أكاديمي سعودي يفند «بالكواشف الجلية»: الكاتب أبرز مرضا ينطوي على «حب الظهور وحقد على المجتمع السعودي»

الرياض: خالد العويجان
عاد أكاديمي سعودي يعمل في تدريس الفقه بإحدى الجامعات السعودية، وفند بعض الأقاويل التي تستند عليها جماعات متشددة في ما سماه «خداع وتدليس على الأمة». وأخذ رجل الدين السعودي الشيخ الدكتور عبد العزيز بن أحمد الحميدي الأستاذ المساعد في كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى بمكة المكرمة على عاتقه، إيضاح بعض الاستنادات الفكرية الخاطئة، التي يلجأ لها بعض التيارات المتشددة، التي تعمل جاهدة على تمزيق الصف.

وأبرز الحميدي، الذي خرج للمرة الثامنة على التوالي في إحدى الفضائيات السعودية، مستهجنا أفكارا كانت تحوي دعوات لتشتيت الأمة، بل «تشظيها وتمزيق صفها»، في إشارة منه إلى جماعات متطرفة، تعمل على تأويل بعض الأدلة من القرآن والسنة النبوية المطهرة لما يخدم أجندتها. ويرى الحميدي، أن الحاجة لبناء المجتمع المترابط مهمة، والصف الواحد والكلمة الواحدة هي أساس من أساسيات بناء الأمة والرقي بها، فالإنسان كائن حركي يتأثر ويؤثر، ولا يمكن أن يعيش وحده، كما يقول علماء النفس وعلم الاجتماع، الإنسان مدني بالطبع، وقبل أن يكون مدنيا بالطبع، فالاجتماع بالنسبة له ضرورة قدرية كونية أرادها الله - عز وجل - بالإضافة إلى كونها ضرورة شرعية، وضرورة عرفية وعقلية لحاجة البشر.

وتعجب الحميدي من أحد الكتب التي يستند عليها «متطرفون ومتشددون ومغالون» في الشريعة الإسلامية، وفند في خروجه للمرة الثامنة على التوالي في إحدى الفضائيات السعودية، متراجعا عن أفكار متشددة، كان يعتنقها، ما جاء في كتاب يسمى «بالكواشف الجلية» الذي يدعو لزعزعة الأمن والاستقرار ووحدة الصف وتشتيت الكلمة في مجتمعات إسلامية، وحدد من تلك المجتمعات، المجتمع السعودي المحافظ، الذي قُصد في تأويلات الكتاب، الذي اعتبره شاذا ومنحرفا فيما حواه من أفكار وتأويلات، خصوصا فيما يتعلق بالعلاقة مع الآخر، واعتبر الحميدي ما استند عليه الكاتب مرضا ينطوي على حب الظهور، بل وقد يكون هذا المرض حقدا معينا على مجتمع مسلم، وهنا المقصود المجتمع السعودي.

وتساءل الحميدي عن «حقيقة ماذا يريد هذا الكاتب، ألا يريد أن نجتمع وأن نوحد صفنا وأن نتدارس أمرنا فيما بيننا، أم أنه يريد، كما ذكر، إسالة الدماء وقتل الأبرياء، وهو يقول - كما قلته أو كما قرأته قبل قليل - أنه يحل الدم والمال، يحل الدم والمال بأسباب واهية، وبتفاسير لنصوص شرعية من منطلقاته الشخصية هو ومن مرضه النفسي ربما نحو هذه البلاد أو نحو فكرها ونحو المجتمع الإسلامي ككل، فالحقيقة أن هذا الكتاب يتحدث عن الإسلام ونصرة المسلمين وهو في الحقيقة إنما يتحدث عن أسباب ذل الإسلام والمسلمين، وهو في الحقيقة يريد أن يخرج دائرة الإسلام والمجتمع الإسلامي إلى دائرة الكفر والردة في كلماته وفي أسطره، والإشكالية تكمن عندما يدخل هذا الكتاب إلى فكر الشباب الإسلامي، وهو يعتقد فعلا كما يرى من عاطفة وحماس في الداخل أن هذا إنما يريد نصرة الإسلام والمسلمين وهو في الحقيقة، هو دعامة أصيلة وقوية لزعزعة صف المسلمين وتشتيت كلمتهم وقوتهم».

وسلط الأكاديمي السعودي الضوء في حديثه على أن «التكفير والمؤاخذات المكفرة، إسراف خطير جدا وعظيم جدا، ولا يمكن أن يصل إليه أحد إلا إذا كانت تقف خلفه نفسية استفزازية إقصائية، ناقمة أو حاقدة لسبب أو لغير سبب، ويريد أن يصل إلى هذه النتيجة، ولذلك يأتي بكل هذه الأشياء التي هي في النهاية تدل على أنه ما وجد شيئا، فمثل هذه الأشياء هي ضده وليست له، ففي جانب كان يأتي بنصوص ليست مكانها ويستدل بها على أمور تكفيرية يكفر بها المجتمع الإسلامي أحيانا بأكمله، ناهيك عن ولاته أو علمائه، لا المجتمع بأكمله يكفره، دعني أقرأ لك الآن بعض الكلمات العجيبة جدا وأريد منك تعليقا عليها حقيقة، يقول: «فيا علماء الإسلام والتوحيد هل يحرم الدم والمال لمن آمن بالقوانين الدولية؟ وكأنه يقول أصبح الدم والمال حلال، ثم يقول، هل يحرم دم ومال من آمن بالقوانين الدولية وشارك في تشريعاتها وتابعها وصادقها بل جالس أهلها وناصرهم وظاهرهم؟ ثم يقول أيضا، وهل يحرم دم أو مال من آمن بقوانين مجلس التعاون الخليجي؟، ثم يقول، هل يحرم دم أو مال من دخل في دين ميثاق الجامعة العربية (جعل الميثاق الدين) أصبح يسمى المواثيق التي تجمع الدول بينها البعض دينا».

وقال الحميدي هنا «أنا حقيقة أستغرب، حتى نكون نطبق ما نتحدث فيه على أمر حقيقي وواقعي، يتحدث في طياته عن كل ما يدعو إلى زعزعة الأمن والاستقرار ووحدة الصف وشتات الكلمة، تستغرب وهو يستدل بآيات وأحاديث ويوجهها نحو التوجيه الذي يزعزع اجتماع كلمة الأمة، نريد أن نطبق كلامنا على هذا الكتاب وعلى مؤلفه، لنرى كيف كانت هذه الكتب وأمثالها مما يدعم فكر الغلو وفكر التكفير سببا في تغيير فكر كثير من الشباب، ففي الحقيقة أنا قرأت هذا الكتاب قراءة - إن صحت العبارة - تحليلية، محاولا أن أقف على: لماذا اختار المجتمع السعودي وشن عليه حملة شعواء شديدة جدا، رغم أن المؤلف ليس من المجتمع السعودي، ويقيم خارج المجتمع السعودي، هذه حملة شعواء شديدة جدا، اضطر فيها للوصول إلى مراحل ما كنت أتصور أنا ممكن واحد متكلم يصل إليها، سواء في الاستدلال على التكفير الذي أراده، أو في مقاصده وإراداته والحلول التي طرحها».

وأضاف الحميدي مسترسلا عن الكتاب الذي عده خاليا من المنهجية العلمية، وقال «عندما ترى الآيات وبعض النصوص وفهم السلف - رضوان الله تعالى عليهم - للنصوص التي تدل على اجتماع الكلمة ووحدة الصف وما كان عليه الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - في ذلك، ثم تأتي الآن لتجد فكرا يدعو إلى الانقسام وكل ما يدعو إلى الانقسام والتشتت والتشظي وأقصد بالتشظي، أن أصبحت الجماعات الإسلامية بعضها يضرب بعضا، بعضها يكفر بعضا، بعضها يفسق بعضا، تستغرب أين المستند، ومن أين أتوا بما يدل على أننا نكفر بعضنا بعضا مع أن الآيات والأحاديث، تأتي وتقول: عليكم أن تعتصموا بحبل الله، عليكم أن تجتمعوا، عليكم أن توحدوا الصف وتوحدوا الكلمة، يعني فيها النصر وفيها القوة، يعني أين تعتقد المشكلة هل هي في فهم النص الشرعي أم لهم مستندات أخرى جديدة أتوا بها ليدعوا لهذا الفكر، المشكلة في مرض في النفوس، قد يكون هذا المرض حب الظهور، قد يكون هذا المرض حقدا معينا على مجتمع مسلم».

ويرى الحميدي أن «الكتاب يخلو من أي منهجية علمية، فلاحظت عليه عدم وجود منهجية، مثلا منهجية استنباطية - أنت تقول ذكر آيات وذكر أدلة - ما لاحظت أن القضية الاستنباطية الحقيقية ليست موجودة، لم يجعل النص والدليل الشرعي وفهم السلف منطلقا ليصل إلى النتيجة، هو وضع النتيجة ثم ذهب يبحث هنا وهناك عما يسند، وهناك فرق كبير جدا، بين أنك عندما تبحث قضية من خلال أدلتها، من خلال نصوص السلف وغير مقرر في البداية النتيجة، تدرس النص الشرعي ثم تقرر النتيجة، فالنص هو الذي يقودك إلى الحقيقة وإلى الحق وتكون متجردا في ذلك، وبين أن تضع أنت من البداية ما تريده، يريد تكفير هذا المجتمع - صاحب هذا الكتاب - ستكون قراءته انتقائية أول شيء، انتقائية للنصوص، يأتي بنصوص حتى ما تدل على المراد، إلا بوجه من التعسف، وجه من الغرابة، وترك نصوص أوضح وأصرح تبطل مقالته، فبات يخفيها».

وزاد الحميدي «أريد أن أعطي أمثلة، وأحضرت بعض الأمثلة هنا، بل وسآتي بغرائب أنا ما كنت أتصورها شخصيا حقيقية يمكن أن يصل إليها متحدث أو متكلم يبني قضية من أخطر القضايا، وهي الحكم على أمة كاملة؛ بولاة أمرها، بمشائخها، بمجتمعها، فهو كان يتحدث في الكتاب ويقول: لم يعد مسلما إلا أنا ومن حولي، جملة وتفصيلا، يعني هذا قرار خطير وخطير جدا وعظيم للغاية يصل إليه الإنسان إلا إذا كان ربما جاءه وحي خاص، ربما يمكن أن يصل لهذه النتيجة، ما هي المستندات؟ مذهل جدا هذا قبل أن نذكر مستندات، كل متكلم أو كاتب أو مقرر لقضية، إذا شعر هو أنه فاقد للحجة القوية، فيعمد إلى أسلوب مشهور جدا، عند أرباب ما يسمى بالتيار (الغنوصي) فالغنوصية هي تيار فكري له أهداف خفية، كل شخص له أهداف خفية لا يظهرها إلا في مراحل معينة، يضع أهدافا أخرى تسوق له وتروج له حتى يصل إلى مبتغاه، فإذا وصل إلى مبتغاه أظهر في الحقيقة أهدافه الخفية الحقيقية، يسلك هذا دعاة باطنية كثيرون، دعاة تنظيمات سرية مجهولة، يسلك هذا حتى بعض المجرمين بأهداف إجرامية معينة، يسمونه التيار الغنوصي، فيه غموض، تيار هلامي خفي، لا تعرف أوله من آخره، لا تعرف ظاهره من باطنه، يعتمد الضبابية، يعتمد الهلامية، ويعتمد على ثلاثة محاور، المحور الأول منها تهويل العبارة».

فالقضية التي يراها ويفندها الحميدي هي «تهويل العبارات، يضخم العبارات ويضطر تحت تضخيم العبارات إلى أن يصل إلى المحور الثاني وهو الطعن في كل عالم أو مفكر أو مسلم آخر يخالفه الرأي، ليسقطه بالعبارات العظيمة الفخمة، كما صنع الخوارج الأولون، أسقطوا حتى الخلفاء الراشدين كعثمان وعلي بن أبي طالب، بتهويل العبارات ليسوقوا لرأي مجتزأ بل فاسد عقلا ونقلا من آرائهم الخاصة بهم، والثالث تصوير أنفسهم كصاحب هذا الكتاب، أنه هو المنقذ من الضلال «إن صحت العبارة»، المنقذ من الضلال، ترى هذا ما تورط فيه الإمام الغزالي من قديم وسلك مسالك فكرية كثيرة جدا، حتى اقتنع في مرحلة من مراحله أنه هو سيؤلف كتبا تنقذ من الضلال، ثم عرف هو نفسه أن كتبه هذه لا أنقذت من الضلال ولا غيره، بل كانت هي من جنس الضلال فتركها أيضا، فتصوير الشخص نفسه على أنه هو المنقذ من الضلال، هو حامي حمى التوحيد (أنا قرأت له عبارات) وأنه هو الذي سيأتي من وراء الصفوف، يذب عن التوحيد الخالص وكذا، هذه كلها عبارات تسويقية، مثل صاحب بضاعة مغشوشة فاسدة، يبهرجها ويزخرفها ليروج لها لا أقل ولا أكثر».

وزاد الأكاديمي السعودي العائد إلى جادة الصواب أن «هناك كثيرين يداعبون العاطفة والناس بالكلام، ولذلك لما جاء ليطرح الحقائق التي بنى عليها التكفير، أتى بالغرائب والعجائب، كما سنذكر بعض الأمثلة في هذا الباب، أولا يعمد إلى أمور هي مباحة في الشرع، وأنا لما أقرأ هذا الكلام، استغربت جدا وما تصورت أن كاتبا يمكن أن يصل إلى مرحلة خطيرة كهذه، يعتمد على مثل هذه القضايا فهي أمور مباحة، بل هي أمور فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - فيبني عليها، ويجعلها مؤاخذة مكفرة، مثل تبادل الهدايا مع رؤساء الكفار، فيأتي مثلا ملك أو رئيس دولة مسلمة يتبادل هدايا مع رئيس دولة كافرة، التهادي مع الكفار يجعله صورة أو دليلا حتى يبني عليه قضية، إن هذا الحاكم وهذا الرئيس إنه كافر وإنه موال للكفار، والدليل أنه تبادل الهدايا مع الرئيس الأميركي، تبادل الهدايا مع الرئيس البريطاني، تبادل الهدايا مع كذا، ثم يعني إذا رجعت إلى أصول الإسلام، بل أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - تجده تبادل الهدايا وقبل الهدايا من كل طوائف المشركين، ليس ذلك فقط، فالنبي قبل الهدايا من اليهود وتهادى معهم، وتهادى وتقبل الهدايا من النصارى من رؤساء وملوك - كما سأذكر أدلة ذلك - وقبل الهدايا وتهادى حتى مع المشركين الوثنيين، ليس حتى المسالمين بل حتى المحاربين، وحتى تبقى القضية منهجية ولا أحد يقول ربما خاصة بالنبي فعلها كذا، الإمام البخاري أصّلها أصلا في «الجامع الصحيح» في كتاب اسمه (كتاب الهبة والهدية) من كتب الجامع الصحيح للبخاري، بابين متواليين يمكن الرجوع إليهما، الباب الأول هو باب الهدية للمشركين أي ما يقوم به النبي بالهدية للمشركين، ذكر هدية النبي لملك أيليا ، حديث أبي حميدة الساعدي في الصحيح، وأيليا بلدة في فلسطين كان يملكها نصارى يحكمونها ولهم ملك تبادل النبي الهدايا معهم، وأرسل هو إلى النبي بغلة بيضاء تسمى (الدندق) كان يركبها النبي يوم حنين في غزوة حنين، وكساه بردا وأجازه النبي وكتب له كتاب أمان، بناء على هذا التواد، ليس التواد بمعنى، وإنما التواد بالهدايا، وإنه يريد المسالمة مع النبي ولا يريد المعاداة ويريد الموادعة، فجعل الهدية إلى النبي سبيله، رد النبي عليه بهدية وكتب له كتاب أمان له وببحرهم أي بكل من تحت رعيته، فتبادل الهدايا مع بعض المشركين، كما في حديث عبد الرحمن بن أبى بكر، أن رجلا من المشركين جاء وكانوا في سفر مع النبي وكان معه غنم، فقال النبي تعطينا بيعا أم هدية، تهدينا أم لا، قال بيع ما عندي هدية فاشترى منه النبي، فقوله (أو هدية) أي إن الأمر فيه مساحة، فيه إتاحة، وقبل هدية اليهودية زينب في خيبر التي وضعت فيها السم، شاة مسمومة، قبلها وأكلها وتأثر بذلك السم - عليه الصلاة والسلام، فالأمر متاح في الشريعة، وفعلها النبي بغير ضرورة وبغير حاجة وليس من منطلق ضعف أو دفع شر وإنما فعلها وهو متمكن، فإذا قام بعض من ملوك المسلمين أو بعض من أفراد المسلمين بالتهادي مع الكفار لمصالح معينة يقدرها لإظهار وجه مشرق، فيعني عند المسلمين الموادعة والتسامح أو نحو ذلك».

وسلط الحميدي الضوء على ما يحويه الكتاب في طياته من «ربط ما بين العطن الفكري وبين الجهل، كثير من النصوص الشرعية إما أن تؤول تأويلا خاطئا أو أنها تُجهّل تماما، ثم يأتي الشخص ليبني فكرا قائما ويكون نتاجه فكرة أو تفسيقا وهو في الحقيقة لم يعلم النص الشرعي ولم يفهمه ولم يؤوله، كما فهمه السلف، فهذا الكتاب ظهر لي أنه يتوافق مع طرح وفكر الخوارج الأولين سواء في النتائج أو في المداخل، النتائج هي وسائل الخوارج الأولين، تكفير كل المسلمين بمن فيهم الصحابة، وبمن فيهم حتى الخلفاء الراشدون كعثمان وعلي، ونتج من هذا - في زعمهم - أنهم ضربوا بينهم هم أنفسهم أولا ومن وافقهم بسور وحجاب لا باب له، حتى لا يأخذ الناس من علم الصحابة ولا من فهمهم بما يكشف باطل هذا أولا، ثانيا عمدوا إلى آيات وأدلة في القرآن نزلت في المشركين وفي الكفار الصرحاء الأصليين، فنزلوها على المسلمين - وهذا ليس كلامي - هذه المنهجية والمدخلية الخطيرة، كشفها الصحابة في منهج الخوارج الأولين، وهي نفس مسالك هذه الكتب، فالبخاري - رحمه الله - في كتاب اسمه (استتابة المرتدين والمحاربين وإقامة الحجة عليهم) عقد أول باب فيه، عن «قتال الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم» وصدر هذا الباب بكلام صحابي وهو عبد الله بن عمر وهو مهم جدا، كشف فيه «الالتوائية الغنوصية» هذه وإن كان ابن عمر لا يسميها الغنوصية، ولكن هي الالتوائية، فسئل ابن عمر عن الحرورية، فقال هم شرور خلق الله وهم شرار خلق الله، أرجو أن تلاحظ ويلاحظ كل سامع، شرار خلق الله مع ما قدمته في الفقرة السابقة، في بداية الحلقة من حديث (أبغض الناس إلى الله مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية)، فتتوافق النصوص؛ شرار خلق الله، أبغض الناس إلى الله، الذين يؤدي كلامهم أو فعلهم إلى هذا الغلو والإجحاف العظيم في التكفير ولشق الصف وبإعادة الناس إلى أحوال الجاهلية الأولى، قال هم شرار خلق الله قالوا ماذا فعلوا قال: عمدوا أو قال ذهبوا إلى آيات أنزلها الله في الكفار فجعلوها على المؤمنين وبنوا عليها أحكامهم الخاطئة، فليس هو سوء فهم للنص، وليس هو حتى فهم لبعض النصوص وغفلة عن نصوص أخرى، كما يقع ربما لي ويقع لغيري، قد تفهم النصوص فهما صحيحا، ولكن هذه النصوص لها مكملات من النصوص الأخرى، يكون خطأ ما نظرت إلى النصوص الأخرى التي فيها استثناءات».

فهنا يرى الدكتور الحميدي أنهم «عمدوا عمدا إلى آيات لم ينزلها الله في المؤمنين ولا في المسلمين ولا حتى في ضعاف الإسلام وإنما أنزلها في كفار صرحاء فلووها ليا عظيما فجعلوها على المسلمين، فقد يقول قائل هذا كلام عام، نريد ربطه بهذا الكتاب، فنحن نتحدث عن هذا الكتاب كمرجع من مراجع فكر التكفير والغلو، فربط ما تتحدث عنه ببعض المسائل أو بعض القضايا التي ذكرها هذا الكتاب، من حيث جعل كل أنواع المصالحات والموادعات والمعاهدات التي يوقعها أمراء المسلمين أو حكامهم مع أي أمم ودول كافرة، ينتج منها نوع من المصالحة - كما تحدثنا في حلقات سابقة - أو نوع من الموادعة أو نوع من كف الاعتداء، كما يسمى في عالمنا اليوم معاهدات عدم اعتداء توقعها الدول بعضها مع بعض، أو حتى الاشتراك ضمن مواثيق دولية، كالمواثيق الحاضرة التي ينتج فيها رعاية حقوق معينة، تتفق عليها أصول البشر ويستخدم فيها القياس البشري، هو ذكر هذا في كلامه، ويجعلها ناقضة يجعلها لأصل الولاء والبراء الذي يجب أن يكون عليه المؤمن، وبالتالي جعلها كلها من أدلة التكفير التي قصدها».

وعاد بالذكر على ما تطرق له في حلقات سابقة، وقال «نحن قصدنا في حلقات سابقة أن ممارسة النبي لأنواع المعاهدات والمصالحات، وهذه ليست علاقة من قريب ولا من بعيد في الولاء والبراء، وإنما هي تحقيق أكبر قدر ممكن من المصلحة للأمة المسلمة، ليس مطلوبا من الأمة المسلمة أن تكون طوال حياتها محاربة وطوال وقتها مقاتلة، وليس مطلوبا ذلك من المسلم، متى يبني، متى يتعلم، متى يستقر، متى ينمو المجتمع المسلم إذا تعادى مع كل الأطراف وإذا استعدى حتى كل الأطراف؟، النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتركوا ما تركوكم» في حديث مشهور عند الصحابة، ولذلك معاوية بن أبي سفيان، أريد أن أذكر معاوية وكان ملكا متمكنا في زمنه وليس حتى ضعيفا وليس خائفا وكانت جيوشه وكتائبه تضرب في الأرض كلها، وما كان يبالي بأي حكم في ذلك، لا روم ولا فرس، لأنه كان قويا جدا في زمنه بعد أن استقر له الأمر بعد الفتن التي صارت أيام علي وما بعده، ومع ذلك لما كاتبه عامله على خراسان قال «بأنه أوقع مقتلة بالترك»، الترك ليس الشعب التركي الذي هو موجود، وإنما شعوب شرق الأرض كلها وغيرهم، لامه معاوية وقال: لا تفعل حتى يأتيك أمري، إني سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول (اتركوا ما تركوكم) الخير لك إذا وادعك قوم وتركوك أن تتركهم في حالهم، تريد أن تقول نوصل الإسلام إليهم؟، هناك وسائل أخرى كثيرة؛ أن توصل لهم الإسلام من خلال المعاملات، من خلال المعاهدات، من خلال الدعوة، من خلال البيان، من خلال الوفاء لهم، من خلال أمور كثيرة جدا يصلهم خير كثير مما قصدته، ربما تكون الحرب أو الغزو ليس مطلوبا، فهذا - مؤلف الكتاب - يجعل كل أنواع المعاهدات من المؤاخذات المكفرة، وهذا غلو شديد».

وتولى الحميدي تبيان بعض العبارات التي تحمل تأويلا فكاهيا، وقال «وجدت عبارة ضحكت لما قرأتها، كما قال المتنبي (وضحك أشبه بالبكا) يعني أتى ليستدل بالميثاق الذي وضعته دول مجلس التعاون الخليجي، ولذلك وقفت على هذا وأسوق هذه للتعجب أو ما أدري ماذا أقول، يعني لما اجتمعت دول مجلس التعاون الخليجي وكونوا هذا المجلس الذي يسمى مجلس التعاون الخليجي، وضعوا بينهم ميثاقا، لماذا نحن وضعنا هذا المجلس؟ ما هي أهدافنا؟ فأول بند وضعوه هو أورده في الكتاب وجعله مؤاخذة مكفرة وناقصة لتوحيد الأنبياء والمرسلين، هذا عجب جدا، فقال اسمعوا ماذا يقولون رقم واحد، البند الأول في ميثاق دول مجلس التعاون الخليجي؟ قال تعمل دول مجلس التعاون على توحيد الرؤى بينها في مجالات السياسة ومجالات الاقتصاد لتحقيق المصالح المشتركة بين هذه الدول؟ فهو أخذ كلمة توحيد، واستخدام كلمة توحيد هو استخدام لغوي محض، كما أقول لك أنا وأنت يا دكتور نريد أن نوحد كلامنا حول موضوع معين، وأريد أن يكون هدفنا واحدا، هل يأتي أحد عاقل ولو عنده شيء من العقل ويقول أنتم أتيتم بتوحيد غير توحيد الأنبياء والمرسلين، فأتى بهذا النص ثم علق عليه وحط علامات استفهام كثيرة وعلامات تعجب من منطلق التهويل، قال انظروا يا أولى الألباب، انظروا إلى هذا الكفر، انظروا، هل هذا توحيد الأنبياء والمرسلين، كأنهم قالوا نأتي ببوذا نعبده أو نأتي برام إله الهندوس أو نأتي بالصليب أو ماذا قالوا؟ تكون جهودنا موحدة نحن دول يجمعنا دين واحد تجمعنا جغرافية واحدة بيننا جوار، من الخير لنا أن تكون رؤيتنا واحدة في عالم يستقطَب حول بعضه في تجمعات كما نعلم، فقد استخدموا كلمة توحيد استخداما لغويا، تقول رؤيتنا السياسية واحدة، رؤيتنا الاقتصادية واحدة، هذا يعطينا قوة وهذا كلام صحيح وكما قال الشاعر: (تأبى الرماح إذا اجتمعنا تكسرا) فجعلها كأنهم أتوا بتوحيد مصادم غير توحيد الأنبياء والمرسلين، وهذا شيء لا يمكن أن يصل إليه الفكر العاقل، يعنى حتى كلمة غلو أنا أرى أنها قليلة في مثل هذا الكتاب، يعني شيء خطير جدا يشبه عندي أشد أنواع طوائف الخوارج الأولين الذين فقط زكوا أنفسهم ورأوا في أنفسهم فقط الذين فهموا حكم الله ذلك من أسمائهم المحكمة، أي فهمنا فقط حكم الله وغيرنا لم يفهمه، ثم هكذا من لم يقبل قولنا فهو المرتد والكافر والمباح الدم كما ذكرت في بعض منقولاته».

هذه حقيقة من الأشياء التي يذكرها، فيأتي إلى المبالغات التي ذكرتها أنت، فيأتي ليكفر إمام المسلمين والدولة التي ينتمي إليها الإمام المسلم، ويكفر علماء الإسلام في تلك الدولة، بل يكفر حتى الشرطي الذي ينتمي لهذه الدولة، بل يحكم عليها بالردة، حتى إنه يقول في كتابه «إنه لا يصح لمسلم شم رائحة التوحيد وعرف الشرك وذرائعه وأبوابه أن يكون ظهيرا أو معينا أو نصيرا لهذه الدولة وأمثالها من الدول المرتدة الكافرة» يعني كفّر الدولة بأكملها بما تتضمنه من ولي الأمر والعلماء والشرطة التي فيها، والمجتمع الذي يقف في صف هذه الدولة جعلها كلها كافرة، بل مرتدة ليس كفرا أصليا، فقال مرتدة تماما عن الإسلام، وهذا من العجيب حقيقة في هذا الكتاب، يعني حقيقة الكتاب مملوء بتغيير الحقائق ومملوء بما يدعو إلى تشتيت الكلمة وتشظيها.

ويسترسل الشيخ الحميدي «اجتمع في الاجتماع الضرورات الثلاث والدلائل الثلاث العقلية والعرفية والشرعية والقدرية، ففي القرآن الكريم آية تتحدث عن الإنسان، حيث وصفه الله - عز وجل - بوصف الخليفة، فالآية المشهورة في سورة البقرة التي قال الله تعالى فيها (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) فسماه خليفة، فقد لاحظ بعض أهل التفسير ملاحظة جميلة جدا هنا، فعبد الرحمن بن زيد التابعي، اختار تفسيره الإمام الطبري المشهور، وصف الله للإنسان الأول بمعنى الاستخلاف، وسمى الإنسان الأول حتى قبل وصف البشرية وقبل وصف الإنسانية وقبل وصف الآدمية وقبل أن يسميه آدم وقبل قصة السجود له، وقبل ما سماه الله خليفة لأن من مرادات القدر عند الله تقديرية، وقد أراد في البداية الحياة البشرية على هذه الأرض أن يكون ذلك بأن يخلف بعضهم بعضا ويستخلف فيهم من يجتمعون عليه بمسمى الملوك والرؤساء والولاة بأي مسمى، ولكن لا بد من رأس يقع عليه الاجتماع، فسمى الإنسان الأول بهذا الوصف، ولذلك فإن علماء الدراسات الاجتماعية المسلمين السابقين، كابن خلدون مثلا في مقدمته المشهورة وعالم الاجتماع الأندلسي المشهور صاعدة الأندلسي له كتاب جميل في هذا، لاحظ هذه الملاحظة في الإشارة القرآنية بالتكوين القدري بإرادة الاجتماع من الله - عز وجل - للبشر على هذه الحياة في كتاب له سماه «طبقات الأمم» بيّن فيه قضية الاستقطاب، فيكون الاستقطاب عليه اجتماعا وحكما وملكا».

ويرى الحميدي «أن الشريعة جاءت وجاء الأنبياء والرسل، فكرسوا وأكدوا هذه الضرورة بدليل الآية - في آية بني إسرائيل لما قالوا لنبي لهم، ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله فاحتاجوا إلى الملك والقائد والرأس ليجتمعوا عليه فتحدث القوة التي بها يستطيعون أن يقاتلوا، وبها يستطيعون أن يأخذوا حقوقهم وبها يستطيعون أن يتمكنوا، وأن يبنوا حضارة وإلا لا يمكن، إذا صار الناس متنازعين متفرقين متشرذمين لا يمكن ذلك، وهذا الداء كان هو داء الأولين قبل الإسلام، فالعرب في الجاهلية لا رأس لهم يجمعهم، ولا قائد لهم يقودهم، متنازعة، قبائل متفرقة، ولذلك تقع بينهم الثارات والغارات والسلب والنهب، ولذلك كانوا من أضعف الأمم وأبعدها عن الحضارة وأبعدها عن القوة وأبعدها حتى عن الذوق يأكلون الميتة ويئدون البنات - كما نعرف من أحوال العرب الأولين - فصار من مقاصد البعثة النبوية، ومن مقاصد الإسلام العظيمة إلغاء هذا التشرذم والاجتماع على إمام واحد، فكان النبي - عليه الصلاة والسلام - في حياته، وكل من يخلف بعده في الأمة بالولاية والحكم، فصارت هناك ضرورة شرعية أضيفت إلى الضرورة إن صحت العبارة – قدرية الأولى التي قضاها الله في طبائع الاجتماع في البشرية».

ويضيف الحميدي «كنت أتعجب من مفكر مصري اسمه زكي نجيب محمود من رواد المدرسة الوضعية، قال بأن أول من لمس طبائع الاجتماع وقضايا الاستقطاب هو عالم الاجتماع الألماني المشهور أميل دوركيم، وأنه لا بد من قيام ممالك وأمم ودول يقع على رؤوسها الاستقطاب، وبها تبني الحضارات، يقول: أول من لاحظ ذلك وبدأ يكونه عالم الاجتماع الألماني المشهور (أميل دوركيم) وكما قلت ابن خلدون دراساته كلها قائمة على هذا وهو قبل (دوركيم) بمئات السنين، وصاعدة الأندلسي، وكتاب «طبقات الأمم»، أنا رأيته في معرض في ألمانيا قبل سنوات مترجم إلى عدة لغات، فهو كتاب بديع جدا وكله مبني على آية (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) فيظهر من هذا أن أي مصادمة أو أي محاولة فكرية علمية عملية، تلغي هذا الجانب أو تضعف الاستقطاب والاجتماع وتتنصل منه وتلغيه أو تحاول إضعافه، هي تصادم ليس فقط الدليل الشرعي والحقيقة الشرعية، بل تصادم الضرورة الكونية الاستخلافية مع القضية العرفية المصلحية التي اقتضتها طبائع البشر بحسب تكوينهم ومدنيتهم، والإنسان - كما قالوا - مدني بطبعه».

وأضاف «فعلى الرغم من أن اجتماع الكلمة ووحدة الصف ضرورة حضارية لبناء الحضارات، بل إنها ضرورة شرعية من أجل التمكين والقوة والنصر، فإننا نجد هنالك بعض من يأتي بفكر من أجل التمزيق والتشتيت والتشظي، والأغرب من هذا أن يكون هذا بدعوى نصرة الدين ونصرة الإسلام والمسلمين، أقصد بهذا فكر الغلو، فكر التكفير، فكر التفسيق، فداء الغلو الذي يبني عليه قضايا التكفير وقضايا إحداث الشرخ داخل أي مجتمع مسلم مرتبط ارتباطا عضويا، فالمجتمع مكون من أسر وعوائل وقبائل تجمعهم قواسم مشتركة كثيرة، أعلاها وأجملها وأفضلها الدين، فهو الجامع الأكبر والأعظم الذي هو أعظم من الاجتماع بهم تحت مسمى القبيلة، أو الاجتماع تحت مسمى العشيرة، أو تحت أي مسمى آخر، بجامع الدين وهذا الذي أراده الله – سبحانه وتعالى – وأراده النبي من مقاصد الشرع - كما ذكرنا نص الشافعي قبل قليل في تفسير الآية في سورة النساء - من ضرورات الشرع، فأعجبني كثيرا دليل عظيم وأنا أقلب هذه القضايا الإمام البخاري - رحمه الله - في كتاب «الجامع الصحيح» وأنا أحب الرجوع إليه كثيرا، لأنه لا بد أن تكون لنا مرجعية من علم السلف الأولين، الأئمة الكبار، خصوصا مثل هذا «الجامع الصحيح» الذي قد نغفل عنه بقراءة بعض الكتب الفكرية أو بعض الكتب الحديثة، وأنا أظن أن هذه القضايا ربما ما أطرقها العلماء السابقون رغم أنهم أصلوها بتأصيلات».

فمن هذه الكتب التي سنتحدث عنها أو عن بعضها، كتاب الأحكام، فهو كله وأبوابه في قضايا تأسيس الولايات وحقوق الولاة وحقوق الرعية، ووجوب ذلك، وصدره بالآية التي ذكرها الشافعي في سورة النساء وهي (وأولى الأمر منكم) وقد أعجبتني كثيرا، ثم أورد حديث عبد الله بن عباس. وأنا في البداية أشكل على ما وجه هذا الحديث في قضية سنة الاجتماع، وإن من المقاصد الشرعية التحذير من أي قادح فيها أو إضعاف لها، أورد حديث ابن عباس في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مهم جدا، هذا الحديث أرجو أن يراجع ويثبت لكل من يريد الاطلاع على مثل هذه القضايا العظيمة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس (أعتى - أشد - الناس على الله عتوا) وفي رواية في البخاري «أبغض الناس إلى الله ثلاثة» رواية «أبغض الناس إلى الله» ورواية «أشد الناس إلى الله عتوا» يعني أعظم الناس إجراما وأشد الناس على الله عتيا وأبغض الخلق إلى الله ثلاثة أصناف، هذا مع قوله تعالى (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا) خطيرة جدا، أول شيء ذكره، قال مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، فراجعت ما يذكره العلماء ما مقصد النبي، وماذا يريد أن يعلمنا في جعل أبغض الخلق إلى الله أول بند ذكره مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب - هي أصلها متطلب ولكن أدغمت التاء والطاء - ومطلب دم امرئ مسلم ليريقه بغير حق، ابتدأ بمبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ووسط الملحد في الحرم، وختم بأي وسيلة تطرق ينتج منها إراقة الدم الحرام ، في ترابطية، في تلازمية.

فلو ربطنا الأولى وهي أمور الجاهلية أو مبتغى الجاهلية، فقد خص الحافظ بن حجر والقرطبي أبو العباس في كتابه (المفهم) الذي شرح به صحيح مسلم، بين أن الجاهلية المقصودة هنا، المقصودة هنا، هي إعادة الأمة الواحدة بعد اجتماع الكلمة إلى ممزقة وسنن الجاهلية الأولى والنزاع من القبائل والثارات والغارات، وهذا ما أشار به أبو بكر الصديق في ثاني حديث أورده البخاري في هذا الموضع، لما قال لتلك المرأة - وقد ذكرنا هذا في درس سابق - لما قال للمرأة لما قالت له ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاءنا الله به للاجتماع على الكلمة، قال ما استقامت لهم أئمتهم واستقاموا لأئمتهم، هذا هو الاستقطاب على الإمام والرأس، فأي إخلال به هو محاولة علم أو لم يعلم، أراد أو لم يرد لإعادة الأمة الواحدة والمجتمع الواحد إلى سنة الجاهلية الأولى، وفي تلازمية مهمة جدا، لا يجوز أن نتجاوزها الآن في هذا الحديث بين الثلاثة المذكورة، النبي ذكر أبغض الناس إلى الله ثلاثة، وهذا كلام نبوة، في تلازمية فكرية، في تلازمية ذهنية، هي في الحقيقة تلازمية واقعية بين إعادة الأمة أو العمل سواء باسم الغلو أو باسم التكفير أو باسم أي اسم آخر، إعادة الأمة إلى سنن الجاهلية من التمزق والتشرذم وإلغاء الرؤوس التي استقطب عليها واجتمعوا عليها من الولاة والأمراء والحكام، فهو في الحقيقة سيجر شئنا أم أبينا، علمنا أم جهلنا، إلى أخطر الأمور، وهي الاستخفاف بالحرمات الكبرى بما فيها حرمة المسجد الحرام وبيته وما يؤدي إلى إراقة الدماء ووقوع التحارب والتناحر.

هنا، أين نحن من قول الله - عز وجل - الأمر بالاعتصام والاجتماع والنهي عن الفرقة، آية من كتاب الله - عز وجل - تأمرنا بأن نعتصم وأن لا نفترق وأن نجتمع، وهي قوله تعالى وقد أشار إلى ذلك في سوره آل عمران (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) لا أفسرها أنا ولا حتى أنت، يفسرها الصحابة، فوقفت على تفسير رواه الطبري بسندين صحيحين، وفي تفسير الطبري يمكن أن يراجع لعبد الله بن مسعود الهذلي أحد الكبار السابقين الأولين فسرها بحبل الله قال: هو الاجتماع وعدم نزع اليد من الطاعة وعدم مفارقة الجماعة هو حبل الله في تفسير عبد الله المقدم: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، ولا تفرقوا، أضف إليه تفسير الإمام قتادة بن دعام السدوسي التابعي في الكلمة (لا تفرقوا) قال: إن لم يكن هؤلاء تفرقوا، فهكذا يقول قتادة والنص في تفسير الطبري إن لم يكونوا السبئية وهم غلاة الباطنية، والخوارج وهم غلاة التكفيرين أو الذين خرجوا عن جماعة الصحابة والمؤمنين، إن لم يكونوا هؤلاء فلا أدري من هم هؤلاء الذين قصدوا تفريق الأمة، بالفعل هاتان الطائفتان سواء غلاة الباطنية الذين يسلكون المسالك الغامضة، والمسالك الغنوصية أو المسالك، وفي النهاية إفساد أديان الناس، وإلغاء قوتهم واجتماعهم أو مسالك أهل الغلو من الخوارج - هذا تفسير قتادة مع تفسير ابن مسعود - ابن مسعود فسر حبل الله باجتماع الكلمة على الأئمة وقتادة فسر (ولا تفرقوا) بأن أعظم المفرقين هم طوائف غلاة الباطنية وغلاة الخوارج.

0 مشاركات:

إرسال تعليق