«حواء تخرج من أنقاضها» لآناندا ديفي ... عنف الواقع

تطرح الروائيّة الفرنسيّة آناندا ديفي المولودة في موريشيوس 1957، في روايتها «حواء تخرج من أنقاضها» (دارعلاء الدين، دمشق، ترجمة سهيل أبو فخر، 2010) قضيّة العنف الممارس ضدّ المرأة في المجتمعات المتخلّفة. في منطقة تُسمَّى «ترومارون»، وهي عبارة عن منطقة مستنقعيّة في إحدى جزر المحيط الهنديّ، تكون مكبّاً للنفايات، يقطنها أناس مهمّشون، يغرقهم الفقر، يعميهم الجهل، يستنزفهم الجوع ويهلكهم، في حين أنّهم يصدّرون مآسيهم المَعيشة عنفاً ضدّ بعضهم بعضاً. تسرد ديفي روايتها على ألسنة أربعة رواة، تسلّم زمام السرد لكلّ واحدٍ منهم، تُبادِل بينهم من فصل إلى آخر، يتكفّل كلّ واحد بالتعبير عن نفسه، تمنحه فسحة للشرح والتفصيل، تبدو محايدة وهي تعرض وجهات نظرهم، إزاء ما يعانونه، تفسح لهم المجال لسرد موضوعاتهم، ولا تبدو متدخّلة في تحديد توجّهاتهم. يكون تدخّلها المحسوب، عبر إطلاق بعض الآراء والرؤى الشاعريّة المتفلسفة، على لسان راوٍ مجهول، غير محدّد الصفات والملامح، يقدّم استعراضاً لما يعترك في نفوس الشخصيّات، يلطّف من الممارسات التي ترتكب بحقّها، وينسحب بهدوء من دون أن يقدّم اقتراحات أو يتدخّل في رسم المصائر، أو يخبر عمّا كان أو سيكون، يحضر شبحيّاً، ويغيب مثلما حضر، يكون حضوره مرفوقاً بالشعر ومسكوناً به، كأنّما تودّ الردّ بذلك على قبح الواقع وقسوته.
أربع شخصيّات، «حواء» التي تبيع جسدها، لتدعم «صاد» اللاجئ منذ الولادة، «كليليو» الذي يمتهن الأعمال القذرة، ثمّ «سافيتا» الفتاة التائهة بين رغبتها ورغبة ذويها. تبدأ الرواية بحواء وهي تسرد حكايتها، تنتقل من يدٍ إلى أخرى، تتلكّأ في سرد ماضيها، لأنّها تعتبره شائناً ينبغي تناسيه، والتطهّر منه، تتذكّر حقيبتها المدرسيّة الفارغة، تستمع إلى وقع أقدامها، وتصفها بأنّها وقع أقدام الفاشلين، تقاسي حروق البدايات الخاطئة، وندوب النهايات الخائبة، تقول انّها تحمل علامتها الفارقة فوق جبينها، تشعر بالعري والخزي عندما تنظر إلى نفسها في المرآة، ترى رأسها كرأس اللبوة، تكون صلعاء مثل جوعها. تقرّر المشي، تريد الركض نحو نفسها، لتعثر على ذاتها المضيّعة في زحام مَن اعترضوا طريقها من رجال، أغوتهم بفقرها، وجسدها النحيل، وابتزّوها بهداياهم، ونقودهم، فكانوا يروون بجسدها الشاحب جوعهم وعنفهم، ويلقونها جائعة مهملة إلى الطرقات. تفاوض، تقايض ما تحتاجه مقابل جسدها، تثور على صغرها وهشاشتها، تمتلك قوّة الرغبة وسلطة الشهوة والإغواء. تبحث عن مفتاح للخروج من أنقاضها وتناقضاتها، فتجد الباب مخلوعاً.
يعبّر صادق المعروف بـ «صاد» عن نفسه بأنّه معلول، وعلّته حواء، التي تزعم أنّها لا تعرف بحبّه لها، كان دائم اللعب معها، ولم يكن يهينها أبداً، يخفي عاطفة لا يعترف بها، يقع نهباً للتغيّرات الفيزيولوجيّة التي تفرضها عليه الطبيعة في مرحلة المراهقة، حيث الليل وجنون الهرمونات تدفعه إلى أن يكون في حاجة ماسّة إلى الجنس الآخر، يتلاشى المستقبل، يغدو الحاضر مسوّراً بالجوع والعتمة، تغيب الأمّهات في ضباب الاستسلام، يجد الآباء مزايا السلطة في الكحول، يعيش كلّ مراهق على هواه، يتحرّر من القوانين ومن كلّ شيء، في عالم المستنقع الكارثيّ، الذي لا يجتاحه التغيير أو البناء، وتغيب ملامح ساكنيه أو تتوحّد، يتّخذ صاد وأمثاله لأنفسهم هويّة، لأنّهم بلا هويّة، يخترعون هوية البدون «التروماريّين»، الهوية التي تجمع الفقراء من مختلف الطوائف المتواجدة في المنطقة المنسيّة، لترصّ الصفوف في مسعى لإثبات الوجود، وتغيير العالم. ويبقى ذلك وهماً عصيّ التحقّق.
كليليو الذي سجن مرّات عدّة، ذو الماضي السيّئ، يقاتل ضدّ الجميع، يمتهن أقذر المهن، سوى القتل، لا يشاطر صاد آراءه، لكنّه يتّفق معه حول أنّ الفقر أشدّ السجّانين وحشيّة، وأنّ هناك مَن يزيّن لهم سراب النجاح، ويسعى إلى إبقائهم رازحين في وحول المنطقة، وموبقات المستنقع.
تبقى سافيتا ملازمة لحواء، تضبط إيقاع خطواتها على خطواتها لتتفادى الحفر، تتظاهر بأنّها توأمها للشبه الكبير بينهما، ترتدي الملابس نفسها، تتطيّب بالعطر نفسه، تضع الأقراط نفسها، لكنّها توقن باختلافها، وتتنبّأ بموتها الوشيك. هناك اعتقاد أنّها تظلّ أسيرة الرغبة، ثمّ يدخل العنف في المعادلة، تظلّ اليد تسحب بينما تهدأ الرغبة، يتّخذ الفعل أشكالاً أخرى وجنوناً آخر. وثمّة سير ضبابيّ للتحرّر من ثقل الذاكرة، والتهرّب من عنف الواقع والذكريات والأحلام معاً.
تدخل حواء وسافيتا إلى مناطق وأماكن ما كان ينبغي لهما دخولها، أو الاقتراب منها، يغيظ ذلك صاد وكليليو، تستقطب حواء الكثير من الرجال، لا تتوانى عن إغوائهم، وإلهاب النيران في صدر صاد الذي يستنكر أفعالها، لكنّه لا يجرؤ على مصارحتها بالأمر.
يُعثر على سافيتا ميتة وملقاة في المزبلة، تكون هناك احتمالات عدّة حول الجريمة، توصَف بأنّها جريمة ألم، حزن، اغتصاب حقير ناتج من الحبّ، دعارة، وتخمينات أخرى تحضر كلّها في وارد تحليل الجريمة والنبش في الدوافع المحتملة، يتمّ إلصاق التهمة بكليليو السيّئ الصيت، يرمى في السجن ككبش فداء، في حين أنّ حواء وصاد يجدان نفسيهما في منازلة غير متكافئة بتهم التحريض. ولا يهمّ بعد ذلك البحث عن القاتل الحقيقيّ، إذ أنّ القضيّة لا تنتهي بالإلقاء في السجن، أو الخروج منه، بل هي متمحورة حول سجن المستنقع، وزنزانة العنف المحكمة الإغلاق.
ما الذي يجري عندما تخرج حواء من أنقاضها، عندما تخرج من جسدها الذي يغدو مركز جذب ومَغنطة، ونقطة للتفاوض والمساومة، مادّة للمقايضة؟ نجد أنّها ترمى في سجنٍ أشدّ عتمة، كأنّما لا يكون الخلاص من تلك الحالة المزرية إلاّ بالسجن كحلّ بديل، أو عقاب واجب، أو برزخ لا بدّ منه قبل الانتقال إلى المرحلة اللاحقة، التي قد يتمّ فيها إعادة بناء الذات المتداعية، ليعاد ترميم الجسد المرهون للعنف والعنف المضادّ. تخرج حواء التي تغوي الرجال من جحيم إلى آخر، يتبعها مريدوها أنّى ترتحل، تجازيهم بالسجن، الذي تُكبَّل فيه معهم. تترك حواء حرّيّة اختيار النهاية المناسبة لصاد، تتذرّع بجهلها في فنّ القصص، وتستغرب لقصر الحياة، يتأمّل صاد في الأضرار المخلّفة على جسدها، يراها منحوتة كصخرة بازلتيّة، لا يفهم شيئاً من العنف الذي يحضر في كلّ مكان، ينتشر كالسمّ في الهواء. يختار الغرق معها، يضحّي بنفسه لإنقاذها ممّا وصلت إليه. كأنّ الحلّ الوحيد يكمن في تحطيم الجسد وتدميره، كي يتبدّد ما غرق فيه من وحول العنف والجنون.

0 مشاركات:

إرسال تعليق