ذاكرة العراق.. عدنان الباجه جي (الحلقة 9) الباجه جي: شاهدت خروتشوف وهو يضرب المنصة بحذائه في الأمم المتحدة

الباجه جي يستقبل خروتشوف في مقر البعثة العراقية بنيويورك وإلى جانبه هاشم جواد وزير خارجية العراق، عام 1960 («الشرق الأوسط»)
معد فياض
كان أعضاء الأمم المتحدة يواصلون نقاشاتهم واستماعهم إلى كلمات ممثلي الدول، بينهم جواهر لال نهرو وجمال عبد الناصر وجوزيف تيتو ورؤساء حكومات، عندما ارتفع فجأة صوت رئيس الاتحاد السوفياتي خروتشوف، وما إن انتبه إليه الجميع في تلك القاعة الحاشدة حتى شاهدوه وهو يرفع حذاءه ويضرب به منصة وفد بلاده وسط ذهول واستهجان وسخرية الجميع.

بعد هذه الحادثة صار كلما ورد اسم خروتشوف، لم يذكر باعتباره رئيس دولة عظمى، هي الند للولايات المتحدة الأميركية، بل تذكر حادثة الحذاء هذه، وبكثير من التأويلات.

وسيكون الباجه جي، خلال اجتماعات الجمعية العامة في نيويورك عام 1960، أحد المحظوظين بمعايشة حدث تاريخي لكنه من نوع آخر، حدث اقترن برئيس الاتحاد السوفياتي، فكلما ذكر خروتشوف، تذكر حادثة ضربه لمنصة وفده في قاعة الجمعية بالحذاء، يتذكر عدنان: «كان خروتشوف قد قدم لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة اقتراح منح الاستقلال لكل الدول التي هي تحت الاستعمار، وفي فرصة الغداء دعاني رئيس الاتحاد السوفياتي إلى مأدبة أقيمت في مقر الممثلية السوفياتية، ودعا أيضا رئيس الجمعية العامة ورؤساء اللجان السبع الرئيسية التي أنا رئيس إحداها (الرابعة)، وكان كل أعضاء الجمعية ممثلين فيها، فأخذ خروتشوف يشرب كأسي فودكا نخب كل ضيف مدعو، فعندما انتهينا من دعوة الغداء كان قد شرب كثيرا جدا، ومن عادته كان يشرب فودكا بكثرة، وبعد الدعوة كان لنا اجتماع في الجمعية العامة، في هذا الاجتماع الشهير والتاريخي رفع خروتشوف حذاءه في الحادثة التاريخية المعروفة، ومن المؤكد أنه كان سكران».

وبتفاصيل أدق يقص الباجه جي هذه الحادثة: «كان الوفد السوفياتي يجلس خلفنا، إذ إن تنظيم مواقع الدول يتم حسب الحروف الأبجدية والقرعة، وكان يتحدث مندوب الفيلبين، عندما قام خروتشوف برفع حذائه، وقد شاهدت وزير خارجيتهم غروميكو منكمشا على نفسه خجلا، بينما كان رئيسه يتشاجر مع رئيس الجلسة الإسباني وقتذاك»، منبها إلى أن «المسألة بدأت تتصاعد منذ كنا في دعوة الغداء، عندما كان يتحدث عن قضية الكونغو، وفي الاجتماع صار نقاش حول مقترحه بمنح الاستقلال لكل الدول المستعمرة، فيما إذا سيتم بحث مقترحه أمام الجمعية العامة أو في إحدى اللجان، فأصر هو على بحث المقترح أمام الجمعية العامة، ووجدها فرصة مناسبة للحديث ضد الدول الاستعمارية، فرفع حذاءه وراح يضرب به المنصة التي أمامه، المخصصة للوفد السوفياتي وليس على المنصة الرئيسية كما يشاع، وكنا نحن وبقية الوفود قد استقبلنا هذه الحادثة بالضحك والسخرية والاستهجان، ذلك أن خروتشوف كان رئيس إحدى أعظم دولتين في العالم، الاتحاد السوفياتي، وكانت دولة عظمى بحق ولم يكن رئيسا لجمهورية من جمهوريات الموز، كما أن المكان الذي ضرب فيه بالحذاء على المنصة كان اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، أي أمام العالم كله».

بيد أن الأزمة بين الاتحاد السوفياتي والأمم المتحدة لم تتوقف أو تنته عند حادثة حذاء خروتشوف، بل أخذت مدايات أبعد بسبب قضية الكونغو «التي كانت تتفاعل آنذاك، حيث أعلن استقلالها في 30 يوليو (تموز) 1960، وحضر إلى الجمعية باتريس لوممبا كرئيس لوزراء الكونغو، وأنا التقيته هناك. لكن سرعان ما اختل الوضع الأمني في الكونغو وصار اقتتال ومحاولات انفصال، عندها استخدم همر شورت صلاحياته المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، التي تنص على أن من حق الأمين العام أن يلفت نظر مجلس الأمن إلى قضية يعتقد أنها تهدد السلام والأمن الدوليين، وقال إن قضية الكونغو تهدد السلام والأمن الدوليين وعرضها على مجلس الأمن الذي منحه (الأمين العام) صلاحية إرسال بعثة من الأمم المتحدة لمساعدة الحكومة الكونغولية لضبط الأمن، وقام بإرسال البعثة. كان من حق البعثة أن تتخذ قرارات من غير الرجوع إلى الحكومة الكونغولية، لأنه عمليا لم تكن هناك حكومة، لكن السوفيات اعترضوا، وهاجموا الأمين العام، وقالوا هذا خطأ. خروتشوف هاجم شورت بنفسه ورد عليه الأمين العام قائلا: إن (الدول الكبرى لا تحتاج إلى خدمات الأمم المتحدة، الدول الصغيرة فقط هي التي تحتاج إلى الأمم المتحدة، وأنا هنا أعمل من أجل الأغلبية الساحقة من الدول الضعيفة)، وقد نال رد الأمين العام استحسانا وتصفيقا حادا من قبل جميع الأعضاء. أنا تحدثت في الاجتماع ودافعت عن الأمين العام وقلت إنه كلف بمهمة من قبل مجلس الأمن ويجب أن يقوم بإنجاح المهمة، فلا نقف في وجهه ونضع العراقيل أمامه. لكن ما عقد الموقف هو مقتل لوممبا في هذه الأثناء من قبل جماعة تشومبي وبدعم من البلجيك، فقرر الاتحاد السوفياتي قطع علاقاته مع الأمين العام».

وفي بداية عام 1961 كان الباجه جي على موعد مع حدث مهني متطور، كان هذا الحدث سينقله إلى مصاف آخر من العمل الدبلوماسي في المنظمة الدولية، وينقل العراق والعرب إلى هذا المصاف أيضا، يذكر: «دعاني الأمين العام، وأنا كسفير في الأمم المتحدة فمن الطبيعي أن يطلب مقابلتي، وقابلته، فقال لي: (أنا في حاجة إلى مساعد لإدارة عمليات الكونغو في مقر الأمم المتحدة، ويكون بدرجة مساعد للأمين العام، يعني أعلى درجة في السلم الوظيفي)، وسألني فيما إذا كنت موافقا على ذلك حتى يطلب من الحكومة العراقية إعارة خدماتي للأمم المتحدة، فقلت له نعم موافق، لأني لم أفكر في نفسي في هذا الموضوع وحسب، بل فكرت في سمعة العراق والعرب، لأن هذا موقع جديد ومفيد لنا. وبالفعل طلب الأمين العام من وزير الخارجية العراقي موافقة الحكومة على تعييني في هذا المنصب، فطلب وزير الخارجية من عبد الكريم قاسم موافقته، لكن قاسم رفض ذلك وقال نحن في حاجة إلى خدمات الباجه جي كممثل دائم للعراق. لكن شورت ألح وطلب ثانية الموافقة وقال لوزير الخارجية نحن في حاجة له وهذا مفيد للعراق، ففاتح الوزير قاسم مرة ثانية وقال له إن هذا شرف عظيم للعراق، وهذه أول مرة يطلبون من بلد عربي ذلك وسيكون الباجه جي أول عربي يعين في هذا المنصب وهو مهم لنا، فوافق قاسم. لهذا وجهت وزارة الخارجية مذكرة تطلب رسميا موافقة رئيس الوزراء على تعييني في منصب مساعد الأمين العام للأمم المتحدة بناء على طلب الأمين العام». هنا يتدخل السوفيات ليقوموا بعمل انتقامي لا يؤثر على الباجه جي فحسب، بل على موقع العراق أيضا: «تبين أن السوفيات تدخلوا في الموضوع وضغطوا على قاسم وقالوا له: (كيف توافقون على التعامل مع الأمين العام ونحن قاطعناه؟!)، مع أن العراق لم يقاطع الأمين العام وكنا نتعامل معه بشكل طبيعي، كما ضغط الشيوعيون العراقيون الذين كانوا متنفذين في بغداد على رئيس الحكومة متعاطفين مع موسكو (كان يقال إنه إذا أمطرت في موسكو، رفع الشيوعيون العراقيون مظلاتهم في بغداد)، لهذا رفض قاسم وكتب على المذكرة: (يؤسفني عدم الموافقة لحاجتنا لخدماته)، وبذلك فوت على العراق فرصة كانت مهمة، أما أنا فقد شعرت بالحزن الكبير، لأنني كنت في حماسة الشباب وعمري كان 37 سنة، ووظيفتي سفير، والناس يعرفونني، وكنت سأكون أصغر مساعد للأمين العام في تاريخ الأمم المتحدة».

كان الباجه جي أكثر دبلوماسي تحدث في الأمم المتحدة عن قضية فلسطين «هذه قضيتنا»، هو يقول، وكان في انتظار فرصة أكبر للحديث المطول عن حقوق الفلسطينيين المغتصبة، يتذكر أنه: «للمرة الأولى التي أتصدى فيها لقضية فلسطين بشكل رئيسي وتكون القضية على عاتقي عندما تقرر تعيين مسؤول عن أملاك اللاجئين الفلسطينيين في إسرائيل، بالطبع رفضت إسرائيل هذا التعيين، فتحدثت أنا عن قضية فلسطين ووضع اللاجئين الفلسطينيين، حتى أن إحدى الصحف الإسرائيلية المهمة، إما (جويش أوبزرفر) أو (جورسليم بوست)، قالت إن (موقف إسرائيل تضرر بوجود الباجه جي الذي يقود الحملة في الأمم المتحدة ضدنا، ذلك لأنه من أكثر الممثلين العرب في الأمم المتحدة كفاءة في معالجة القضايا التي تصدى لها)، وكانت هذه شهادة العدو عني. وفي خريف 1961، عقدت الدورة الاعتيادية للجمعية العامة للأمم المتحدة، ألقيت خطابا شاملا ومهما عن القضية الفلسطينية ووضع اللاجئين الفلسطينيين، وكان لهذا الخطاب صداه، حتى أن الحاج أمين الحسيني المفتي بعث لي برسالة شكر وتقدير على هذا الخطاب، وعندما تركت الأمم المتحدة عام 1965 لتعييني وزيرا لخارجية العراق، أقامت منظمة التحرير الفلسطينية حفلا على شرفي وأهدتني درعا مكتوب عليها باللغة الإنجليزية (إلى عدنان الباجه جي لخدماته الجليلة للقضية الفلسطينية)، وأنا لا أزال أحتفظ به وأعتز به».

يظهر الباجه جي ألبوم صوره الخاصة خلال سنوات عمله في الأمم المتحدة، صور مع القادة والرؤساء ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية، يتأملها بكثير من الحنين وهو يذكر أسماء لأشخاص الظاهرين في تلك الصور من غير أن ينسى أي اسم أو مناسبة التقاط الصورة وتاريخها، يعلق: «الأمم المتحدة هيأت لي الفرصة في الظهور بين الأوساط العربية والعالمية. أنا دائما أقول إن الفرص التي أتيحت لي لم تتح لغيري أو لنادرين مثلي. فأنا دخلت الأمم المتحدة وعمري 23 سنة، حيث بقيت لمدة ثماني سنوات مقسمة على فترتين قبل أن أكون المندوب الدائم للعراق، وخرجت منها وعمري 43 سنة، وحتى عندما كنت وزيرا لخارجية العراق كنت أعمل كثيرا في قضايا تخص الأمم المتحدة وأشارك في اجتماعاتها كرئيس للوفد العراقي، يعني تستطيع أن تقول إني عملت في هذه المنظمة وبشكل دائم من عام 1951 وحتى عام 1969، يعني ما يقرب من عشرين عاما»، صور كثيرة، تبرز مجد الأناقة الكلاسيكية التي كانت سائدة آنذاك، أزياء نسائية راقية بحق، من ملابس وحقائب وأحذية، هنا يقف وإلى جانبه زوجته سلوى علي جودت وهي بأبهى أناقتها، وظهورها وهما يستقبلان يوثانت، سكرتير عام الأمم المتحدة، يقول باهتمام: «خلال الثماني سنوات والنصف التي عملت فيها ممثلا للعراق في الأمم المتحدة، كان من حسن حظي أن زوجتي بما لديها من مؤهلات اجتماعية وثقافية أسهمت في الكثير مما حققته من نجاح بصفتي ممثل العراق في الأمم المتحدة»، يستغرق في تأمله للصور وكأنه يعيش لحظات حدوثها ويتنفس رائحة العطور وينبهر بالألوان والأضواء التي كانت تسلط عليه باعتباره نجما دبلوماسيا ساطعا، يقول: «أنا أحببت العمل في الأمم المتحدة، وأحببت نيويورك، كانت هذه المدينة ساحرة وكنا نذهب هناك إلى السينما، ودعوات دبلوماسية متبادلة، ودعوات من المنظمات الثقافية ومنظمات المجتمع المدني وهي كثيرة هناك، لكن واشنطن لم تكن مثل نيويورك التي فيها مسارح ودار أوبرا، ولغرض الذهاب إلى الأوبرا أو المسرح، كنا نذهب إلى نيويورك»، على أن الصور التي تجمعه مع أعضاء الوفود العراقية أو وفود الدول العربية وحتى الغربية، ليست بينها أي امرأة بصفتها دبلوماسية، يوضح: «كان الوقت مبكرا، خاصة في بداية عملي في الأمم المتحدة، لعمل المرأة في الوسط الخارجي على الرغم من وجود كلية عالية للبنات، وكانت هناك موظفات في الحكومة، مدرسات ومحاميات وطبيبات، وفي مجالات حكومية أخرى».

لقد بدء الباجه جي (مشاوير حياته العلمية) والعملية مبكرا، بل كانت على درجة عالية من المستويات الأكاديمية، دخل المدرسة الأميركية ببغداد، والثانوية الإنجليزية في الإسكندرية، والجامعة الأميركية في بيروت، وحصل على شهادة الدكتوراه من أرقى الجامعات الأميركية في واشنطن، لهذا تميز في عمله على الرغم من حداثة شبابه، يوضح: «عندما أصبحت مندوبا دائما للعراق عام 1959 كنت أصغر مندوب دائم في الأمم المتحدة، حيث كان عمري 36 سنة. وفي عام 1960 عندما عينت سفيرا في المنظمة الدولية كنت أصغر السفراء على الإطلاق في هذه المنظمة، بينما كانت أعمار وتجارب بقية السفراء كبيرة بالنسبة إلي، بل إن حياتهم المهنية كانت على وشك الانتهاء أو أن لهم شأنا سياسيا مهما في بلدانهم لهذا منحوهم هذا المنصب الكبير، ذلك أن لمنصب السفير في الأمم المتحدة شأنا مهما وقتذاك، لكونه يمنح الحق في التدخل في القضايا الدولية، لهذا فإن غالبية من تعينوا سفراء في الأمم المتحدة صاروا وزراء خارجية في بلدانهم فيما بعد، أمثال محمود رياض وعمرو موسى وإسماعيل فهمي في مصر، وعبد المنعم الرفاعي في الأردن، وجورج حكيم وشارل مالك في لبنان، وأنا في العراق، وتربطني علاقات مودة ومحبة مع غالبية وزراء الخارجية العرب ومن ضمنهم أمير الكويت الحالي الذي كان وزيرا للخارجية، وكنت ألتقي به كل عام في نيويورك».

ويوضح أن «هذا المركز اكتسب أهمية كبيرة، وهذه الأهمية تأتي من العمل الذي يقوم به المندوب الدائم، وأنا كنت قد حققت سمعة طيبة لبلدي ولي شخصيا، وكان من حسن حظي العمل مع عدد من الشخصيات العالمية المرموقة، وكنت أحاول دائما أن أكون على المستوى العالي السائد في الأمم المتحدة في ذلك الحين، لهذا نجحت في عملي وهناك رسائل من مندوبي الدول العظمى وبقية الدول التي تشيد بعملي، كتبوها بمناسبة توددهم لي لانتهاء عملي كمندوب دائم وتعييني وزيرا للخارجية. وما حققته كان بجهودي، فالحكومة لم ترسل لي يوما أي تعليمات أو تتصل بي لاتخاذ هذا الموقف أو ذاك، بل كنت أتصرف بناء على تقديري للأمور وخبرتي في العمل (كنت أشتغل على كيفي)، لم تكن هناك سوى اتصالات روتينية، فأنا من أتخذ المواقف ثم أبلغ الحكومة بهذه المواقف».

إن القيم الأخلاقية النبيلة التي نشأ عليها الباجه جي جعلته يتحلى بالبساطة والتواضع على الرغم من غناه أكاديميا ومهنيا، هذا التواضع الذي يحول من دون نسيانه الآخرين من معاونيه، فهو ليس مثل غالبية من ينجح في عمله فينسب كل النجاحات إلى نفسه، بل يتذكر وبدقة: «يسعدني هنا أن أقول أيضا إنني حافظت على أحسن العلاقات مع جميع الذين عملوا معي في البعثة العراقية، أذكر منهم نوابي عصمت كتاني، الذي حقق فيما بعد مركزا متميزا سواء في الأمم المتحدة أو في خدمة العراق، حتى بلغ منصب مساعد السكرتير العام للأمم المتحدة قبل أن يصبح الممثل الدائم للعراق فيها، بالإضافة إلى انتخابه رئيسا للجمعية العامة عام 1981، وكذلك عدنان رؤوف - رحمه الله - الرجل اللامع الذي شغل فيما بعد مراكز عليا في سكرتارية الأمم المتحدة، وعلاء الدين جبوري الموظف القدير المثقف، والآنسة فيجاء إبراهيم كمال - رحمها الله - كانت دبلوماسية ذكية للغاية وقديرة جدا وشغلت مركزا رفيعا كموظفة في الأمم المتحدة، ولولا مساعدة هؤلاء وتعاونهم لما استطعت مطلقا أداء واجبي كمندوب دائم، وإني مدين لهم ولغيرهم من زملائي في البعثة العراقية بفضل تعجز الكلمات عن التعبير عنه».

ويشير الباجه جي إلى مسألة مهمة تتعلق بتاريخ عمله في المنظمة الدولية، يقول: «في نيويورك كانت المجموعة العربية في الأمم المتحدة تجتمع باستمرار لمناقشة توحيد مواقفنا وخطاباتنا وقراراتنا في القضايا المشتركة، وغالبا ما كانت قضية فلسطين هي القضية المشتركة، أما العراق فلم تكن عنده أي مشكلات تستوجب طرحها في الأمم المتحدة آنذاك»، يصمت للحظة كمن يتذكر حدثا ما، ثم يبتسم وهو يقول: «باستثناء قضية واحدة تتعلق بالعراق، حيث طالبت منغوليا عام 1963، بعد الانقلاب البعثي الذي أطاح بعبد الكريم قاسم، بإدراج قضية استخدام العراق العنف ضد المدنيين الأكراد، وحدث ذلك بتحريض من السوفيات، لكون منغوليا كانت ضمن المنظومة الاشتراكية، وقد وجهت رسالة شديدة اللهجة إلى السكرتير العام للأمم المتحدة قلت فيها إن هذه قضية داخلية، فسحبت منغوليا طلبها ولم تدرج هذه المسألة في جدول الأعمال، كانت هذه هي المسألة الوحيدة التي جاء فيها ذكر العراق كقضية في الأمم المتحدة خلال عملي».

للباجه جي مواقف مبدئية ثابتة ولم تتغير من قضية الأكراد في العراق، فهو كان، ولا يزال، من المناصرين بقوة لحقوقهم المشروعة، وحسبما يؤكد فإنه: «كان دائما للأكراد تمثيل في مجلس الوزراء، فالعراق الحديث ومنذ تأسيسه اعترف بأن هناك وضعا خاصا للأكراد، وبقاؤهم ضمن العراق كان بشروط تكفل حقوقهم القومية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وقد اعترف العراق بهذا الوضع وتم تأكيده عندما استقل ودخل عصبة الأمم المتحدة كبلد كامل السيادة». ويرى أنه: «من حق الأكراد أن يقرروا مصيرهم عملا بمبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وأنا لا ألومهم ولو كنت كرديا لتمنيت أن تكون لي دولة كردية، كل شعوب العالم صارت لها دولها، واليوم هناك جزيرة صغيرة في المحيط الهندي عدد سكانها لا يتجاوز العشرين ألفا صارت دولة معترفا بها كعضو في الأمم المتحدة».

ويذهب الباجه جي إلى أبعد من هذا فيقول: «كان المفروض أن تكون هناك دولة كردية منذ 1920، بعد انهيار الدولة العثمانية ووفق اتفاقية سرت، ويفترض أن كل الأجزاء الشرقية من تركيا مثل ديار بكر وغيرها تنضم لهذه الدولة، لكن مصطفى كمال أتاتورك لم ينفذ ذلك ووضع الجميع أمام الأمر الواقع. فالحركة الكردية بدأت أولا في تركيا قبل أن تندلع ثورة الشيخ محمود الحفيد في العراق، وقد قاتله الجيش الإنجليزي (البريطاني) الذي كان موجودا في العراق، واستمر القتال عبر كل وزارات العهد الملكي، وتم أسر الحفيد ليقود الثورة الكردية أحمد بارزاني شقيق ملا مصطفى بارزاني، وقد أعدمه الأتراك خلال الحرب».

الحديث عن الأكراد في العراق يأخذ الباجه جي، ويأخذنا إلى مناسبة تبرز في ذاكرته، يقول: «عندما كان والدي (مزاحم الباجه جي) وزيرا للداخلية في وزارة نوري سعيد الأولى، عام 1933، زار كردستان، كانت تسمى شمال العراق، وقد أخذني معه وكان عمري عشر سنوات، حيث زار جميع المدن الكردية، كركوك (نلاحظ أنه يذكر هنا كركوك باعتبارها مدينة كردية منذ ذلك التاريخ) والسليمانية وأربيل وزاخو والعمادية وراوندوز. كنا قد سافرنا بواسطة القطار إلى كركوك ومن هناك تنقلنا بواسطة السيارات، وقد رحب بنا الأكراد واحتفوا بوالدي، فهم شعب كريم، والتقى وجهاء الأكراد والشخصيات المهمة، ففي أربيل تمت استضافتنا في بيت ملا أفندي، إذ لم تكن هناك أي فنادق وقتذاك، وفي راوندوز لبى والدي دعوة رئيس البلدية في بيته المتواضع وكانت الأحاديث كلها تؤكد وحدة الشعب العراقي وضرورة منح الأكراد حقوقهم القومية، ثم زرنا مدينة الموصل ومنها إلى شيخان حيث مركز اليزيديين».

ويعرب هذا الدبلوماسي الذي اشتغل كثيرا في الأمم المتحدة على موضوع (تحرر الشعوب)، عن موقفه من القضية الكردية، بقوله: «أنا أناصر الأكراد في أن يقرروا مصيرهم مثلما يريدون، حتى عندما كنت وزيرا للخارجية عام 1966، قلت في اجتماع مجلس الوزراء يجب أن نسمح للأكراد بتقرير مصيرهم مثلما يريدون، فاستغرب الجميع من هذا الطرح، فقلت لهم، أنا دافعت لسنوات طويلة في الأمم المتحدة عن حقوق شعوب أفريقيا في الاستقلال ونيل حرياتها، ثم آتي إلى العراق لنحرم الأكراد، وهم منا وشعبنا! والأكراد يعرفون موقفي هذا، ومنذ بدايات عملي في الخارجية وأنا متمسك بهذا الموقف».

0 مشاركات:

إرسال تعليق