بل كان هدرا للعمر والمال

بل كان هدرا للعمر والمال

حين ينصت أحدنا إلى طالب جامعي في منطقتنا العربية سيسمع العجب. وكنت منصتة لطالبة على وشك التخرج في إحدى الكليات بجامعة الملك سعود بالرياض، سألتها ما الذي تعتقد أنه ينقصها وتوقعت أن تمنحه إياها الجامعة؟ أجابت ببساطة: «أنا الآن أملك حصيلة معلوماتية علمية جيدة، ولكني على وشك التخرج، وحتى هذه اللحظة لا أعرف كيف أكتب بحثا علميا، لغتي الإنجليزية ركيكة، وأعرف أني سأتخرج لأعود من جديد لدراسة اللغة في معهد تجاري، أتصبب عرقا حينما أقف أمام زميلاتي لشرح رأي أو فكرة، لا أجرؤ على فتح نقاش مع أستاذة لأتظلم من نتيجة اختبار، أحيانا أشعر أن لدي فكرة اختراع، ولكن ثقتي بنفسي مقتولة، صحيح أني جامعية، ولكن بشخصية باهتة».

ما قيمة المعلومة العلمية حينما يتخرج الطالب بهذه الصورة؟ مليء بالتردد والخجل والانكسار؟

للأسف، هناك فجوة كبيرة بين التعليم العام والتعليم العالي، وهي مشكلة عالمية في الحقيقة، وإن كانت أكثر سوءا لدينا، الانتقال من حياة المدرسة إلى حياة الجامعة يحتاج إلى تأهيل، وتشتكي مؤسسات التعليم العالي من أن الطالب يدخل إليها متواضع الإمكانات والمهارات وغير قادر على تحمل مسؤولية نفسه بعد جرعة الاستقلالية التي يجدها في الحياة الجامعية، هذا إضافة إلى ضعفه اللغوي والتقني.

هل يقع اللوم على التعليم العام؟ غالبا نعم، ولكن من الجدير القول إن إحداث التغيير في نمط التعليم العام أكثر بطئا وصعوبة من التعليم العالي، لذلك يُعوّل كثيرا على التعليم العالي، الأسرع في التغيير والأكثر جرأة في طرح أفكاره.

التعليم الجيد له مجسات، وهذه المجسات لا تعمل إلا في البيئة الجيدة. الطالبة المسكينة التي كانت تبوح بهمومها لم تكن من المحظوظات اللاتي عاصرن مؤخرا عهد الطفرة في جامعة الملك سعود، وقد زادها حسرة أن ترى زميلاتها المستجدات في حظوة كبيرة، بدأت من أهم تغيير حصل في التعليم العالي في المملكة منذ نشأته، وهو اعتماد ما يسمى بالسنة التحضيرية؛ أول سنة تستقبل الطالب في الجامعة.

لا داعي لأن تتعب نفسك لتعرف أن هذا الطالب من طلاب السنة التحضيرية، فسيماهم على وجوههم، أول ما ستشعر به وأنت تتحدث مع الجيل الجديد من الجامعيين، جيل السنة التحضيرية، أنه مختلف، وفي ماذا؟ في كل شيء، في حديثه، في جرأته، في ثقافته، في طريقة تفكيره. تظن لوهلة أنك في حضرة طالب من طلاب جامعة أوروبية عريقة.

ولأن نظام السنة التحضيرية في الجامعات السعودية ليس نظاما موحدا، فلن أتحدث إلا عن نظامها في جامعة الملك سعود الذي أكمل عامه الثالث، الذي أرى أنه النظام الأقوى لأسباب كثيرة، أهمها على الإطلاق البيئة التي أتاحتها السنة التحضيرية للطالب. بيئة فريدة من نوعها، قلما تجدها إلا في مؤسسات التعليم المرموقة، المقررات التي يدرسها الطالب تتضمن مهارات البحث، والتفكير، والإبداع، بل والكتابة. اللغة الإنجليزية المكثفة يقوم عليها مدرسون من الناطقين بها كلغة أم، يطور برنامجها جامعة كامبردج البريطانية، نحو 3000 طالب اجتازوا اختبار اللغة الإنجليزية Academic IELTS المطور من جامعة كامبردج، مقررات الرياضيات تطورها دور نشر عالمية كـ«McGraw - Hill» و«Pearson»، وشركة «MKCL» الهندية، تولت التدريب في مقررات تقنيات الحاسب، فحصل أكثر من 6000 طالب على شهادة ICDL باللغة الإنجليزية. برامج رعاية الموهوبين والمبدعين تحتل أهمية كبيرة للقائمين على السنة التحضيرية، كبرنامج الاختراع الذي أنتج خلال العمر القصير للسنة التحضيرية 24 براءة اختراع تم تسجيلها في مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية. الأندية الطلابية تلامس العقل والروح؛ نادي المعرفة، نادي الفنون، نادي التواصل والإعلام، ونادي الروبوتكس، ونادي التفكير. لذلك لم تكن مفاجأة فوز فريق السنة التحضيرية في الجامعة بمسابقة الربوتوكس العالمية، التي أقيمت في جامعة ولاية أيداهو الأميركية.

نحن هنا نتحدث عن تغيير جذري في مفهوم التعليم؛ فماذا نتوقع من طالب يتعلم في بيئة كهذه؟

من تأخذه زيارة لمدينة الرياض أتمنى أن يضع في جدوله زيارة لمقر السنة التحضيرية في جامعة الملك سعود، وأنا أضمن له أنه سيعيش الدهشة بكل معانيها، وأتمنى تحديدا من المطلعين على التعليم الأميركي أو الأوروبي أن يقوموا بهذه الزيارة، سيتولد عندهم الانطباع ذاته الذي شعر به رواد التعليم العالي من دول مختلفة بعد زيارتهم للفصول الدراسية والأندية المصاحبة والبيئة التعليمية العامة في مقر السنة التحضيرية.

هل هذا التعليم النوعي يمكن أن يكون هدرا للمال؟

بل ما كان من حال مضى هو الهدر، في المال والعمر؛ ملايين تصرف لإعادة تأهيل شخصية وقدرات الطالب الجامعي بعد تخرجه، في اللغة ومهارة الحاسب والاتصال، كانت سنوات دراسية ناقصة، تعقبها سنوات مهنية ناقصة، بحياة ناقصة. هذا هو الهدر، أن تقضي من عمرك في الجامعة على الأقل أربع سنوات لتخرج بعدها بفردة واحدة من خفي حنين.

* كاتبة وأكاديمية سعودية - جامعة الملك سعود

0 مشاركات:

إرسال تعليق