ذاكرة العراق.. عدنان الباجه جي (الحلقة 10) سألت صدام عن الكويت واستبداده.. فردّ قائلا: التاريخ هو الذي سيحكم

عدنان الباجه جي مع الشيخ زايد آل نهيان («الشرق الأوسط»)
الباجه جي مع أنديرا غاندي وزوجته («الشرق الأوسط»)
معد فياض
يمتد تاريخ الدولة العراقية الحديثة منذ عام 1921، حيث تتويج فيصل الأول ملكا على العراق، وحتى سقوط العراق محتلا في عهد الرئيس السابق صدام حسين، ليبدأ بعد ذلك تاريخ جديد للعراق تحت الإدارة الأميركية قبل أن تتشكل حكومات مؤقتة وانتقالية ودائمة، وإن كانت القوات الأميركية لا تزال في البلد.

عدنان الباجه جي يشكل ذاكرة العراق، فهو كان التقى الملك فيصل الأول، مرورا بكل الحكومات والعهود وحتى صدام حسين، وما بعده، كما التقى عددا من قادة ورؤساء العالم، سواء باعتباره الممثل الدائم للعراق لدى الأمم المتحدة، أو كوزير للخارجية.

وحتى لا نقع في إشكال زمني فإنه يوضح: «عندما التقيت الملك فيصل الأول كنت طفلا، أعتقد كان عمري ثماني سنوات، وحدث ذلك خلال مناسبة وطنية أو اجتماعية رافقت فيها والدي (السياسي مزاحم الباجه جي، رئيس حكومة في العهد الملكي)، وحييته». وربما كان الملك غازي، ثاني ملوك العراق، الوحيد الذي لم يأت على ذكره باعتباره قد التقاه، كون الباجه جي كان خارج العراق خلال دراسته الثانوية. يستطرد: «لكنني بالتأكيد قابلت الأمير عبد الإله، الوصي على العرش، والملك فيصل الثاني الذي رافقته في زيارة إلى المملكة العربية السعودية، كما ذكرت في مرة سابقة، وكل رؤساء الحكومات في العهد الملكي تقريبا، سواء عندما كنت أعمل في الخارجية، أو عندما كانوا يزورون والدي في بيتنا».

لكن المفاجأة هي مقابلته لمن أنهى العهد الملكي الذي ينتمي إليه الباجه جي، بل وخرج في جولة مع الزعيم عبد الكريم قاسم، يقول: «في نهاية عام 1961 جئت إلى بغداد في إجازة، وكنت المندوب الدائم للعراق لدى الأمم المتحدة، وطلبت مقابلة قاسم، فحُدد لي موعد في الليل وذهبت إلى مكتبه، حيث كان يقيم في مقر وزارة الدفاع (القديمة على ضفاف نهر دجلة بجانب الرصافة)، فحياني وقال: نحن نقدر عملك وجهودك، ثم بدأ يتحدث عن نفسه، وعما يريد تحقيقه للعراق، وعرض لي بذلته العسكرية التي فيها بقايا الدم، التي كان يرتديها عندما تعرض لمحاولة الاغتيال التي تعرض لها في شارع الرشيد، مساء السابع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1959، وتحدث لي عن الثورة وكيف تمت، والمباغتة التي قاموا بها، وأسهب في ذكر مصطلحات عسكرية، ثم أخذني معه في جولة في بغداد بسيارته العسكرية بعد منتصف الليل. كنت أجلس إلى جانبه، وكان هناك مرافق عسكري يجلس إلى جانب السائق، وتجولنا في كل بغداد، حيث أخذني إلى قناة الجيش التي افتتحت في زمنه، ثم مررنا بمخبز للصمون العراقي، وتوقف هناك وقال للعاملين والناس الذين تجمعوا لتحيته: (كل هذا سويناه من أجلكم حتى لا يبقى في العراق أي فقير، بعد ماكو فقراء بالعراق)».

ولا يزال الباجه جي يحتفظ بالشعور الأول، أو الفكرة الأولى التي كونها عن قاسم: «كان شخصا بسيطا للغاية، والناس كانت تلتف حوله لأنهم كانوا يحبونه، والبغداديون كانوا يسهرون حتى الصباح، وهذه عادتهم منذ العهد الملكي، فالناس كانت تشعر بالأمن والاطمئنان. عدنا من جولتنا مع بداية الصباح حيث قدموا لنا الفطور، وكان عبارة عن صحن كباب عراقي مشوي، كان فطورا بسيطا (كان الحارس يجلب الكباب لقاسم من مطعم بسيط وشعبي قريبا من وزارة الدفاع) واستغربت أن يكون طعام الفطور كبابا مشويا، ثم أعطاني صورته بعد أن كتب عليها إهداء (إلى عدنان الباجه جي تقديرا لإخلاصه للوطن) ووضع توقيعه، وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي التقيته فيها، إذ عدت إلى نيويورك وحدث انقلاب عبد السلام عارف والبعثيين، إذ أعدموا قاسم في مبنى الإذاعة العراقية.كان قاسم يعمل مخلصا من أجل إصلاح وإعمار العراق، وأراد أن يرتقي بمستوى الفقراء اقتصاديا، ولكن، أيضا، من أكثر أخطائه فداحة هي قيامه بإعدام الضباط القوميين في ساحة أم الطبول، وأشهرهم العميد الركن ناظم الطبقجلي، قائد الفرقة الثانية، والعقيد رفعت الحاج سري، الأب الروحي لحركة الضباط الأحرار والمؤسس الحقيقي لها، ومدير الاستخبارات العسكرية بوزارة الدفاع».

يكرر الباجه جي رفضه لأي قرار بإعدام أي سياسي أو بسبب أفكاره، مهما كانت هذه الأفكار، بل هو بصورة عامة ضد عقوبة الإعدام، يقول: «لقد شعرت بالأسف على مصير قاسم، فأنا مبدئيا ضد القتل وضد عقوبة الإعدام لأنني أعتقد أنها عقوبة بربرية وخاطئة، أما الإعدام لأسباب سياسية فهذا مرفوض تماما وعلى الإطلاق، وأنا كنت ضد إعدام صدام حسين، وضد إعدام أي شخص، يعني من البربرية والوحشية إعدام رئيس جمهورية أو رئيس وزراء أو أي سياسي كان، ويحدث في عقوبات الإعدام كثير من الأخطاء، مثلا يتم إعدام شخص متهم بالقتل، ومن ثم يكتشف فيما بعد أنه بريء، وحدث ذلك كثيرا في العراق وفي أماكن أخرى من العالم، لهذا أفضل وضعه في السجن. وإلغاء حكم الإعدام أصبح مقبولا في أوروبا وكثير من الولايات الأميركية ودول العالم».

واحدة من مميزات الباجه جي هي تنظيمه الدقيق لحياته، لهذا نجد أن ذاكرته منظمة للغاية، تضم في طياتها ملفات أتخيلها معتنى بها وبمعلوماتها الغنية، يقول: «قابلت الرئيس عبد السلام عارف عام 1964 عندما ترأس وفد العراق في مؤتمر عدم الانحياز في القاهرة، وأنا كنت وقتذاك في نيويورك كمندوب دائم للعراق لدى الأمم المتحدة، فطلبوا مني الالتحاق بالوفد العراقي في المؤتمر، وكان صبحي عبد الحميد وزيرا للخارجية، وكنت قد بذلت جهودا كبيرة خلال المؤتمر، خاصة في مناقشة قضيتي فلسطين وعدن.كنت أجلس مع الرئيس عارف كعضو في المؤتمر، وقد نقل لي وزير الخارجية شكر وتقدير رئيس الجمهورية للجهود التي قمت بها». منوها إلى «أنا كنت أقابله دائما عندما عينت وزيرا للدولة للشؤون الخارجية عام 1966، إذ كان عبد الرحمن البزاز رئيسا للوزراء ووزير الخارجية، لكن عمليا كنت أنا وزير الخارجية، وكان من عادة الوزراء مقابلة رئيس الجمهورية في أي قضية مهمة، أو عندما يطلب هو، أو أي منهم يريد مقابلته، وعندما مات الرئيس عبد السلام عارف في حادث سقوط طائرة الهليكوبتر كنت لا أزال وزير الدولة للشؤون الخارجية».

توفي الرئيس عبد السلام عارف على أثر سقوط طائرة الهليكوبتر السوفياتية الصنع طراز مي (Mi) في ظروف غامضة. إذ كان يستقلها هو وبعض وزرائه ومرافقيه بين قضاء القرنة ومركز مدينة البصرة مساء يوم 13 أبريل (نيسان) 1966 وهو في زيارة تفقدية لألوية، محافظات، الجنوب للوقوف على خطط الإعمار وحل مشكلة المتسللين الإيرانيين.

ويذكر أنه «في عهد الرئيس عبد الرحمن عارف صرت وزيرا أصيلا للخارجية وكنت أقابله باستمرار، كما رافقته في سفرات إلى إيران وتركيا». يبتسم وهو يتذكر لقاءه مع أحمد حسن البكر، يقول: «فاجأني أحمد حسن البكر بزيارة في مكتبي في وزارة الخارجية، وأنا لم أكن قابلته أو تعرفت عليه من قبل، ووقت ذاك كان هو خارج الحكومة، فرحبت به وتحدثنا سوية، فقال لي: (نحن المؤمنين بالتيار القومي العربي يجب أن نتعاون ونتكاتف، وأرجو أن تتحدث مع الرئيس عبد الرحمن عارف لمساعدة إخوانه البعثيين وأن يتعاون معهم)، كان يهدف لخداعي واستغلالي (يقشمرني يعني)، فقلت له: إن شاء الله، وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي ألتقي فيها معه. وبالفعل أبلغت رسالته إلى عارف، فضحك، ثم قال: (نحن بالفعل نريد أن نفتح صفحة جديدة مع الآخرين ونفسح لهم المجال)».

ليس بإمكاننا أن نتصور أن للباجه جي أكثر من لقاء مع الرئيس العراقي السابق صدام حسين، الذي «كنت قد سمعت عنه قبل أن أراه، كان ذلك عام 1967 وخلال اجتماع لمجلس الوزراء في حكومة ناجي طالب، كنت وزيرا للخارجية، إذ سأل أحد الوزراء قائلا: (هل سمعتم أن صدام التكريتي قد هرب من السجن)، لم أكن قد سمعت أو عرفت أي شيء عنه، فاستفسرت من يكون صدام التكريتي هذا؟ فأجاب الوزير قائلا: (هذا شاب بعثي شارك في محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم، وهو متحمس جدا)، وانتهى الموضوع. بعد سنوات تركت العراق وكنت في أبوظبي مستشارا للشيخ زايد رحمه الله، فجاء صدام حسين عام 1972، كان لا يزال نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة أحمد حسن البكر، فالتقى الشيخ زايد (رحمه الله) وكنت أنا أجلس إلى جانبه، فقال الشيخ زايد لصدام (الإنجليز والإيرانيون يهاجمون عدنان الباجه جي لأنه يتصدى لموضوع الجزر الإماراتية)، (كانت إيران قد احتلتها، وما زالت) فقال له صدام (لهذا نحن نحب عدنان)».

في زيارته لأبوظبي كان صدام حسين قد اجتمع مع الجالية العراقية هناك، يقول الباجه جي: «أنا كنت، ولا أزال أتصرف كمواطن عراقي وإماراتي، وأحمل جنسيتين وجوازين، عراقيا وإماراتيا، وليس عندي أي جواز آخر، لا بريطاني ولا أميركي، وخلال هذا الاجتماع كنت أجلس إلى جانب صدام حسين، قلت له: (الآن هناك فرصة لتحققوا لنا حلمنا بإقامة الوحدة بين العراق وسورية، فالجماعة الذين كانوا ضدكم في دمشق قد رحلوا)، وكنت أعني صلاح جديد وجماعته الذين كانوا ضد ميشال عفلق، إذ أقدم حافظ الأسد على حركة سماها التصحيحية. وواصلت حديثي مع صدام حسين (اليوم هناك فرصة نتمنى أن لا تضيع ونتمنى أن تتفاهموا حول الوحدة)، وبالفعل كانت هناك مباحثات قد جرت بين العراق وسورية حول الوحدة بين البلدين، لكنها كانت مباحثات كاذبة، لا صدام ولا الأسد كانا جادين في تحقيق هذه الوحدة».

ويسترجع هنا حادثة لقائه مع عبد الحليم خدام، يقول: «فيما بعد التقيت مع عبد الحليم خدام في أحد المؤتمرات، حيث كان وزيرا للخارجية السورية، وتحدثت معه أيضا عن موضوع الوحدة بين العراق وسورية، فقال لي: (نحن نعرفهم، يعني القيادة العراقية، جيدا ولا نثق بهم)، حتى وصلت الأمور إلى عام 1979 عندما استولى صدام حسين على السلطة في العراق وأعلن ما سماها المؤامرة الشهيرة التي اتهم فيها سورية وقيادة البعث في العراق، وبالتأكيد كانت كذبة كبيرة وعبارة عن صراع على السلطة ومن يسيطر على حزب البعث في العالم العربي. صدام كان يريد أن يسيطر على العراق والأسد على سورية».

وباستياء بالغ يفيد قائلا: «أنا لا أغفر لحافظ الأسد أبدا، لأنه كان يزود طهران بالسلاح ويدعمها، في الوقت الذي كان العراق في حرب مع إيران من أجل الدفاع عن العراق وعن الأراضي العربية. ولهذا فأنا أنفر من كل الجماعات العراقية التي ذهبت إلى إيران وكانت هناك خلال الحرب العراقية - الإيرانية وساندت ودعمت العدوان على بلدها، مهما كان كرهها وموقفها من صدام حسين، فهذا لا يبرر وقوفها مع إيران ضد قوات بلدها التي كانت تقاتل من أجل بقاء العراق والدفاع عنه».

يستطرد قائلا: «شاءت الصدف أن ألتقي صدام حسين للمرة الثانية عام 1975 في الجزائر خلال ترؤسه وفد العراق في مؤتمر قمة للدول المصدرة للنفط (أوبك) وكنت هناك مع الشيخ زايد الذي ترأس وفد الإمارات، وخلال هذا المؤتمر تصالح (صدام) مع شاه إيران حيث جمعهم الرئيس الجزائري بو مدين وسط تصفيق بقية الوفود، ووقع اتفاقية الجزائر الشهيرة، ثم جاء لزيارة الشيخ زايد في مقر إقامته وكنت حاضرا، فسأله الشيخ زايد عن الاتفاقية التي وقعها مع الشاه، وقال له: (أريد أن أعرف ما هي هذه الاتفاقية وماذا تضمنت)، فأجابه صدام حسين قائلا، وهذا سمعته بنفسي، (أنا عندي مشكلتين مع إيران، الأولى تتعلق بشط العرب، فهم لا يعترفون بالاتفاقية السابقة الموقعة بينهم وبين العراق، والثانية هي مساعدة إيران للأكراد، ثورة الأكراد مستمرة وتكلفنا كثيرا من الضحايا والأموال)، ثم أضاف قائلا: ( أنا لا أملك القوة لأجعل إيران تعترف بالاتفاقية السابقة حول شط العرب، وهذا الموضوع صار واقعا لا نستطيع تغييره، لهذا أنا وافقت على أمر واقع وكسبت إيقاف الدعم الإيراني للمتمردين الأكراد، وهذا سيوفر علينا الأرواح والأموال)».

لكن أكثر اللقاءات مع صدام حسين إثارة، وتحمل عنصر المفاجأة، كانت في المرة الثالثة، أو اللقاء الأخير «المرة الثالثة التي التقيت فيها مع صدام حسين كانت في السجن بعد أن تم القبض عليه.كان ذلك في شهر (ديسمبر) كانون الأول 2003، وكنت أنا رئيسا لمجلس الحكم وكالة، ذلك أن رئاسة المجلس كانت شهرية، وكان دوري في الرئاسة في شهر (يناير) كانون الثاني، ولكن بسبب سفر رئيس المجلس وقت ذاك، عبد العزيز الحكيم، إلى فرنسا فأنا ترأست المجلس خلال غيابه». وبتفصيل أكثر دقة، يقول: «يوم القبض على صدام حسين كنت مريضا ودرجة حرارتي مرتفعة، اتصلوا بي من إذاعة الـ(بي بي سي) يسألونني عن رأيي في القبض على الرئيس العراقي السابق، وأنا لم أكن قد سمعت بالخبر لأني كنت منقطعا عن الأخبار بسبب مرضي، فقلت أنا لا أعرف بالخبر، بعد ذلك بخمس دقائق اتصل بي هاتفيا بول بريمر (الحاكم المدني الأميركي للعراق ما بين 2003 و2004)، وقال: (أحببت أن أبلغكم بأننا ألقينا القبض على صدام أمس وأود مشاركتكم لي في مؤتمر صحافي حتى يصدق العراقيون وغيرهم ذلك، ووجودك مهم)، قلت: (هذا حدث كبير وتاريخي)، ومع أني كنت مريضا فقد ارتديت بذلتي وحضرت المؤتمر حيث كان هناك من يهتف ويصفق، وآخرون يبكون فرحا، ألقيت كلمة سريعة خلال المؤتمر الذي شاهده العالم كله». يقول: «بعدها اقترح بريمر أن أتصل بعدد من أعضاء مجلس الحكم للذهاب لمقابلة صدام حسين في السجن ليتأكد العالم من الحدث، فاتصلت بنصير الجادرجي، وشخص آخر نسيته الآن، للمجيء إلى مطار الهليكوبتر لهذا الغرض، وكلاهما اعتذر عن الحضور، لكننا أنا وبريمر فوجئنا بوجود أحمد الجلبي وعادل عبد المهدي وموفق الربيعي في المطار من غير أن يدعوهم أحد، لم يكونوا مدعوين لهذا اللقاء، فسألت بريمر فيما إذا كان هو قد دعاهم، لكنه أجاب مستغربا حضورهم، وقال: (لا، أنا لم أتصل بهم)، لكنهم حشروا أنفسهم ووضعونا أمام الأمر الواقع، فصعدنا أنا وبريمر في هليكوبتر وهم ثلاثتهم في هليكوبتر أخرى، وصلنا إلى مكان بالقرب من مطار بغداد بعد أن داروا بنا عدة مرات».

لقد تحدث أكثر من شخص كان قد شارك في هذا اللقاء، وهنا يرويها الباجه جي من وجهة نظره، قال: «كان سانشيز قائد القوات الأميركية في انتظارنا هناك، حيث دخلنا إلى غرفة صغيرة وبسيطة للغاية، وشاهدت صدام حسين يجلس على سرير مخصص للجنود ويرتدي دشداشة بيضاء وفوقها جاكيت (سترة)، وكانوا قد حلقوا شعره وذقنه، فتطلع إلينا، وفوجئت بموفق الربيعي وهو يستهل اللقاء بتوجيه الشتائم والكلمات النابية له (أنت كذا وابن كذا وفعلك)، وما شابه من هذه الشتائم، وتابع (أنت الآن فيك خير، عندك شجاعة، وتطلع إلى الشارع)، فأجابه صدام حسين بهدوء وثقة قائلا: (نعم أنا أستطيع الآن الخروج إلى الشارع، لكن هل أنت فيك خير، عندك الشجاعة لتخرج إلى الناس في الشارع الآن)، ثم قال له الربيعي: (لماذا فعلت هذا بالصدر)، (يعني محمد باقر الصدر)، ثم جلسنا على كراسي وبقي بريمر واقفا إلى جانب سانشيز، فأجابه صدام ساخرا: ( أنا لا أعرف عما تتحدث، يا صدر، يا رجل، ويعني القدم)، وبالطريقة نفسها شتمه عادل عبد المهدي لكن بدرجة أقل من الربيعي». ويثير الباجه جي مسألة بقيت مستغربا منها حتى الآن، يقول: «الغريب في هذا اللقاء هو أنه خلال الفترة التي بقيناها هناك لم ينبس أحمد الجلبي بكلمة واحدة ولم يقل أي شيء، باستثناء أن صدام حسين عندما سأل عنا (من هم الجماعة)، فقفز الجلبي مسرعا من مكانه وقال مشيرا إلي (هذا عدنان الباجه جي)، بدلا أن يقول له مثلا أنا أحمد الجلبي، أو يقدم له الآخرين، عبد المهدي والربيعي، بعد ذلك صمت الجلبي ولم يقل أي كلمة، يعني هذا كل ما تفوه به خلال فترة المقابلة التي استمرت ما يقرب من 45 دقيقة. تطلع صدام إلي وقال: ( إي احنا نعرفك ولكن اشجابك على هذولة)، (نعم نحن نعرفك ولكن ما الذي جمعك مع هؤلاء)، فقلت له: (أنا لم آت معهم، فنحن جئنا إلى العراق لأننا نريد تحقيق حكم ديمقراطي) فقال: (كان حكمنا ديمقراطيا ونحن انتخبنا الشعب)، قلت معترضا: (لا لم يكن حكمكم ديمقراطيا، بل كان استبداديا)، ثم تابعت قائلا: (أنا عندي سؤال يشغلني منذ سنوات وأريد إجابتكم عليه، لماذا لم تنسحب من الكويت عندما كان بمقدوركم فعل ذلك، كنت ستجنب العراقيين والعراق كثيرا من الكوارث)، فأجاب: (أنا كنت على استعداد للانسحاب، لكنني اشترطت حل قضايا أخرى في المنطقة)، قلت: (أنت تعرف أن ذلك كان يعد من المطالب التعجيزية)، فرد قائلا: (التاريخ هو الذي سيحكم)، ثم سألته: (لماذا كان حكمك ديكتاتوريا ومتعسفا)، فأجاب: (العراق يحتاج إلى حاكم عادل وحازم)، فقلت: (لم تكن حاكما عادلا بلا شك، وكان حكمكم مسؤولا عن قتل مئات الآلاف من العراقيين)، فأنهى الحديث مكررا قوله السابق: (على كل حال التاريخ هو الذي سيحكم ويقرر)».

ويمضي قائلا: «في طريق عودتنا جلس أحمد الجلبي بقربي، وكان منطفئا وصامتا، فسألته ان كان هناك اي شيء وقلت له (انت مو على بعضك)، فقد كان يبدو خائفا، وكأن هناك شيئا يخشى كشفه، على العموم أنا لا أستطيع أن أخمن ما سبب ذلك، فبعض الظنون تكون خاطئة». يقول: «فكرت في هذا الرجل، صدام حسين، أي مكانة عالية كان فيها وإلى أي مصير وصل، والإنسان يجب أن لا يشمت بمصائر الآخرين، فأنا لم يكن بيني وبين صدام حسين أي موضوع شخصي، ولا أستطيع الادعاء بأن البعثيين ظلموني، كلا لم يظلموني، بل على العكس كانوا دائما يتعاملون معي باحترام وتقدير. لكنني حزنت كثيرا لما حل بشعبي وبلدي بسبب موضوع الكويت».

ويتذكر الباجه جي بقية الرؤساء ورؤساء الحكومات الذين قابلهم خلال حياته المهنية، على أن تفاصيل هذه اللقاءات سيأتي ذكرها خلال تسلسل الأحداث.

يقول: «ذهبت إلى القاهرة في مايو (أيار) على رأس وفد عراقي قبل حرب 1967، وقابلت الرئيس جمال عبد الناصر، كما زرت الهند وباكستان، والتقيت أنديرا غاندي حيث كانت رئيسة الوزراء، بينما كان رئيس وزراء باكستان أيوب خان، وطلبت منه أن يعيد النظر في اعتقال ذو الفقار علي بوتو، لأنه كان وزيرا للخارجية وتربطني به علاقات طيبة، ووعد خيرا، بعد ذلك بسنوات ذهبنا أنا وأحمد السويدي من أبوظبي، عندما كنت أعمل في الإمارات، إلى باكستان، وكان بوتو رئيسا للوزراء وقت ذاك والتقيت به حيث شكرني على موقفي وقال: (لقد بلغني اهتمامكم بقضيتي وأنا في المعتقل)، لكنه أعدم فيما بعد على يد العسكر في عهد ضياء الحق»، يصمت الباجه جي للحظات، ثم يعاود الحديث قائلا: «يعني ما يصير إعدام رئيس وزراء، مثلما فعلوا في تركيا بإعدام عدنان مندرس، هذا لا يجوز، هؤلاء رؤساء وزارات وليسوا مجرمين، ثم إن السياسة هي عبارة عن اجتهادات، من يقول أنت صح وهو خطأ، هذه همجية».

وعندما كان الباجه جي وزيرا لخارجية العراق التقى الرئيس الفرنسي، حسبما يذكر: «التقيت الرئيس ديغول في الإليزيه، والتقيت رئيس الوزراء التركي سليمان دميريل، وذهبت إلى إيران في زيارة رسمية مع الرئيس عبد الرحمن عارف، وقابلت الشاه محمد رضا بهلوي منفردا في قصره في شمال طهران».

والمعروف أنه كان اسم الباجه جي سيضاف إلى نادي رؤساء الجمهوريات لو أنه لم يتنازل عن اختياره رئيسا للعراق، كما سنعرف لاحقا، لكنه وبثقة وعزة الرجل الغني بأفكاره وتاريخه وإنجازاته، يقول: «أنا ليس لي أي طموحات شخصية سوى خدمة العراق والعراقيين، العراق الذي منحني كل شيء، ومثلما أوضحت سابقا هو أنني أردت أن أرد لبلدي وشعبي بعض ما منحني إياه من خلال خبراتي وعلاقاتي العربية والدولية، فلست طامعا في مال ولا جاه ولا منصب، والحمد لله مشهود لاسمي وتاريخي وسمعتي، وقد عشت كل هذه السنوات معززا مكرما في الإمارات التي أحترم أهلها ويحترمونني، فأنا أشعر، وهم أيضا قد أشعروني بأن الإمارات بلدي، فأنا أسهمت في إنشائها وبنائها».

0 مشاركات:

إرسال تعليق