سكان الماتريكس


حاز المصريون سمعتهم في الفكاهة بعرق الجبين. كان لا بد من تطوير ملكة التنكيت لمواجهة ما يقع على الشعب، من أحكام الفرعون الإله وكهنته، حتى لا يطق المصريون ويموتون.
الآن، بعد نحو عشرة آلاف عام من تبكيت السلطة وتنكيت الشعب انقلبت الأدوار، صارت السلطة تمارس الفكاهة على نطاق واسع، وتركت الشعب للكدر والغم.
الأسوأ والأكثر غلظة في تنكيت السلطة أنها تفعل ما تفعله بسمت جاد وتنشره على نطاق واسع، بعكس التنكيل الذي مارسه الكهنة القدامى من خلف جدران المعابد والقصور قليلة الاتصال بالشعب. في مصر الآن فضائيات منتشرة على نطاق واسع، وفيها صحف معارضة وحكومة وبين بين، وهذه كلها تلاحق أعمال السلطة بجدية؛ فلا تلحظ أو لا تريد أن تلحظ حجم الفكاهة فيها.
فكاهة هذه الأيام تتعلق بأخبار الاستعدادات للانتخابات البرلمانية وصراعات الأحزاب وصفقاتها المضحكة. والنكتة الحزبية من أطول النكات عمرا في مصر الحديثة منذ أعلن الرئيس النادر في تاريخ كوميديا الحكم أنور السادات إنشاء المنابر التي سرعان ما تحولت إلى أحزاب، لكنها بقيت منظومة مكتفية بنفسها، بلا قاعدة شعبية على الأرض، في سبق للمخيلة الهوليوودية التي أنتجت فيلم 'ماتريكس' بزمان. وزع السادات تركة الاتحاد الاشتراكي: المقار والمخصصات الأفضل لحزبه والفتات لدكاكين معارضة صغيرة كل همها المقر واللافتة والصحيفة التي تتابع أخبار زعيم الحزب؛ مثلما تتابع صحف الدولة تحركات زعيم الدولة.
لا فلسفة كبيرة وراء الماتريكس المصري، ولا هدف له سوى مد عمر النظام يوما بيوم دون أي تفـــــكير في دولة وتاريخ وشعب خارج الماتريكس الحزبي معرض للفناء الحقيقي من جراء هذا التنكيت.
قبل عدة أشهر، بدت انتخابات الدورة الجديدة للبرلمان مختلفة؛ فهي تجري في ظل تواجد حقيقي لمعارضة جديدة تترسخ خارج الماتريكس الفكاهي، بدأت مع مولد حركة 'كفاية' التي دفعت بالعمل السياسي إلى الشارع وأعطت الشباب فرصة للإيمان بأن شيئا جديداً يجب أن يولد خارج الماتريكس.
معارضة الماتريكس، تحت الإحساس بالحرج من وضعها التابع، مدت يدها هذه المرة للجمعية الوطنية للتغيير وبدا أن هناك توافقا حول مقاطعة المسرحية لتعرية السلطة من آخر أوراق التوت وتنبيهها أمام العالم إلى وجود شعب يعاني ويتطلع إلى تقليل جرعة الفكاهة السياسية.
وكعادتها، بدأت جماعة الإخوان في التنصل من الاتفاق مفضلة المصلحة الآنية، وهي بالنسبة للنظام، الذي يكرهها في الظاهر، طوق نجاة دائم من عند الله!
أسال تحرك الإخوان ألعاب أحزاب معارضة الماتريكس؛ فنزول 'الجماعة المحظورة' كفيل بأن يقنع السلطة بفك الكيس لتعطي المعارضة الماتريكسية بقشيشا والتضحية ببعض المقاعد لعدد من نوابها؛ فتوالى خروج الأحزاب على اتفاق المقاطعة.
ولأن معارضة الشبكة تتقن ألعاب سلطة الشبكة؛ فقد أخذت تشكو من ظلم السلطة التي يستأثر حزبها ومرشحوه بالدعاية في كل ما يتكلم في مصر، كأن الدعاية هي الضمانة الوحيدة لنزاهة الانتخابات!
حزب الوفد أعد إعلانات طالب بإذاعتها، الحكومة ترفض إذاعة إعلانات الوفد، حزب الوفد يهدد، الحكومة تقبل، حزب الوفد يخاطب الجماهير أخيرا في خطوة كسبها الحزب الذي يستند إلى ذكرى بعيدة من الألق يحملها اسمه، بينما لم يعد لحزب التجمع اليساري ما يذكر به بعد أن تقلص وجوده في مكتب رئيسه رفعت السعيد بحارة كريم الدولة قرب ميدان طلعت حرب!
'حزب الحُمر' كما كان السادات، الرئيس الأظرف يصفه في المناغشات الماتريكسية، لم يعد لديه ما يستر وجهه من حمرة الشيوعية في هذه المرحلة الحمراء من تاريخ مصر؛ حيث لا تفكر الغالبية العظمى من الشعب في حمرة الطماطم وأسعارها المجحفة.
لا أحد في مصر يثق في تنكيت أعضاء الماتريكس الذين لم يتركوا بابا للإصلاح أو النضال السياسي إلا من خلال القضاء الذي توالت أحكامه التي يمكن وصفها بحق بأنها تاريخية، لكنها تنتهي بالتفاف السلطة عليها.
من الحكم ببطلان عقد مدينتي الذي أدان السلطة بالتفريط في حقوق الشعب وبيع أرض مدينة سكنية بالبخس لرجل الأعمال الذي يحاكم بتهمة قتل مطربة لبنانية إلى حكمين جديدين أحدهما لوضع حد أدنى للأجور، والثاني لإخلاء الجامعات من الحرس، مرورا بمحاكمات ما سمي بـ 'نواب العلاج' الذين حصلوا على قرارات علاج مبالغ فيها على نفقة الدولة.
البرلمان جناح العدالة الثاني، أو الأول، لأنه مصدر التشريع التشريع، وأن يدين القضاء الجالسين على كراسي التشريع فهذه احدى مساخر الماتريكس، وليست السابقة الوحيدة؛ فلكل دورة فضيحتها المدوية، من نواب المخدرات إلى نواب الأمية إلى نواب القروض، ولا نعرف ما يمكن أن تكون سمة نواب برلمان الماتريكس في الدورة القادمة التي يستعد لها سادة مصر الافتراضية هذه الأيام!
لا يتردد سادة الماتريكس في التضحية ببعض رموز برلمان الماتريكس عندما يدينهم القضاء، لكن ما لا يمكن التضحية به هو زواج رأس المال من السلطة، أو بمعنى أصح اغتصاب رأس المال للسلطة، وهذا يتطلب الالتفاف على أحكام القضاء في حالة مدينتي وفي حالة حكم الأجور للحفاظ على وضع أقنان المصانع الذين يعملون بمرتبات سوفييتية لدى أباطرة اقتصاد الماتريكس الذين ينامون فقراء مثل غيرهم من المصريين ويصحون على منحة من الأرض المجانية ترفعهم إلى سدة القيادة الاقتصادية في الماتريكس.
وبينما يفتقد المصريون حمرة الطماطم بعد افتقادهم حمرة اللحم، يواصل المقيمون في الماتريكس التنكيت حول الانتخابات دون أن تعرف حمرة الخجل طريقها إلى وجوه السلطة أو المعارضة؛ بينما تتولى الصحف والفضائيات الحكومية والمعارضة والبين بين بث هذا الهزل باعتباره 'معركة انتخابية'.

0 مشاركات:

إرسال تعليق