صديقي (س م س) هل هو مريض نفسيا أم مؤلف عبقري؟

غامض العلاقات -لا يصارحك بما في ذاته.. ولا يكاشفك بما يريد- وفجأة أدمن مشاهدة التليفزيون وتعلق بالمسلسلات الطويلة والقصيرة وعشق أن يكون كاتبا تليفزيونيا ومفيش حد أحسن من حد.. وكان يقول دائمًا: هذه الكتابة تحتاج للصدق والمعاناة والألم والحزن والتشرد والقهر والدموع وتحتاج إلي شخصيات مسكينة تعذبها شخصيات قاسية ومفترسة.. الإحباط والانحطاط والوطواط هم عناصر الدراما.

وإن الصراع في هذه الأعمال يقوم علي قاعدة ضرورية: (خراب البيوت) وسجن الآباء وتشرد الأولاد، يتيتمون ويعيشون إما في الملاجئ أو لدي الجيران.

وكان يري ضرورة أن يتقابل الآباء بعد أن (يفك الله سجنهم) مع الأبناء بعد أن يكبروا ويصبحوا ذوي قيمة وأهمية.. ويري كذلك أن تعمل الأم بعد طول شقاء (عالمة في كباريه) أو خادمة.. وكان يري أن تصطدم الأسرة المشتتة في جبل المفاجأة القاسية- ويحدث الهول والويل والعذاب والفقدان.

ولأن صديقنا المذكور (مريض ومعقد) فلقد توهم أن ما ذكره كله هو سبيله وأسلوبه المتفرد لدخول عالم التأليف للتليفزيون.. وقريبا للسينما والمسرح.

وقد زرته بمنزله وهو يسكن في شقة يمكن أن توصف بأنها تحت الأرض في عمارة نصفها مزال بالقوة لتعرضها للزلزال الأخير -ولما سألته لماذا الإصرار علي النوم تحت الأنقاض- أجاب أنه لا يستريح إلا وهو (مدفون) فهو يكتب حاليا رائعته الجيدة المسماة (في الليل الأسود).. ولما سألته: لماذا هذا الاسم المزعج؟ صرخ: ولماذا للأخ عكاشة ليالي الحلمية وللأخ يسري الجندي ألف ليلة ولغيرهم ليال أخري.. لابد أن -يكون له ليل ويكون أسود بلون الهباب- فهذه علامته المميزة، ولقد وجدته مصرا جدا علي (تسويد لياليه) بشكل مؤلم ومحزن ومزعج ومؤثر لمشاهديه وكأنه يريد تعذيبهم.

وقال: أنا لا أؤلف من الخيال، أنا أنقل عذابي وتشردي وغلبي وحزني وقلة حيلتي، أنا أكتب معاناتي ومعاناة أسرتي، أنا صادق 100% واقعي 100% -لا أزيف الواقع ولا أجمله- أنا أغرف من سواد الأيام علي الصفحات البيضاء.. ولما حاولت إقناعه بأن هناك ضرورات للفن وأن للفن وظيفة اسمها المتعة والجمال والصدق أصر علي شطب المتعة والجمال وقرر أن لياليه السوداء لن تحمل إلا (القبح والصدق) وصارحني بما في ذاته بأنه لا يعشق إلا الدموع والعذاب ولا يري في الحياة إلا الموت والعذاب ولذا فهو لا يكتب إلا ما عاشه وعاناه.

ولقد هاتفت الدكتور (فلان) أستاذ (الطب النفسي) فقال لي إنه منزعج جدا من حالة السيد الكاتب (علان) فهو رجل يتاجر بعقده النفسية وهو ينشرها علي مستوي واسع حتي يظن الناس أنها آفة كل المصريين أو مأساة كل الأمة العربية.

وقد صرح لي صديق دبلوماسي أنه يخشي تماما أن يتصور إعلام العدو الفلاني، أن عقد هذا الكاتب (نزعة قومية عربية) وقلت لصديقي الدبلوماسي: لا أوافقك علي التخوف من هذه الأعمال، ففي كل مجتمع يوجد الصالح والطالح، الواعي والطامح، ويوجد فن جاد يعيد صياغة الإنسان، وفن يؤكد شقاء الإنسان وانحطاط سعيه للخير وعدم جدوي حياته وعبث العيش وسواد الأيام.

ولقد حاولت (نصح) صديقي الكاتب -ونقلت له (بحرج شديد) رأي أستاذ الأمن النفسي وخبير الأمن القومي- فضحك صاحبنا ضحكة سوداء مطرزة بالشقاء مليئة بالمعاناة والأسي اتبعها بدموع غزيرة انهمرت من عينيه وصرح قائلاً:

القلق وروح الشقاء... هذا ما أريد أن أفرضه علي الساحة الاستهلاكية الاستغراقية.. الراكدة السعيدة المستقرة.. ذلك المجتمع الذي يتوهم أنه سعيد ومستقر، لابد أن أهدد استقراره، لابد أن يعلم كل أب ضرورة أن يشكك في سير الأولاد، وأن تظن كل زوجة في تصرفات الأب، لابد أن يتدخل الجيران في أمور الغير.. لابد أن يعود الماضي الأسود في الليل الأسود، لابد أن نحارب النسيان، لابد أن نعيد الآلام والآهات والأحزان، لابد أن نفرض الماضي علي الحاضر، لابد أن نغرق الناس في حكايات ناس آخرين بؤساء ويتحول البيت المصري والعربي إلي سرادق عزاء للبكاء، وأن يفقد الإنسان متعة الهدوء، فهذا هو فن الليل الأسود الغامق وأعوذ بالله.

0 مشاركات:

إرسال تعليق