أسر سجناء الحق الخاص ينتظرون الفرج!

هل السجن أفضل الحلول للمتعثرين عن السداد؟

أسر سجناء الحق الخاص ينتظرون الفرج!


سجناء الحق الخاص ينتظرون من يسدد عنهم دون أن يساعدوا أنفسهم

تبوك، تحقيق ـ نورة العطوي

يحاصر أسر سجناء الحق الخاص الحزن والصمت والخجل، ويبكيهم الغياب والعجز، ومن هنا تبدأ مواجهتهم لتداعيات خطيرة على خلفية دخول «عائلهم السجن»، فهناك المتاعب النفسية المؤلمة، ونظرة المجتمع القاسية، والاحتياج المادي، وهذا حتماً يزيد من الضغوط التي تسهم في انهيار تلك الأسرة أوعدم قدرتها على مواصلة الحياة، وهي بذلك المتضررالأول من سجن المطالب بالحقوق المالية، بل إن هذا الضرر يمتد ليلقي بظلاله على المجتمع بأسره..

"الرياض" ناقشت في هذا التحقيق أهم الآثارالسلبية على أسر سجناء الحق الخاص، واقتربت كثيراً من واقع تعامل المجتمع والجهات المختصة مع تلك الأسر، وأوردنا في ختام هذا التحقيق إمكانية استبدال تلك العقوبة في هذا الوقت تحديداً.

زواج وديون وسجن

"أم عبدالمجيد" والدة سجين"، تقول بصوت يملؤه الحزن وحرقة الدموع: منذ أربعة أشهر وأنا أعاني تدهوراً في ظروفي الصحية؛ إذ لم أحتمل خبر سجن ابني البار، نتيجة عدم مقدرته الوفاء بسداد دينه البالغ ستين ألف ريال، والتي كان قد اقترضها حين أراد الزواج وتكوين أسرة مستقرة، غيرأنه وقع في "مصيدة الديون" وراتبه قليل لايكاد يفي بالكثير من المستلزمات الضرورية، وقد ازداد الأمر سوءاً بعد دخوله السجن، حيث تم طرد زوجته وابنه المولود حديثاً من الشقة التي يستأجرها، وذلك لعدم مقدرتهم دفع الإيجار بعد أن تم وقف صرف راتبه منذ ثلاثة أشهر، فالزوجة انتقلت الى منزل والدها غير أن وظيفة زوجها الحكومية مهددة بالضياع، وتسأل ماهي الفائدة التي تحققت من سجن ابني؟، مؤكدة أن هذا السجن أصبح عقاباً جماعياً للسجين وأسرته التي تعاني من بعده الهموم والحاجة لمن يرعاها ويأخذ بيدها.

الأب خلف القضبان ينتظر من يسدد عنه و»أم العيال» تبحث عن تأمين لقمة العيش

عقاب جماعي

في حين تضيف "هنادي" -زوجة سجين-، قائلة: أراد زوجي تحسين وضعنا الاجتماعي فلجأ إلى الاستدانة من عدة أشخاص؛ ليدخل في مشروعات تجارية ففشل، ووصل به الحال إلى دخول السجن، فواجهت الظروف القاسية التي لم أعد قادرة على تحملها بمفردي، فابتعاد زوجي لفترة طويلة تجاوزت السنتين أتعبني نفسياً، ومسؤوليتي أصبحت مضاعفة في هذه الحياة وحتى الآن لازلت أتساءل عن كيفية تعاملي مع أبنائي "المراهقين"، ومن سيسد فراغ والدهم ويحسن تربيتهم ويمنحهم الدفء والأمان والثقة بأنفسهم، والمؤلم في تجربتي أن أسرتي رفضت مساعدتي بأي شكل من الأشكال ما لم أطلب الطلاق من زوجي السجين؛ والسبب أن زوج ابنتهم سجين، على الرغم من أن القضية لا تستحق ذلك، فزوجي لم يسجن لقضية نصب واختلاس أوسلب أو أخلاق، وإنما بسبب عجزه المادي، فلماذا يصرالآخرون على معاقبتنا جميعاً على ذنب لم نرتكبه؟.

وأضافت: "لقد عانيت من مواقف الصديقات والجارات اللواتي قطعن كل سبل الاتصال بي، بل إنهن أبدعن في تأليف الشائعات عن سبب سجن زوجي، فهناك من تقول قضية مخدرات، وهناك من تقول جريمة قتل"، مناشدة الجهات المختصة بضرورة إيجاد عقوبات بديلة لسجناء الحق الخاص، وذلك لكي يتاح للسجين إمكانية السعي لمحاولة سداد ديونه، وهو أفضل من قيام الزوجة بذلك، مؤكدة على أن السجين لا يتحمل وحده الأضرار، وإنما تنال التبعات من أسرته ومجتمعه.

أم عبدالمجيد: أسرة ابني تفرقت

رفض الزواج

في حين بدأت أسرة "وداد" معاناتها منذ اللحظة الأولى لدخول والدها السجن، فكابدت هي وأسرتها في متاهات الحياة، معلنة أن المجتمع لازال متمسكاً بقاعدة "الخير يخص والشر يعم"، وينظر لأسرة السجين نظرة رمادية مليئة بالتوجس والريبة.

تقول "وداد": إن ابنة السجين أصبحت فتاة لا تصلح للزواج؛ لأن سجن والدها "لا يشرف" زوجي، وهذا ما حدث معي، حيث تفاجأت بورقة طلاقي قبل أن أبدأ حياتي الزوجية، وكان الشاب وأهله قد تعللوا بحال والدي السجين، ومع أن هذا الموقف جعلني أعيش في معاناة أخرى، إلا أني تداركت ذاتي واستعدت ثقتي بنفسي لاسيما وأن والدي دخل السجن؛ لأنه مدين وليس مجرماً، مشيرة الى أن أكثر ما تعاني منه أسرة السجين هو نظرة المجتمع القاسية ومعاملتهم الدونية لهم وليس الحاجة المادية فقط، كما يعتقد المسؤولين عن رعاية أسر السجناء.

هنادي: أولادي يدفعون الثمن

وأضافت:"نحتاج إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة عن أسر السجناء، أياً كان نوع الجريمة، فما ذنب البنات يدفعن خطأ والدهن؟، وما هو مصيرنا؟، ولماذا نحن أنانيون إلى هذا القدر؟".

مظاهر الحياة الكاذبة

ويوضح "أ.د. سليمان العقيل" أستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك سعود أن المجتمع يعج بالكثير من المتغيرات التي دخلت عليه، وأصبحت جزءاً من الحياة الاجتماعية، والتي تعكس مظاهر خادعة ليست حقيقية، فالكثيرمن الناس من ذوي الدخل المحدود أو من ذوي الدخول القليلة أوالمعدومة والمبنية على خلفية اقتصادية وتعليمية ضعيفة أو مبذرة، كل هذه القضايا من مجاراة الآخرين في مظاهر الحياة الكاذبة فإنها بالضرورة تورث الكثير من الخطايا والرزايا للأسرة وأفرادها، فبعد الاستدانات أوالديون أو الشراء من غير حساب أوالبحث في الكماليات دون تقدير للعواقب للأقساط أوغير ذلك من الكفالات.. كل هذا يدخل الأسرة في دوامة البحث عن المخرج من الديون ويكون السجن أقرب من هذا، ومن ثم تنتكس الحياة الاجتماعية ويؤثر هذا السجن أو سلب الحرية لعائلهم على حياة الأسرة والنساء والأطفال، ويتغير رتم الحياة الاجتماعية في هذه الاسرة.

وداد: طلقني «الأناني» لأن والدي المسجون «لا يشرف» في نظره!

وقال: إن هذه الاختلالات تورث إعادة مسيرة الحياة لهذه الأسرة، فتدخل فيها المشكلات النفسية من الشعور بالنقص والشعور بالمرارة والأسى والضيق وغير ذلك من الشعور بنظرة دونية من الناس لهم، ثم أن المشكلات لا تقف عند هذا، بل إن هذا هو مقدمة لدخول الانحرافات والشذوذ الاجتماعي، وتكون الأسرة هدفاً سهلاً للمفترسين من جميع المجرمين بمختلف اتجاهاتهم وخلفياتهم وأهدافهم وأغراضهم، ثم تكون الأسرة أو بعض أفرادها جزءاً من العملية الإجرامية وتكون العواقب وخيمة جداً على الفرد والأسرة والمجتمع.

وأشار إلى أن تزايد سجناء الحق الخاص مؤشر خطير غير سوي في الحياة الاجتماعية للمجتمع، وذلك للآثارالسلبية الناتجة عن ذلك، موضحاً أن هذه الآثار تلقى جزافاً على الحكومة، ومن المفروض أن يلقى على بعض الشركات ذات التوجه البشع المستغل.


طفلة تبكي أباها المسجون في مبلغ مالي «إرشيف الرياض»

ردة فعل المجتمع

وعن دور اللجان المختصة برعاية أسر السجناء ومساندتهم نفسياً واجتماعيا أوضحت الأستاذة "أمال حسن الجهني" نائبة المدير التنفيذي ورئيسة القسم النسائي للجنة "تراحم" بجدة، قائلة: هناك لجان مختصة بمختلف مناطق المملكة تدرك جيداً مدى ما تعانيه تلك الأسر بعد سجن عائلها من مشكلات وضغوط نفسية واجتماعية واقتصادية، لاسيما وأن أصعب ما تواجهه هو ردة فعل المجتمع الذي يحاول بعضه التهرب منها في حين يغفل عنها البعض الآخر، وكل ذلك يتم التعامل معه وفق منهج مدروس بحيث نحرص على توجيه الأسر الى مراكز تدريب معتمدة تعنى بصقل الشخصية وتدريب الذات وتطويرها، بالإضافة إلى تقديم خدمات تعليمية وحرفية وتأهيلهم نفسياً واجتماعياً، وذلك بدمجهم بمختلف شرائح المجتمع وإخراجهم من عزلتهم المفروضة عليهم، كما بدأنا في توجيه وتقديم النصائح المختلفة من المختصين إلى الأسر، وذلك من خلال الرسائل النصية (SMS)، مؤكدة على أن أسرة السجين لايمكن أن تستقر نفسياً، الإ بخروج عائلها من السجن؛ لهذا يكون هناك محور آخر مهم وهو مساعدة هؤلاء السجناء على سداد ديونهم والعودة الى أسرهم وقد تم تأهيلهم لاحتواء معاناة السجين بعد خروجه من السجن.

إلغاء سجن الحق الخاص!

وفي جانب آخر طالب المحامي والمستشار القانوني "د.خالد النويصر" بإلغاء عقوبة السجن لسجناء الحق الخاص، وذلك نظراً لمدى تأثيرها السلبي على سجناء وأسر الحق الخاص، بل وعلى المجتمع بأكمله، قائلاً: هناك الكثير من الآثار السيئة للسجن، فأي إنسان يسجن لعدم قدرته على سداد دينه هو أمر يلقي بظلاله السلبية على أسرته، وبالتالي يعود الضرر على المجتمع أيضاً، فالفرد الذي يُزج بالسجن في قضايا الحق الخاص يُصاب بضرر كبير وفادح، حيث إن دخوله السجن يعتبر بداية لتهيئته ليصبح مجرماً في المستقبل أو مريضاً ومحطماً نفسياً وعالة على المجتمع، بل ربما خطرعليه، كذلك الأسرة التي تنظر إلى راعيها بكل احترام وتقدير وفجأة تجده مسجوناً، فضلاً على أنها تفقد مصدر دخلها، حيث يُتوقع فصل راعيها وتعطيل عمله، طالما هو رهن السجن، إلى جانب الضرر النفسي والتربوي والأخلاقي الذي يلحق بأسرته وأبنائه والذي قد يؤدي إلى انحرافهم وضياعهم جميعا.

بدائل السجن

وأضاف:" لقد آن الأوان لاتخاذ قرار بإلغاء تلك العقوبة، على أن يُستثنى من ذلك حالات النصب والاحتيال والسرقة والشيكات التي لا يقابلها رصيد والنفقة، وأيضاً حان الوقت ليتحمل الدائنون مسؤولياتهم من خلال إيجاد آليات معينة في التعامل التجاري مع الآخرين، بدلاً من التعويل على خيار السجن الذي يؤثر على الفرد والمجتمع بشكل كبير، واقترح حلولاً بديلة مثل مصادرة أملاك المدين الثابتة والمنقولة إلى الحد الذي يفي بقيمة الدين، والمنع من السفر، وتجميد الحسابات البنكية، وإعطاء القضاء صلاحية اقتطاع جزء من راتب الموظف أو العامل في القطاع الخاص، إلى جانب تعطيل كافة مصالح المدين عن طريق الحاسب الآلي أو الحكم عليه بأي من العقوبات البديلة، دون الإخلال بحق الدائن في العودة على المدين متى ظهر أن لديه المال أو الممتلكات التي تساعد على سداد دينه. وأشار إلى أنه حتى يصدر ذلك النظام المقترح؛ فإنه من الضروري أن يتم إلغاء ما يسمى بالكفالة الغرمية، وأن يحل بدلاً عنها الكفالة المالية، حيث إن الكفالة الغرمية هي في حقيقة الأمر دعوة صريحة وعلنية لكثير من الحالات للسجن، حيث لا يطال السجن الشخص المدين فحسب، بل الكفيل الغارم في حالة العجز عن السداد، وبذلك يصبح كلاهما عبئاً وخطراً على المجتمع بعد أن تكون قد انتشرت ثقافة السجن لدى الفرد ومن ثم الأسرة إلى أن يصل الأمر لشريحة واسعة من المجتمع.


أ.د.سليمان العقيل


د.خالد النويصر


آمال الجهني

0 مشاركات:

إرسال تعليق