنما طُبِّقت أيضاً على الخـارج الأوربي من خلال جيوش أوربا والغزو الثقافي. ومن ثم، فنحن نرى إمكانية كتابة تاريخ موحَّد لكلٍ من العلمانية والإمبريالية والديموقراطية والفلسفة الغربية الحديثة والتحديث والحداثة وما بعد الحداثة، وذلك إن تبنينا تعريفاً مركباً للنموذج المعرفي العلماني. ونحن نستخدم كلمة «علمنة» أو «علمانية» أو «رؤية معرفية علمانية» من قبيل الاختصار، إذ أن ما نعنيه هو رؤية معرفية علمانية إمبريالية ترمي إلى غزو العالم (الغربي والشرقي) وحوسلة الإنسان في الشرق والغرب. وعلى هذا، فإن هذه الرؤية هي نظرية لا تُفسِّر فقط تاريخ أوربا في العصر الحديث وإنما تطمح إلى تفسير تاريخ العالم، وضمن ذلك تاريخ أوربا كجزء من تاريخ العالم في العصر الحديث. بل إننا، عن طريق ربطنا بين العلمانية والفكر الحلولي الكموني باعتباره تعبيراً عن نمط إنساني كامن متكرر (النزعة الجنينية)، نرى أن النموذج الذي نطرحه له قيمة تفسيرية لكثير من جوانب التاريخ الإنساني.
وفي الأبواب الأخيرة من هذا الجزء سنحاول أن نصل إلى نموذج تفسيري للعلمانية أكثر تركيبية وشمولاً وتكاملاً من النموذج التفسيري السائد والكامن في التعريفات المعجمية المتداولة (الجزئية والشاملة)، لذا طرحنا هذه التعريفات جانباً بسبب سطحيتها وضيقها واختلاطها، وحبذنا بدلاً من ذلك ما نسميه «التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالي المشترك أو المتداخل» ودراسة بعض الأنماط المتكررة في الظواهر الاجتماعية. وتتم عملية التعريف هنا من خلال حصر كثير من المصطلحات التي استخدمتها العلوم الإنسانية الغربية لوصف بعض ظواهر المجتمع الغربي الحديث. ثم قمنا بتجريد ما نتصور أنه النموذج الكامن وراء هذه المصطلحات، وذلك من خلال تفكيكها وإعادة تركيبها إلى أن وصلنا إلى بعض الأنماط المتكررة، ثم قمنا بسك بعض المصطلحات التي ترى أنها ذات مقدرة تفسيرية عالية وتساعد في عملية التفكيك والتركيب. وتكوَّن لنا في نهاية الأمر نموذجاً نتصور أنه أكثر تركيباً وشمولاً وتكاملاً من النموذج السائد، فهو يبيِّن الوحدة الكامنة وراء المصطلحات المتناثرة. وفي نهاية الأمر وضعنا تعريفنا للعلمانية الشاملة استناداً إلى كل هذه العمليات الفكرية.
وقد قسّمنا المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالي المشترك والمتشابك إلى الأقسام التالية:
1 ـ مصطلحات الواحدية الي تؤكد الوحدة بين الطبيعي والمادي من جهة، والإنساني والروحي من جهة أخرى (وحدة [أي واحدية] العلوم ـ التلاقي ـ اتحاد المقدَّس بالزمني). ثم مصطلحات تؤكد استيعاب الإنسان في منظومة الطبيعة/المادة والواحدية المادية وإعادة صياغته على هديها(التطبيع ـ التحييد ـ هيمنة النماذج البيروقراطية والكمية ـ المجتمع التكنولوجي أو التكنوقراطي ـ المجتمع ما بعد الصناعي ـ العقل الأداتي ـ العقل النقدي ـ كل الأمور نسبية ـ في التحليل الأخير وفي نهاية الأمر والمطاف إن هو إلا ). ثم مصطلحات تصف ثمار عملية الاستيعاب هذه (الترشيد في إطار العلمانية الشاملة: العقلانية التكنولوجية أو المادية ـ الحَوْسَلة ـ التعاقدية ـ الجماينشافت والجيسيلشافت ـ الجماعة التراحمية العضوية والمجتمع التعاقدي ـ الإنسان ذو البُعد الواحد ـ القفص الحديدي ـ التَسلُّع ـ التوثُّن ـ التشيُّؤ ـ التنميط).
2 ـ مصطلحات تشير إلى تفكيك الإنسان واختفائه (التفكيك والتقويض ـ نزع القداسة عن العالم: الإنسان والطبيعة ـ نزع السر عن الظواهر ـ كشف حقيقة الأسطورة ـ تحرير العالم من سحره وجلاله ـ تجريد الإنسان من خصائصه الإنسانية ـ إزاحة الإنسان عن المركز ـ إسقاط السمات الشخصية ـ الداروينية الاجتماعية ـ الاغتراب ـ اللامعيارية: اللاعقلانية المادية).
وهذه المصطلحات تتضمن الموضوعات السابقة بدرجات متفاوتة، فكلها تدور في إطار نموذج واحد، فهي تفترض وحدة الطبيعي والإنساني واستيعاب الإنساني في الطبيعي وهيمنة الواحدية المادية، وهو ما يؤدي إلى تفكيكه. ولكن أحد الموضوعات قد يَغلب على الموضوعات الأخرى، ولهذا فقد أصبح هذا هو أساس تصنيفنا.
3 ـ مصطلحات قمنا بسكها لبلورة النموذج الكامن (العلمنة البنيوية الكامنة ـ المطلق العلماني الشامل ـ اللحظة العلمانية الشاملة النماذجية).
والمصطلحات السابقة، كلها (باستثناء المصطلحات الثلاثة الأخيرة) استخدمها علماء اجتماع أو مفكرون غربيون لوصف بعض الظواهر في المجتمعات الغربية الصناعية الحديثة، سواء في العالم الرأسمالي أو في العالم الذي كان اشتراكياً. كما نستخدم بعض هذه المصطلحات لوصف بعض الظواهر التي تنشأ في المجتمعات الحديثة في العالم الثالث.
0 مشاركات:
إرسال تعليق