البرتغاليـــــون 
The Portuguese 
«البرتغاليون» مصطلح يُستخدَم للإشارة إلى اليهود المتخفين من المارانو الذين خرجوا من شبه جزيرة أيبريا (إسبانيا والبرتغال). ومن المُرادفات الأخرى «كونفرسوس» أي «المهتدون»، و«المسيحيون الجدد»، وبالعبرية «أنوسيم» أي «المُكرَهون» بل و«السفارد». ولعل تسمية «البرتغاليون» تعود إلى أن أغلبية المارانو جاءت من البرتغال. كما أن مصطلح «برتغالي» كان أكثر تهذيباً من مصطلح «مارانو»، وكذلك أكثر إبهاماً من مصطلح «المسيحيون الجدد». وبالتالي، كانت الدول (مثل إنجلترا) تسمح لليهود بالاستقرار فيها باعتبارهم «برتغاليين» (اسماً) وهي تعلم جيداً أنهم «مارانو» (فعلاً). وكان هؤلاء يمارسون شعائرهم الدينية إما سراً وإما علناً. وكانت المؤسسة الحاكمة تغض النظر عن كل هذا. وقد لجأت بعض المؤسسات الحاكمة إلى هذا الحل لحاجتها الشديدة إلى اليهود بسبب نفعهم ولأنهم مادة استيطانية مهمة، حيث لم يكن بوسعها استصدار التشريعات اللازمة لذلك بسبب المعارضة الشعبية وبسبب الهيكل القانوني ذاته الذي كان يستند إلى شرعية دينية. ومع نهاية القرن السابع عشر، بدأت كثير من الدول تعترف بالبرتغاليين كيهود. 


يهـــود المارانـــو: تاريــــخ وعقـــيدة 
The Marranos History and Doctrine 
كلمة «مارانو» أطلقت على أولئك اليهود المتخفين، في إسبانيا والبرتغال، الذين تراجعوا ظاهرياً عن اليهودية وادعوا اعتناق الكاثوليكية حتى يتمكنوا من البقاء في شبه جزيرة أيبريا مع تَراجُع الحكم الإسلامي وبعد طَرْد يهود البرتغال عام 1480 وطَرْد يهود إسبانيا عام 1492. وقد أطلق عليهم أيضاً تعبير «كونفرسوس»، أي «الذين اهتدوا إلى دين جديد»، و«كريستاوس نوفوس»، أو «المسيحيون الجدد». وكلمة «مارانو» التي أحرزت شيوعاً في القرن السادس عشر ليست معروفة الأصل على وجه التحديد. وفيما يلى بعض الكلمات والعبارات التي قد تكون أصلاً للكلمة: 


1 ـ «مارانو» كلمة باللهجة الإسبانية القديمة معناها «خنزير». 


2 ـ «ماترانثا» كلمة إسبانية معناها «الملعون». 


3 ـ «المُرائي» كلمة عربية معناها «منافق». 


4 ـ «مارئيت عيين» عبارة عبرية معناها «ظاهر للعين»، فهو يُظهر المسيحية ويبطن اليهودية. 


5 ـ «محوّرام أتاه» كلمة عبرية معناها «أنت مطرود من حظيرة الدين». 


6 ـ «مَارَن أث» عبارة آرامية معناها «أنت مولانا»، والخطاب فيها موجَّه إلى المسيح. وكان محتوماً على اليهودي أن ينطق بها كثيراً لإبعاد الشبهة عن نفسه. 


والأصل الإسباني للكلمة هو الأكثر رجوحاً. 


ولم يكن المصطلح ذائعاً في الأوساط الرسمية، ولم يرد في أي من الوثائق الرسمية الخاصة بمحاكم التفتيش. والمقابل العبري هو «أنوسيم»، أي «المُكرَهون» أو الذين «قُسروا» على التنصر. ويُشار أحياناً إلى المارانو بعد خروجهم من شبه جزيرة أيبريا واستيطانهم مختلف دول أوربا، خصوصاً هولندا، باسم «البرتغاليون»، باعتبار أن أغلبيتهم جاءت من هناك، كما يشار إليهم كذلك بكلمة «السفارد» باعتبار أنهم جميعاً من السفارد، أي من شبه جزيرة أيبريا. ورغم أن الدراسات تُوحِّد بين المسيحيين الجدد ويهود المارانو وتقرن بينهما، فإننا، كما سنبين فيما بعد، نرى أن هذا الترادف خاطئ. ولكننا، مع هذا، نضطر إلى استخدامه بسبب شيوعه وبسبب إبهام هوية المارانو كما سنبين لاحقاً. 


وقد كانت هناك حالات متفرقة من التَنصُّر القسري في العالمين الإسلامي والمسيحي. وقد وقعت مثل هذه الحالات في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي، وفي أوربا المسيحية مع حروب الفرنجة وغيرها. لكن مثل هذا التنصر ظل الاستثناء لا القاعدة، لأن الكنيسة كانت تقف ضده، نظراً لأن مثل هذه العملية تُفقد فكرة الشعب الشاهد مضمونها. فهذه الفكرة، التي كانت تَحكُم علاقة الكنيسة بأعضاء الجماعات اليهودية، تذهب إلى أن اليهود في ذُلِّهم وضعفهم يقفون شاهداً على عظمة الكنيسـة وانتصارها، وسيكون تَنصُّرهم في نهاية الأمر أكبر قرينة على هذه العظمة. ومن ثم، يكون التَنصُّر اليهودي طوعاً علامة على هذه العظمة. أما التنصُّر القسري فلا يضيف إلى أمجاد الكنيسة، ولذلك كانت الكنيسـة تسـمح لليهود الذين نُصِّروا عنوة بالعودة إلى دينهم الأصلي. 


ولكن الأمر يختلف بالنسبة للمارانو الذين يبدأ تاريخهم عام 1391 حين نشبت اضطرابات ضد يهود إسبانيا وقامت مظاهرات عرضت عليهم إما « الموت أو الصلب ». وقد أدَّت هذه الاضطرابات إلى تَنصُّر أعداد كبيرة من اليهود بشكل قسري. ولكن تبع هذا موجة تَنصُّر طوعي، بسبب انكسار أعضاء الجماعات اليهودية وهبوط الروح المعنوية. فضلاً عن أن يهود إسبانيا كانوا مُستوعَبين في الثقافة العقلانية الرشدية (نسبة إلى ابن رشد) التي قوضت إيمانهم الديني. كما أن كثيراً من أعضاء النخب الثقافية والمالية اليهودية كانت لهم مصالح مالية متشابكة مع مجتمع الأغلبية (المسيحي). ثم قامت حركة تنصير أخرى عام 1411 - 1412. ويمكن القول بأن تَنصُّر الغالبية العظمى كان حقيقياً، ولكن ظلت هناك أعداد ممن مارسوا الطقوس اليهودية بشكل خفي. وقد عاش اليهود المتنصرون ومدَّعو التَنصُّر جنباً إلى جنب مع أعضاء الجماعة اليهودية، بينما حاولت الدولة الإسبانية قَدْر استطاعتها أن تفصل بين الفريقين. وقد احتفظ كثير من المتنصرين بمهاراتهم الحرَفيِّة والإدارية واتصالاتهم التجارية كأعضاء في الجماعة الوظيفية اليهودية، وقد حققوا بسبب ذلك حراكاً اجتماعياً غير عادي، ولَّد الأحقاد ضدهم من قبَل بعض عناصر الأرستقراطية القديمة. 


وبعد سقوط غرناطة (واستعادة كل شبه جزيرة أيبريا) واجهت الدولة الجديدة مشكلة سكانية، وهي أن معظم سكان شبه الجزيرة كانوا إما مسلمين أو يهوداً أو من أصول مسلمة أو يهودية، ولم تكن توجد سـوى أقلية مسـيحية، ومن هنا لم يكن مفر من طرد العناصر غير المسيحية، لخَلْق التوازن السكاني لصالح المسيحيين، الأمر الذي يتطلبه أمن الدولة. 


لهذا كان لابد من طرد المسلمين واليهود، فعُرض عليهم إما التنصر أو مغادرة البلاد. وقد تَنصَّرت أعداد كبيرة من اليهود انضمت إلى الأعداد التي تَنصَّرت قبل ذلك. لكن العناصر الدينية الصلبة قررت اللجوء إلى البرتغال التي قدَّمت لهم حق اللجوء المؤقت، نظير ضريبة يدفعونها. ولكن حينما اعتلى مانويل الأول العرش عام 1495 تغيَّرت السياسة تجاه اليهود. فمانويل كان يطمح إلى تحويل البرتغال إلى قوة تجارية عالمية، ووجد أن السبيل إلى ذلك هو أن يحكم ابنه مملكة موحَّدة في كل شبه جزيرة أيبريا، ولذا حاول أن يزوج ابنه من إبنة فرديناند وإيزابيلا، فوافق الملكان شريطة أن يقـوم بطرد اليهود من البرتغـال. وقد سبَّب هـذا حيـرة حقـيقية لمانويل، فهو من ناحية كان حريصاً على إتمام هذا الزواج، ولكنه في الوقت نفسه كان يهمه الحفاظ على أعضاء الجماعة الوظيفية اليهودية ليستفيد من خبراتهم التجارية في بناء إمبراطوريته التجارية. وقد حلّ مانويل هذه المشكلة بأن احتفظ باليهود وفرض عليهم التنصُّر القسري، ولكنه منحهم في الوقت ذاته حريتهم الدينية والحصانة ضد محاكم التفتيش لمدة عشرة أعوام. وقد اندمج المتنصِّرون في مجتمع الأغلبية، ولكن، كما هو الحال في إسبانيا من قبل، ظلت هناك عناصر تمارس الطقوس اليهودية سراً. 


ويُلاحَظ أن اليهود المتنصرين في البرتغال كانوا يشكلون كتلة بشرية كبيرة (كانت تصل، حسب بعض التقديرات، إلى 10% من إجمالي عدد السكان).وكان اليهود الذين فُرضت عليهم اليهودية في البرتغال من العناصر الصلبة، كما أسلفنا، ولذا احتفظوا بتماسكهم حتى أنهم كانوا يُسمّون أحياناً «اليهود» بشكل علني أو «الأمة» أو «رجال الأعمال» (بالبرتغالية: أومينز دي نيجوسيو�
وبعد اندلاع الثورة البلشفية، قامت حركة قوية للاستقلال في جورجيا اشتركت فيها عناصر يهودية معادية للصهيونية (وتحالف معهم أعضاء جماعة حبد). وقد هاجم الجيش الأحمر جورجيا، وبدأت عملية دمج جورجيا في الدولة السوفيتية وهو ما تضمن دمج أعضاء الجماعة اليهودية. ولم تتدخل الحكومة في الشئون الدينية، ففُتحت المعابد اليهودية، بل وسمحت الحكومة بالنشاطات الصهيونية لبعض الوقت. ولكن، بعد أن تزايدت النشاطات المعادية للسوفييت، تغيَّر موقف السلطات السوفيتية. وفي منتصف العشرينيات، بذلت هذه السلطات جهداً مضاعفاً لعلمنة يهود جورجيا، ففتحت أبواب المصانع للعمال اليهود، كما فتحت لهم المزارع الجماعية اليهودية. ولكن، في منتصف الثلاثينيات، قررت السلطات السوفيتية أن تحطم ما تصورته الانغلاق الإثني لليهود في المزارع الجماعية، فأسست مزارع مختلطة (أممية) تضم يهوداً وأرمن. وقد فكرت السلطات السوفيتية في أن تُطوِّر ثقافة سوفيتية جورجية على نمط الثقافة السوفيتية اليديشية، لكن المحاولة توقفت بعد فترة قصيرة من البدء فيها. ويعمل يهود جورجيا أساساً بالتجارة كما يعمل كثيرون منهم بالمهن الحرة، فمنهم العلماء ومنهم المهندسون والمدرسون. ويوجد بينهم كذلك عمال مهرة. 


والجو الحضاري في جورجيا تعددي متسامح. ولا يتَّسم تاريخ الجماعة اليهودية بظاهرة العزل أو الطرد أو المذابح، كما هو الحال مع يهود اليديشية في أواخر القرن التاسع عشر. 
ولا تختلف أسماء يهود جورجيا عن أسماء جيرانهم المسيحيين، بل إن لهم العادات نفسها، ويرتدون الأزياء نفسها، ويتبعون أسلوب حياة واحد. وهم يشاركون جيرانهم المسيحيين أعيادهم فيحتفلون بالكريسماس معهم، في حين يشاركهم المسيحيون الاحتفال في عيد النصيب، ويرقصون معهم في عيد نزول التوراة. 
ويبدو أن يهود جورجيا فقدوا، بمرور الزمن، علاقتهم باليهودية الحاخامية. ولذا، كان سكان المدن من المتمسكين بدينهم اليهودي يشيرون إليهم باسم «الكنعانيين». ولا يأكل يهود جورجيا لحم الخنزير، ولكنهم لا يحافظون على قوانين الطعام الأخرى. وهم يعرفون الذبح الشرعي ولا يمارسونه بصورة دائمة. وبشكل عام، يُلاحَظ أنهم لا يعرفون كثيراً من الشعائر اليهودية، وحينما يعرفونها فإنهم يتجاهلون معظمها. والفاصل الأساسي بينهم وبين جيرانهم من غير اليهود هو أنهم لا يتزاوجون معهم، ولكن يُلاحَظ أن نسبة الزواج المختلط بينهم آخذة في الزيادة منذ الستينيات. 


ويتحدث معظم أعضاء الجماعة اليهودية في جورجيا اللغة الجورجية (91%) ويكتبونها بالحروف الجورجية (وهؤلاء هم اليهود الأصليون)، كما تتحدث أقلية من يهود جورجيا اليديشية والروسية. ولم تكن العلاقة جيدة دائماً بين يهود جورجيا ويهود اليديشية الذين هاجروا من منطقة الاستيطان في أواخر القرن التاسع عشر (باعتبارهم عنصراً روسياً) ليستوطنوا المناطق الآسيوية التي ضمتها الحكومة القيصرية (فهم جماعة وظيفية استيطانية). ورغم جو التسامح، وعدم وجود معاداة لليهود، ورغم معدل الاندماج العالي الذي حققه اليهود في جورجيا، فإنهم حين فُتحت أبواب الهجرة إلى إسرائيل هاجر منهم ما يساوي نصف عددهم الكلي. والسؤال الآن: إذا كان يهود جورجيا مندمجين ومتساوين في الحقوق مع غير اليهود، فلم هاجرت أعـداد كبيرة نسـبياً منهم إلى الدولة الصهيونية؟ وللإجابة عن هذا السؤال، لابد من العودة إلى حركيات المجتمع الجورجي حتى يتسنى لنا فهم العناصر التي أدَّت إلى الهجرة، عناصر الطرد من الاتحاد السوفيتي ثم عناصر الجذب إلى إسرائيل. 


يستند المجتمع الجورجي إلى شبكة اتصالات واسعة. وهذه الشبكة هي مؤسسة وسيطة تشبه علاقاتها علاقات القرابة أو العلاقات القَبَلية، وهي تضم مجموعة من الأفراد يدخلون في عـلاقة متعيِّنة مبـاشـرة، فتزوِّد الشـبكة العـضو بالعون في لحظة حاجته، وبالطمأنينة في لحظات الأزمة، وتَشدُّ من أزره في كل الأحوال في مواجهة المجتمع ككل، وبالذات في مواجهة الدولة الحديثة (بكل تجريديتها) وفي مواجهة البيروقراطية السوفيتية التي تتَّسم أفعالها بمستوى عال من العقلانية وعدم الاكتراث بالعناصر الشخصية. وليس بإمكان عضو أن يوجد خارج هذه الشبكة التي يُعَدُّ اعتماده عليها مصدر عزته وكرامته، وعليه بالمقابل أن يقدم لها ما تريد. ويُلاحَظ أن اليهـود ينتظـمون في شبـكات اتصـال غير يهودية، كما أن هنـاك مـسيحيين ينتظمـون في شـبكات اتصـال يهودية. وفي هذا الإطار، يُعتبَر الولاء للدولة أمراً ثانوياً قياساً بالولاء إلى الجماعة/الشبكة المباشرة. ويُنظَر إلى كل من الدولة والشبكة باعتبارهما طرفين متعارضين. فالدولة السوفيتية هي الكيان المجرد البيروقراطي، والشبكة هي الجهاز المتعيّن المحلي الذي يستطيع الفرد التعامل معه بشكل إنساني ومباشر. 


وهذه الشبكة الهائلة المتطورة، وهذا التمازج بين الفرد والأسرة، هما أساس القومية الجورجية، وهي قومية معادية للضغوط الخارجية التي تأتي عادةً من موسكو. ويتمثل رفض الحكومة المركزية فيما يُسمَّى «الاقتصاد الثاني»، وهو القطاع الحر غير الشرعي الذي تديره الشبكة بطبيعة الحال لصالح أعضائها، والذي يُعبِّر عن الهوية الجورجية القومية في وقوفها ضد تَدخُّل الدولة الحديثة ومحاولاتها في خلق اقتصاد موحَّد يُدار مركزياً. ويشارك يهود جورجيا هذا الإحساس القومي الجورجي الرافض للدولة الحديثة، والذي يتبدَّى في شكل الارتباط بالشبكة، أي أن هوية يهود جورجيا هي هوية جورجية قوية ذات أبعاد يهودية خاصة تلعب دوراً حاسماً في تشجيع الهجرة إلى إسرائيل. غير أن هذه الهجرة لم تتم لأسباب يهودية عامة وإنما بسبب حركيات المجتمع الجورجي. وتحتوي كل عملية هجرة على عنصر جذب إلى الوطن الجديد وعلى عنصر طرد من الوطن القديم.


ـ عنصر الجذب:  عند نشوب حرب 1967، وقف السوفييت إلى جانب العرب ضد إسرائيل، الأمر الذي جعل الجورجيين (بعدائهم التقليدي للروس) يتعاطفون مع إسرائيل ضد العرب وحلفائهم الروس. وقد غذى هذا الشعور التراث الجورجي المحلي المعادي للإسلام. فتحوَّلت الدولة الصهيونية إلى ما يشبه المثل الأعلى: الدولة الصغيرة التي يمكنها الحفاظ على هويتها والوقوف ضد السوفييت. وكان هذا الإحساس الجورجي المحلي قوياً للغاية عند يهود جورجيا. ولعل هذا يمثل عنصر الجذب. 


 ـ عنصر الطرد:  حكم مجافنادزة (السكرتير الأول للحزب الشيوعي الجورجي) جورجيا مدة تسعة عشر عاماً، وكان الفساد قد وصل في عهده إلى مستويات لم يسبق لها نظير، إذ يبدو أن الشبكة الجورجية نجحت في التسلل والاستيلاء على مؤسسات الحزب الشيوعي ذاتها هناك، وفي تسخيرها لصالح أعضاء الشبكة أو الشبكات، وبعد إقالته، عُيِّن مكانه شفارنادزة المشهور بنزاهته. ولذا، كان من المتوقع أن يقوم بمناهضة الاقتصاد الثاني الذي كان يرتبط به عدد كبير من اليهود بنسبة تفوق نسبة غير اليهود. وقد شكلت هذه التحولات الاقتصادية عنصر الطرد. 
ويُلاحَظ أن كلاً من عنصري الجذب والطرد محليان تماماً، وأن اختلاف اليهود عن غير اليهود كان اختلافاً في الدرجة وحسب وليس في النوعية، إذ أن استجابتهم للأحداث كانت استجابة جورجية أساساً وذات بعد يهودي يزيد من حدة الاستجابة عندهم. وقد كانت درجة تعاطفهم مع الدولة الصهيونية بطبيعة الحال أعلى، كما أن درجة الضرر الذي لحق بهم نتيجة الإصلاحات الاقتصادية كانت أكبر كما بيَّنا. ويمكن أن نضيف هنا عناصر أخرى مساعدة، فعلى سبيل المثال رأى يهود جورجيا أن الدولة الصهيونية زاخرة بفرص العمل الحر (الاقتصاد الثاني) الأمر الذي كان يزيد ولا شك من عنصر الجذب. ومن هنا تأتي معاداة معظم المهاجرين من جورجيا للصهيونية العمالية التي تؤيد تَدخُّل الدولة في الاقتصاد. ومن العناصر المساعدة الأخرى، أن عناصر الشبكة التي انتقلت إلى إسـرائيل لعبـت دوراً أساسـياً في جـذب أعداد كبيرة من يهود جورجـيا. فالمهاجرون السـوفييت، كي يحــصلوا على تأشيرة هجــرة، كان علـيهم أن يحصلوا على دعوة من قريب لهم في الخارج. وقد حصل يهود جورجيا على أعلى نسبة من الدعوات وصلت إلى نحو 118%، حيث كان بعض اليهود يتلقون أكثر من دعوة. وحينما كان جزء من الشبكة اليهودية ينتقل إلى إسرائيل، كان بقية الأفراد الذين تخلفوا يجدون الحياة صعبة للغاية ولا معنى لها خارج نطاق الشبكة، فيهاجرون هم أيضاً ليلحقوا بإخوانهم. 


وفيما يلي أعداد اليهود الذين هاجروا من جورجيا: 


( السنة 1971 عدد المهاجرين 4300 ) ( السنة 1972 عدد المهاجرين 10900 ) ( السنة 1973 عدد المهاجرين 7750 ) ( السنة 1974 عدد المهاجرين 2700 ) 


ولم يزد عدد المهاجرين بعد ذلك التاريخ على ألف، مع أن السوفييت لم يتخذوا سياسة متشددة في منح تأشيرات الخروج إلا بعد عام 1979، أي أن الأعوام الخمسة التالية للفترة التي شهدت الهجرة اليهودية المكثفة من الاتحاد السوفيتي شهدت أيضاً تراجعاً بين يهود جورجيا. ويمكن تفسير ذلك مرة أخرى في ضوء حركيات الجذب والطرد الخاصة بالمجتمع الجورجي، فعنصر الجذب الأساسي، وهو حرب 1967، كان آخذاً في التضاؤل التدريجي، وفقد كثيراً من بريقه في حرب الاستنزاف، واختفى تقريباً بعد حرب 1973. أما عنصر الطرد، وهو التحولات الاقتصادية التي هَّزت الاقتصـاد الثاني، فيبـدو أنه بدأ يقل، إذ أن مخاوف الجورجيين، ومن بينهم اليهود، أخذت تهدأ قليلاً، وظهر أن الأمر لم يكـن مخيفاً كمـا توهموا في بداية الأمر، ومن هنا تناقصت الهجرة. 


ويشكل يهود جورجيا في إسرائيل مشكلة كبيرة، فهم لا يشعرون بالسعادة هناك، كما أنهم يعانون من التفرقة العنصرية التي تُمارس ضدهم. وقد أصبحوا من أهم مصادر الجريمة المنظمة في الدولة الصهيونية وتخصصوا في تزييف النقود. وهاجرت أعداد منهم إلى الولايات المتحدة وشكَّلوا هناك بعض عصابات الجريمة المنظمة، والجريمة المنظمة هي أحد أشكال الاقتصاد الثاني. 


وكان عدد يهود جورجيا 52 ألفاً عام 1959 (وجاء في إحصاء آخر أن عددهم كان 80 ألفاً من الناحية الفعلية)، وانخفض إلى 43 ألفاً عام 1970. أما إحصاء عام 1989، الذي يتميَّز بأنه يُقسِّم يهود الاتحاد السوفيتي إلى جماعات يهودية إثنية مختلفة، فيذكر أن عدد يهـود جورجيا 16.123يعيش أغلبهم في تفليس عاصمة الجمهورية. ولا يزال الجو العام في جورجيا تعددياً، وإن كانت الوظائف الإستراتيجية تُحْجَب عن اليهود لأنهم سيهاجرون إلى إسرائيل. وقد أخذت معدلات الاندماج والعلمنة في التزايد، وبدأ اليهود يصطبغون بالصبغة الروسية لا الجورجية. وإذا أضفنا إلى ذلك هجرة اليهود المتدينين، فليس من المستبعد أن يختفي يهود جورجيا في المستقبل. وقد أصبحت جورجيا جمهورية مستقلة، وهو ما يعني أن الإطار الذي يتحرك فيه أعضاء الجماعة اليهودية قد تغيَّر بشكل جوهري.


يهــود بخــارى 
Bukhara Jews 
«بخارى» إمارة إسلامية تركية ضمتها الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر. وتقع بخارى الآن ضمن جمهورية أزبكستان. وتعود جذور يهود بخارى إلى عصور قديمة، فتقول أساطيرهم إنهم منحدرون من أسباط يسرائيل العشرة المفقودة. وهم مندمجون في الوسط الحضاري الذي يعيشون فيه، ويتحدثون اللغة الطاجيكية، وهي لهجة فارسية. وقد كان يهود بخارى وأفغانستان ووسط آسيا يُشكِّلون وحدة ثقافية واحدة، ثم انقسمت هذه الجماعة في القرن السادس عشر، مع بداية الحكم الشيعي في إيران، إلى يهود إيران ويهود وسط آسيا ويهود أفغانستان الذين ظلوا تحت الحكم السني. ثم انقســمت الجمــاعة الأخيرة، في القرن الثامن عشر، وتفرَّع عنها يهـود بخــارى ويهود أفغانستــان. ويبلــغ عددهم، حسب إحصاء 1959، ثمـانية وعشـرين ألفاً يعيش ثلاثة وعشرون ألفــاً منهم في أزبكستان، في سمـرقنـد وبخــارى، والباقــون في طاجيـكستان. أما إحصاء 1989، فيحدد العدد بنحو 36.568 ألفاً. وإن صدقت هذه الأرقام، تكون الجماعة اليهودية في بخارى هي الجماعـة الوحيـدة في كومنولث الدول المستقلة التي زاد عدد أعضائها. 


وكان يهود بخارى يعملون بالتجارة والصباغة عشية الثورة وازدهر حالهم بعد ضم الإمارات الإسلامية إلى الإمبراطورية نظراً لفتح الأسواق أمامهم. ولكن، مع قيام الثورة الاشتراكية، تدهور وضع التجارة عامة، وبدأت الحكومة السوفيتية في إنشاء مزارع جماعية لهم، لكن التجربة فشلت. 


ويبدو أنهم فقدوا، في مرحلة من المراحل، علاقتهم باليهودية الحاخامية ونسوا شريعة موسى. ولذا، فإنهم كانوا لا يمارسون الذبح الشرعي بل ويأكلون اللحوم التي يذبحها المسلمون. وكانت زوجاتهم يلبسن الحجاب مثل نساء المسلمين. كما كانوا يمضغون الطباق ويدخنون النرجيلة. 


ويظهر الأثر الإسلامي أيضاً على المعبد اليهودي الذي يشبه المسجد ويغطيه السجاد الفاخر. ويصلي فيه اليهود جالسين القرفصاء. وهـم يُنادون بعضـهم البعض بالاسـم الأخير مع إضـافة لفظـة «أخ» أو «عم»، كما يُنادَى العلماء بلفظ «ملاّه». أما رجال الدين، فيسمونهم «الحاخامات» وليس «الرابي» كما هو الحال في الغرب. وتشبه مدارسهم الدينية الكتاتيب. 


يهـود الجبــال (يهـود التـات، يهـود داغسـتان) 
(Mountain Jews )Tat Jews; Daghestan Jews 
«يهود الجبال» جماعة يهودية لها خصوصياتها الإثنية واللغوية، يعيش أعضاؤها في مقاطعة داغستان السوفيتية وأذربيجان (ومن هنا يشار إليهم بلفظ «يهود داغستان») كما يُشار إليهم كذلك باسم «يهود التات». ويُسمِّي يهود الجبال أنفسهم «جوهور». ولكن مصطلح «يهود الجبال» ذاته هو مصطلح روسي صكته السلطات الروسية القيصرية في منتصف القرن التاسع عشر بعد ضم المنطقة إليها. 


وتشير الدلائل اللغوية والتاريخية إلى الأصول الإيرانية ليهود الجبال، فلهجتهم من أصول إيرانية شمالية دخلت عليها كلمات تركية وعبرية. وقد تكوَّنت الجماعة نتيجة هجرة اليهود المستمرة من شمال إيران (وربما من الإمبراطورية البيزنطية) لأذربيجان حيث استوطنوا بين متحدثي لغة التات التي أصبحت لغتهم. وقد بدأت هذه العملية في منتصف القرن السابع الميلادي مع الفتح الإسلامي للمنطقة، واستمرت حتى غزاها المغول في القرن الثالث عشر. وفي هذه الفترة، اتصل يهود الجبال بيهود الخزر. وقد انقطعت الصلة بعد ذلك بين يهود الجبال وبقية يهود العالم حتى بداية القرن التاسع عشر تقريباً. 


وليهود الجبال عادات وقيم قَبَلية، فهم يمجدون الشجاعة، ويدافعون عن شرفهم مستخدمين السيف، ويأخذون بالثأر، وتنتشر بينهم الخرافات، ويعيشون في بيوت طينية منخفضة تعلَّق على حوائطها أسلحتهم المصقولة، وهو ما يدل على اندماجهم في الحضارة القوقازية الإسلامية في هذه المنطقة. وهم يتَّسمون بأسماء توراتية بعد إضافة النهاية الروسية «أوف»، فيصبح «بنيامين» مثلاً «بنيامينوف». وتشبه معابدهم المساجد من الخارج، وكانت تُستخدَم كمدرسة دينية على طريقة المسلمين حيث يجلس الأطفال على الأرض ويحفظون التوراة على يد الحاخام. وهم يحتفلون بالأعياد اليهودية، وخصوصاً عيد النصيب وعيد الفصح، وإن كانت الطقوس الخاصة بعيد الفصح مختلفة عن تلك المعروفة بين اليهود. كما أن طقوس الزواج عندهم مختلفة عن تلك الطقوس المعروفة لدى يهود أوربا، إذ يدفع الزوج ما يُسمَّى «الكالين» أو «الفدية». وهم يقسمون بالنار ويشعلون النار بجوار المرضى، الأمر الذي يشير إلى أصولهم الإيرانية. والوحدة الاجتماعية الأساسية هي الأسرة الممتدة، والتي تضم ثلاثة أو أربعة أجيال ويبلغ عددها نحو سبعين عضواً. وكان يهود الجبال يمارسون تعدد الزوجات. ويشكل كل سبع أو ثماني أسر قرية يهودية. 


وقد تدهورت أحوال الجماعة اليهودية بتدهور المنطقة ككل نتيجة تحولها إلى ساحة صراع بين كلٍّ من روسيا وتركيا وإيران إلى جانب الصراع بين عدد من الحكام المحليين. وقد نجحت روسيا في نهاية الأمر في ضمها عام 1813. وقد طلب يهود الجبال من السلطات القيصرية أن تضعهم تحت حمايتها. كما حدثت تحولات عميقة للجماعة اليهودية بعد ضم القوقاز لروسيا، فانتقلت أعداد كبيرة من اليهود من المناطق الجبلية إلى المدن حتى أنه كان هناك في منتصف القرن التاسع عشر نحو 41% من أعضاء الجماعة في المدن، ولكن، مع هذا، ظل حوالي 58% منهم في القطاع الزراعي، بل إن سكان المدن من اليهود كانوا يعملون في صناعات مرتبطة بالمحاصيل الزراعية مثل تقطير الكحول. وكان أثرياء يهود الجبال من أصحاب شركات تقطير الخمور وبيعها، كما أن إحدى العائلات كانت تمتلك أهم شركة صيد في داغستان، وكان الكثيرون من أعضاء الجماعة يقومون بزراعة نبات الروبيا Rubia وهو نبات كانت تُستخلص من جذوره صبغة حمراء، كما كانوا يشتغلون بدباغة الجلود وبصيد بعض الحيوانات لاستخدام جلودها. وقد أصبح كثير من أعضاء الجماعة اليهودية عمال صيد أو عمالاً أجراء وانتقلوا إلى باكو ودربنت بعد أن تصاعدت معدلات التصنيع والتحديث في روسيا القيصرية، وهو ما جعل الصناعات اليدوية غير قادرة على الاستمرار، كما عمل كثيرون منهم تجاراً صغاراً. 


وبعد الثورة البلشفية،تغيَّر وضع يهود الجبال بشكل أعمق. وكما طلب يهود داغستان من السلطات القيصرية من قبل وضعهم تحت الحماية،فإنهم تحالفوا تماماً مع السلطات السوفيتية ضد غالبية السكان.ولذا،فحينما قامت حركة انفصالية ضد السوفييت،كان 70% من الحرس الأحمر في المنطقة من يهود داغستان.وكانت الأعمال الأدبية التي كتبها أدباء من يهود الجبال تتبنى خط الحزب بشكل كامل. وقد جلب كل هذا على أعضاء الجماعة اليهودية كره الجماهير. 


وقد أدَّت حركة التصنيع في الاتحاد السوفيتي، والخطط الخمسية المتتالية، إلى فك التضامن القبلي بين يهود داغستان، فتركوا الجبال وبدأوا يعملون بالمصانع. ومع هذا، فإن أصولهم القبلية وترابطهم العائلي يساعدانهم على الاحتفاظ بقسط كبير من خصوصيتهم الجبلية. 


وحسب إحصاءي 1959 و1970، كان عدد يهود الجبال يبلغ ما بين 50 ألفاً و70 ألفاً (وهو في تصورنا عدد مبالغ فيه). وقد هاجر حوالي 12 ألفاً في الفترة بين عام 1974 ومنتصف الثمانينيات إلى إسرائيل، وبحسب إحصاء عام 1989 (وهو أول إحصاء يُقسِّم يهود الاتحاد السوفيتي إلى جماعات إثنية مختلفة)، يبلغ عددهم حوالي 20 ألفاً، ولعل انخفاض العدد بهذا الشكل الملحوظ يرجع إلى استبعاد يهود اليديشية المقيمين في داغستان. وأهم مراكزهم السكانية باكو عاصمة أذربيجان. أما في داغستان، فإن معظمهم يعيشون في دربنت وفي عاصمة الجمهورية. 


يهـود الخَـزَر 
Khazar Jews 
«الخَزَر» قبيلة من أصل تركي عاشت في منخفض الفولجا جنوب روسيا وكوَّنت مملكة كان حكامها وبعض سكانها يدينون بعبادات وثنية ولكنهم تحولوا إلى اليهودية. ويُنطق الاسم أحياناً «خازارا» كما هو الحال في العربية. ولكن ثمة دلائل على أن هناك طرائق أخرى للنطق، فهو بالعبرية «كوزاي» وبالصينية «كوزا». وربما يعود الاسم إلى الكلمة التركية «قزمق» بمعنى «يتجول أو ينتقل كالبدو» (المشتق منها كلمة «قوزاق») أو ربما يعود إلى كلمة «قوز» أو «جاز» بمعنى «جانب الجبل المتجه إلى الشمال»، وقد يُفسِّرهذا الاشتقاق الأخير النطق العبري (كوزاري). 


وقد وصل الخَزَر إلى منطقة الفولجا والقوقاز من أقصى الشرق في تاريخ غير معروف، وإن كان آرثر كوستلر يذكر نقلاً عن برسكس، رسول الإمبراطور البيزنطي لقبائل اليهود في القرن السادس الميلادي، أن الخَزَر ظهروا على المسرح الأوربي حوالي منتصف القرن الخامس الميلادي باعتبارهم شعباً خاضعاً لسيادة قبائل الهون. ويمكن أن يُعتبروا هم والمجر وغيرهم من القبائل نسل قبيلة أتيلا زعيم البرابرة الشهير. وتُطلق التواريخ الروسية المعاصرة على الخَزَر مصطلح «الأوجاريين البيض»، مقابل «الأوجاريين السود»،وهم الهنغار أو المجريون. وقد أدى موت أتيلا إلى ظهور فراغ كبير وهو ما يسر عملية ظهور الخزر باعتبارهم قوة فى المنطقة التى شغلوها، فقاموا بصهر واستيعاب وقهر بعض القبائل التركية الأخرى، ثم هزموا البلغار فى نهاية الأمر واضطروهم إلى الهجرة. 


ولكن، قبل استقلال الخزر الكامل فى المملكة، كان الخزر يشكلون جزءاً مما كان يسمى الإمبراطورية التركية الغربية أو المملكة التركية أو جزء من أتراك التركستان، وكانوا يشكلون اتحاد قبائل تخضع لحاكم واحد هو الخاقان، أو الكاجان. ويقال إن الخزر ساروا مع سنجيبو، أول خاقانات الأتراك الغربيين، ضد إحدى القلاع الساسانية الفارسية. وقد استمرت المملكة التركية مدة قرن (550 - 650)، وأصبحت كلمة "تركي" بعد ذلك تشير إلى الأتراك وحسب دون الشعوب التركية الأخرى. 


كانت المملكة الخزرية تقع على المعبر الحيوي الواقع بين البحر الأسود وبحر قزوين، بين القوتين الشرقيتين العظميين فى ذلك الوقت: الدولتين الإسلامية والبيزنطية (دولة الروم). وقد أصبحت تمثل عازلة حدودية تحمى بيزنطة من الغارات الهمجية التى تشنها قبائل الإستبس الشمالية مثل البلغار والمجر، كما أنها أوقفت التقدم الإسلامى. فقد قامت بين الجزر والعرب عدة حروب كانت أولها بين عامى 642 و 652 حينما أصدر الخليفة عمر (رضى الله عنه) أمره للقوات الإسلامية بالهجوم على عاصمتهم بالانجار، ولكن المسلمين لم ينجحوا فى مهمتهم واستشهد قائدهم عام 653. وقامت الحرب الثانية بين عامى 722 و 737 وانتهت بهزيمة الخزر على يد مروان بن محمد (مروان الثانى) وأسلم بعدها خاقان الخزر، ولكنه عاد وتحول إلى ديانته الأصلية. ويقول المسعودى إن الخزر قد نقلوا عاصمتهم (تحت ضغط الهجمات العربية) إلى أتل، عند مصب نهر الفولجا، بعد عام 737. ويبدو أنهم خلال الفترة بين اتخاذهم كلاً من بالانجار وأتل عاصمة لهم، كانت لهم عاصمة ثالثة هى سمندر. 


ومما يجدر ذكره أن كتب الرحالة والمؤرخين العرب القدامى (مثل: ابن فضلان، والأصطخرى، وابن حوقل، والمسعودى، وابن سعيد المغربى، والبلخى، واليعقوبى، وابن رسته، والمقدسى، وابن النديم، والطبرى، وابن مسكوبه، والبيرونى، وياقوت) لا تزال من أهم المصادر عن الخزر، سواء فيما يتعلق بتاريخهم أو عاداتهم. ومع أنه توجد مصادر أخرى بيزنطية وروسية، فإن كتب الرحالة العرب لا تزال المصدر الأساسى. ومن المفارقات التى يجب أن تسبب لنا، نحن عرب القرن العشرين، الإحساس بالحرج أننا لم نستفد بهذه الدراسات وإنما استفدنا بدراسات كتاب غربيين معظمهم من اليهود مثل آرثر كوستلر فى كتابه دولة الخزر وميراثها (القبيلة الثالثة عشرة) (والذى استفدنا منه كثيراً فى هذا المدخل). وكتاب العالم اليهودى دنلوب، والموسوعات اليهودية المختلفة، فى حين استمد هؤلاء الكتاب معلوماتهم من المصادر العربية بالدرجة الأولى. 


ورغم انتصارهم، لم يتمكن العرب من القضاء على مملكة الخزر، بسبب المشاكل الداخلية للخلافة الأموية، ولعل هذا هو الذى أنقذ الخزر فى نهاية الأمر. وتشهد فترة الحرب الثانية قيام تحالفات مع الإمبراطورية البيزنطية ربما للرد على الهجوم الإسلامى. وقد زوج الإمبراطور البيزنطى ابنه من أميرة خزرية عام 732، وكانت ثمرة هذا الزواج الإمبراطور ليو الخزرى (775 – 780). 


ولا يعرف أحد بالضبط مدى اتساع مملكة الخزر (خزارياً)، فيجعلها بعض المؤرخين مملكة صغيرة على الفولجا والدون، فى حين يرى البعض الآخر أنها كانت فى قمة اتساعها وتطورها، فى منتصف القرن الثامن حيث شكلت مملكة مترامية الأطراف تمتد حدودها بين سواحل البحر الأسود الشمالية، ونهر الدنيبر فى الغرب، وبحر قزوين ونهر الفولجا فى الشرق، حتى حدودها الجنوبية وجبال القوقاز فى الجنوب. كما اتجه الخزر شمالاً. ويقال إن حدود المملكة وصلت إلى كييف، لكن القرائن على ذلك ضعيفة. ويقول آرثر كوستلر إن الخزر، فى ذروة قوتهم، فرضوا الجزية على ما يزيد على ثلاثين عشيرة وقبيلة مختلفة تقطن المساحات الشاسعة فيما بين القوقاز وجبال الأورال ومدينة كييف والإستبس الأوكرانية. ومن بين الشعوب الواقعة تحت سلطان الخزر: البلغار (بلغار الفولجا)، والغز، والمجريون (الهنغار)، وسكان المستعمرات الجرمانية واليونانية فى القرم، وبعض القبائل السلافية. وكانت الجيوش الخزرية تشن غاراتها أيضاً جنوب المناطق الواقعة وراء مناطق سيادتها المترامية، جورجيا وأرمينيا، وتغلغلت فى الأراضى العربية حتى شارفت الموصل. ولم يكن للخزر، حتى القرن التاسع، أى منافس لسيادتهم فى المناطق الواقعة شمال البحر الأسود وما يلحقها من مناطق الإستبس والغابات على نهر الدنيبر. وقد ظلوا القوة العظمى فى النصف الجنوبى من أوروبا الشرقية مدة قرن ونصف قرن، وكانوا حاجز حماية منيع يسد ممر الأورال وقزوين فيما بين آسيا وأوروبا. وقد صدوا طوال هذه الفترة غارات القبائل البدوية الزاحفة من الشرق. وقد بدأ تدهور الخزر فى القرن العاشر بسبب تزايد قوة قبائل البيشنج فى الشمال والغرب والروس فى إمارة كييف.


وبرغم تدهورها وضعف نفوذها، احتفظت مملكة الخزر باستقلالها حتى القرن العاشر، حين قام حاكم كييف (الأمير سفياتوسلاف) بالهجوم على أتل عام 965 وتحطيم قوتها وتدمير عاصمتها وكذلك قلعة سمندر وساكريل على نهر الدون. ولكن هذا لا يعنى أن الخزر قد أبيدوا، وإنما يعنى تناقص قوتهم وانكماش نفوذهم، إذ أن ذكرهم يأتى فى المدونات المختلفة حتى القرن الثانى عشر. ويمكن القول بأن الإمبراطورية الخزرية تهاوت تماماً باعتناق الأمير الروسى فلاديمير الديانة المسيحية، فقد أدى هذا إلى ظهور تحالف مسيحى يضم بيزنطة فى الغرب وروسيا فى الشمال، وهذا ما جعل مملكة الخزر اليهودية دون قيمة إستراتيجية كدولة عازلة، وسقطت تماماً فى نهاية الأمر تحت هجمات الروس أواخر القرن العاشر وأوائل القرن الحادى عشر. ويقال إن خاقان الخزر اعتنق الإسلام فى تلك الفترة لعقد تحالف مع المسلمين. وقضى الغزو التترى على ما تبقى من الخزر فى وادى الفولجا عام 1247 حين اختفوا تماماً كجماعة مستقلة. ويلاحظ أن دولة الخزر تقع فى المنطقة التى تلتقى فيها عدة إمبراطوريات ولم تحقق الازدهار إلا بسبب الفراغ الموجود فى تلك المنطقة. وهى فى هذا، تشبه، فى كثير من الوجوه، الدولة العبرانية المتحدة (فى الماضى)، والدولة الصهيونية (فى العصر الحديث). 


وحضارة الخزر آسيوية قبلية بدائية احتفظت بكثير من الطقوس البدائية حتى بعد أن أحرزت قدراً لا بأس به من التقدم. وقد عرف الخزر نظام الملكية المزدوجة المعروف بين القبائل التركية وبعض الشعوب الآسيوية إذ كان يحكمهم الخاقان أو الكاجان الأكبر الذى لم يكن يظهر إلا مرة واحدة كل أربعة أشهر ولا يتحدث إلا إلى نفر محدود من الناس. وكان الخاقان موضع تبجيل كبير، ويجرى تتويجه فى احتفال مهيب للغاية. وقد كان دائماً من سلالة ملكية، وكان المنصب يورث فى العائلة نفسها، حتى لو كان الوريث شخصاً عادياً فقيراً كما يلاحظ الرحالة العرب. وكانت سلطة الخاقان مطلقة حتى أنه لو طلب إلى أحد أن يقتل نفسه لفعل. ولكن الخاقان كان فى نهاية الأمر مبعداً معزولاً إذ كان نائبه، كاجان بك أو البك وحسب، هو الذى يصرف شئون الدولة شاملة إعداد الجيوش وقيادتها، وهو الذى يظهر للعامة ويقودهم فى الحروب، وهو الذى كان يمتلك كل القوى ذات التأثير. ورغم أن البك كان يدين بالطاعة لحضرة الخاقان الأكبر ويأتيه كل يوم فى إذعان وخضوع، فإنه هو الذى كان يعينه كما يذكر الأصطخري، أو ربما كان مؤثراً فى اختياره. وربما كان التقسيم للسلطة بين الخاقان والبك تقسيماً للسلطتين الدينية والدنيوية. فالخاقان الأكبر صاحب السلطة الروحية المطلقة، والبك صاحب السلطة الدنيوية الفعلية. وهذه العلاقة تشبه إلى حد كبير علاقة الإمبراطور (أو الميكادو) بالحاكم العسكرى (الشوجن) فى اليابان، فالأول هو صاحب السلطة المطلقة الذى يخضع له الشوجن، ولكن هذا الأخير هو الذى يقدر على الحل والربط. وقد عقدت مقارنة طريفة بين نظام الحكم لدى الخزر ولعبة الشطرنج، الملكية المزدوجة، تمثل على رقعة الشطرنج بالملك (الكاجان) والوزير (البك) حيث يظل الملك فى عزلة يحميه أتباعه ضعيف الحلول لا يجد حراكاً لأكثر من خطوة قصيرة واحدة فى كل مرة. أما الوزير فهو على النقيض من ذلك، له الوجود الأقوى على الرقعة التى يسيطر عليها. وبرغم ذلك، فإن من المحتمل أن "يموت" الوزير وتظل اللعبة قائمة فى حين يكون "موت" الملك الكارثة العظمى التى تنهى اللعبة. وإن أردنا استخدام المصطلح الذى نستخدمه فى هذه الموسوعة لقلنا إن الملك هو اللوجوس أو المطلق، وإنه ركيزة النسق النهاية أو المرجعية التى لا مرجعية بعدها. 


وكانت التجارة المصدر المالى الأساسى لمملكة الخزر حيث كانت متحكمة فى الطرق التجارية الموصلة بين الشرق الأقصى والإمبراطورية البيزنطية، وكذلك فى الطرق الموصلة بين العرب والبلاد السلافية. وقد كانت تفرض الضرائب على البضائع التى تمر فيها. كما كان الحرج من الدول الخاضعة لها مصدراً للريع. 


وكانت ديانة الخزر فى المراحل الأولى شامانية بدائية يهيمن عليها الشامان (الكاهن/الساحر/الطبيب) الذى يدعى المقدرة على شفاء المرضى والسيطرة على الأرواح الشريرة ويدعى معرفة الغيب. ويبدو أن الخزر أحرزوا قسطاً كبيراً من التحضر قبل تهودهم وبعده، فقد تركوا خيامهم وبنوا البيوت من الحجر المحروق. وكان للمسلمين مساجد متعددة فى مملكتهم، منها مسجد كانت مئذنته ترتفع إلى ما يفوق ارتفاع القلعة الملكية. كما أنهم مارسوا الزراعة، واتسع نطاق تجارتهم الدولية. وقد ازدهرت أيضاً الفنون والحرف، ومنها صناعة الأزياء النسائية وصناعة الفضة. أما نمط الفن الخزرى، فقد كان متأثراً بالفن الفارسى. وقد تطور نظامهم القضائى أيضاً بحيث كان فى عاصمة الخزر سبعة قضاة، اثنان منهم للمسلمين واثنان لليهود واثنان للمسيحيين وواحد للوثنيين. 


وكما أسلفنا الذكر، بلغت مملكة الخزر أوج عظمتها وقوتها بين القرنين الثامن والعاشر. وأثناء هذه الفترة، اعتنق ملكها بولان (786 - 809)، ومعه أربعة آلاف من النبلاء، الديانة اليهودية وجعلها الديانة الرسمية، وهو ما يؤكده المسعودى حين يشير إلى أنهم تهودوا فى عهد هارون الرشيد. ويبدو أنهم عرفوا اليهودية من خلال عشرات من المهاجرين اليهود الذين فروا من اضطهاد الإمبراطورية البيزنطية بخاصة فى عهد هرقل (فى القرن السابع الميلادى). وقد كتب أحد يهود الأندلس (حسداى ابن شبروط)، حين عرف بقيام هذه المملكة، إلى يوسف ملك الخزر، فيما يعرف باسم "المراسلات الخزرية"، يسأله عن القبيلة العبرية التى ينتمى إليها وعن أمور أخرى. وقد أكد له الملك أن أصل الخزر تركى وليس سامياً، ولا علاقة له بأسباط إسرائيل العشرة المفقودة ولا بفلسطين. وفى رده على ابن شبروط، يذكر الملك يوسف كيف اعتنق بولان اليهودية، فيقول إنه بعث فى طلب زعماء الديانات السماوية وأقام بينهم حواراً ليشرح كل منهم دينه ويناقش الأديان الأخرى، وقد اقتنع الملك بعد هذه المناقشة بالدين اليهودى. وقد تخيل الشاعر الأندلسى اليهودى يهودا اللاوى هذا الحوار الفلسفى ورواه فى كتاب له عن هذا الموضوع. وقام أحد أحفاد بولان بإصلاح دينى، فترجم العهد القديم والتلمود (ربما بضعة أجزاء منه نظراً لضخامته). ويقول كوستلر إن يهودية بولان كانت قرائية تؤمن بالعهد القديم دون التلمود، ثم تطورت إلى يهودية حاخامية. وقد ظهر مذهب القرائين فى القرن الثامن فى العراق، وكان للقرائين حركة تبشيرية قوية. ومن المعروف أن القرائية ظلت فى بلاد الخزر قائمة بشكل واضح حتى النهاية، ولا تزال قرى اليهود القرائين الناطقين بالتركية قائمة حتى الآن فى روسيا. ولم تكن يهودية الخزر كاملة، بل احتفظوا بكثير من العادات الشامانية من تراثهم التركى البدائى. فكانوا، على سبيل المثال، يقتلون الملك عادة بعد أن يحكم أربعين عاماً، وهذا دليل على استمرار عبادات الخصب حتى بعد اعتناقهم اليهودية، كما أنهم كانوا يقتلون من يتولون حفر قبر الخاقان الأكبر (ولعل هذا يفسر عدم اكتراث يهود العراق بهم، فلم يكونوا من وجهة نظر المؤسسة الدينية يهوداً خلصاً). وقد رد يوسف ملك الخزر على سؤال ابن شبروط عن آخر الأيام رداً ميهماً للغاية. وليس من المعروف إن كان أعضاء قبائل الخزر كلهم قد تهودوا، أم أن الأمر ظل مقصوراً على الملك والنبلاء وأقلية من الشعب.


وقد حاول المؤرخون تفسير ظاهرة تهود الخزر، فيقال إنهم تهودوا لأسباب سياسية حيث كانوا واقعين بين الإمبراطوريتين البيزنطية والإسلامية، وكانت الإمبراطورية الروسية حينذاك فراغاً. ولكى يحتفظوا باستقلالهم، تبنوا عقيدة دينية مختلفة عن عقيدة القوتين العظميين. ويقال أيضاً إن التهود كان لأسباب اقتصادية إذ أن الخزر كانوا قد بدأوا فى احتراف التجارة وكان على من يوّد ممارسة هذه المهنة فى هذه المناطق وغيرها أن يتهود حتى يستفيد من شبكة الاتصالات اليهودية فى العصور الوسطى، والتى كانت تعتبر نظام ائتمان دولي. وقد أصبح بوسع الخزر، بتهودهم، أن يلعبوا دور الوسيط أو الدولة الوظيفية الوسيطة بين القوتين العظميين، إذ كان لكل منهما قوانينها وشرائعها، ولم تكن توجد بينهما قنوات اتصال ولا يمكن لتجار كل طرف أن يعبروا إلى أرض الطرف الآخر إلا بصعوبة. ولذا، كان من الضرورى ظهور طرف ثالث هامشى محايد، مثل الجماعة الوظيفية الوسيطة، ليقوم بالنشاط التجارى بينهما. ويقال إن النخبة الحاكمة الخزرية قد تبنت ديانة سماوية توحيدية مثل اليهودية، وذلك حتى تضفى على نفسها هيبة ووقاراً، وتوجد مسافة بينها وبين العبادات الشامانية البدائية السائدة، وتربط بينها وبين النخب الحاكمة فى العالمين الإسلامى والمسيحى. 


ويرى بعض المؤرخين، ومن بينهم العالم الإسرائيلى إ. ن. بولياك أستاذ التاريخ اليهودى الوسيط فى جامعة تل أبيب، وكذلك علماء الأجناس، أن يهود شرق أوروبا الإشكناز ليسوا من نسل يهود فلسطين وإنما من نسل الخزر الذين استوطنوا هناك بعد تشرذمهم. وقد وصفهم الجغرافيون العرب بأنهم ذوو بشرة بيضاء وعيون زرقاء وشعر غزير ضارب للحمرة. ومن هنا، فإن مقولة أن يهود أوروبا الإشكناز من أصل خزرى تركي ليست مقولة فكرية محضة ذات مقدرة تفسيرية عالية تستند إلى العقل والمنطق وحسب، وإنما هى مقولة تستند أيضاً إلى المعطيات التاريخية المحسوسة. ومن أهم ما كتب فى هذا الموضوع كتاب المؤلف الإنجليزى المجرى الأصل، اليهودى العقيدة، آرثر كوستلر، والذى أسلفنا الإشارة إليه، حيث يبرهن فيه على المقولة الخاصة بهجرة يهود الخزر إلى شرق أوروبا،بالإشارة إلى العلاقة الوثيقة بين الخزر والمجر وكيف أسهم خاقان الخزر فى تأسيس دولة المجر بأن عين لقبائل المجر ملكاً يخضع لسلطانه. وقد ظلت العلاقات قوية بين الشعبين إلى أن طرد المجريون من بلادهم عام 896 وعبروا سلسلة جبال الكربات وانتزعوا المنطقة التى أصبحت موطنهم الحالى. ويبين كوستلر كيف انضمت إلى المجريين فى هجرتهم إلى هنغاريا قبائل خزرية معروفة باسم "الكابار"، وقادتهم إلى موطنهم الجديد. وقد استمرت العلاقة الوثيقة بين المجر والخزر حتى استقرار المجموعات الخزرية المجرية فى الوطن الجديد. وقد دعا دوق تاكسونى المجرى عدداً غير معلوم من الخزر ليستوطنوا بلاده، ولاشك فى أن نسبة كبيرة منهم كانت من اليهود. بل ويرى كوستلر أن تدفق اليهود لم يكن على المجر وحسب بسبب العلاقات المجرية الخزرية كما أنه لا يمثل حالة خاصة، فهذه الهجرة كانت جزءاً من هجرة أكبر وهى الهجرة الجماعية الشمالية من الإستبس الأوراسية تجاه الغرب، أى تجاه أوروبا الوسطى والشرقية. ولذلك، فهو يتحدث عن "الشتات الخزرى" أى انتشار اليهود من بلاد الخزر إلى أرجاء أوروبا، مقابل "الشتات" وحسب، أى انتشار اليهود من فلسطين. 


ويلاحظ كوستلر أن اختفاء الشعب الخزرى من موطنه التاريخى قد صاحبه الظهور المعاصر لأكبر تجمع يهودى فى الشمال الغربى من أوروبا. ولهذا، اتفق المؤرخون على أن الهجرة من خزاريا قد أسهمت بالتأكيد فى نمو الجماعات اليهودية البولندية. ولكن يظل هناك سؤال يتصل بحجم هذا الإسهام؟ وما إذا كان اليهود الخزر قد كونوا مجرد نواة للجماعة اليهودية وحسب، أم أنهم لم يكونوا مجرد نواة؟ 


وهنا يستعرض كوستلر تاريخ يهود أوروبا فيبين ضآلة عددهم، ثم يستعرض تاريخ طرد اليهود من بلد أوروبى إلى آخر، ويشير إلى أن يهود حوض الراين (حتى القرن الحادى عشر) كانوا ضئيلى الأهمية قليلى العدد، وقد تعرضت هذه الجماعات للإبادة وتناقصت أعدادها أثنا
حتقر ثقافته الوطنية بالضرورة ويجيد التعامل مع المؤسسات الحديثة، وهذه العناصر بدأت تتولى القيادة بين المهاجرين والدفاع عن حقوقهم. 


وأكبر دليل على فشل عملية الاستيعاب تلك الأخبار التى نشرتها الصحافة الإسرائيلية عن حوادث الانتحار الفعلية وعن محاولات الانتحار العديدة التى قام بها يهود الفلاشاه، وعن تهديدهم بالانتحار الجماعى. وقد أنشأ بعض اليهود منظمة "مهاجرى إثيوبيا"، لا لتسهيل استيعابهم وتوطينهم بل للعمل على تهجير جزء منهم إلى كندا. 


ويمكن طرح السؤال التالى: ما الذى يمكن إن تربحه الدولة الصهيونية من تهجير ما بين 25-35 ألف يهودى من إثيوبيا (العدد الكلى للفلاشاه فى إسرائيل)، خصوصاً أنها كانت تدرك بعض المشاكل التى ستنجم عن هذه الهجرة؟ يمكننا ابتداء استبعاد العنصر الإنسانى، فلو كان الدافع إنسانياً لا نصب اهتمام الكيان الصهيونى على تحسين أحوالهم فى بلادهم، وعلى الدفاع عن حقوقهم هناك، ولشمل كل ضحايا المجاعة فى إثيوبيا. ولعل أول الدوافع الحقيقية هو الدافع المالى، فالقصص المثيرة عن تدهور حال يهود إثيوبيا تؤدى إلى تدفق التبرعات. كما أن هناك مردوداً إعلامياً، فإسرائيل دولة معروفة للعالم الغربى بعنصريتها. ولذا فإن إنقاذ يهود الفلاشاه (السود الأفارقة) قد يحسن صورتها بعض الشىء. 


وهذه الدوافع المادية، المالية والإعلامية، دوافع حقيقية ولكنها سطحية. أما الدافع الحقيقى الكامن وراء تهجير الفلاشاه فهو أزمة النظام الصهيونية العقائدية والسكانية العميقة. فالكيان الصهيونى يعانى من نضوب مصادر الهجرة اليهودية، إذ أن يهود الغرب المتحمسين يكتفون بإرسال الشيكات وبرقيات التأييد الحارة ولا يهاجر منهم إلا القليل النادر. أما يهود الاتحاد السوفيتى فهم بالمثل يؤثرون الهجرة، إن هاجروا، إلى الولايات المتحدة. لكن العنصر البشرى أساسى بالنسبة للاستعمار الاستيطانى الإحلالى، والفلاشاه سيساهمون بلا شك فى سد هذا العجز، وسيساعدون آلة الاستيطان والحرب على الاستمرار. كما أن الفلاشاه زراع مهرة، وقد يمكنهم زراعة الأرض الفلسطينية التى استولت عليها الدولة الصهيونية، خصوصاً بعد انصراف المستوطنين الصهاينة عن فلاحتها. وتعانى المؤسسات الزراعية الصهيونية من ندرة الأيدى العاملة اليهودية وتضطر إلى استئجار عمالة عربية، وقد يبطئ وجود الفلاشاه هذه العملية قليلاً. 
ومن الواضح إن الفلاشاه هو تعبير عن مقدرة الصهاينة على الحركة والإنجاز ولكنه أيضاً تعبير عن أزمة صهيونية. وهى عملية تحل بعض المشاكل مؤقتاً، ولكنها ستفجر بعض المشاكل الأخرى، وبكل حدة، داخل الكيان الصهيونى. وقد تفجرت مرة أخرى مع وصول الفلاشاه مسألة من هو اليهودى.كما أنها قد تساعد على التشكيك فى المقولة الصهيونية الخاصة بوحدة الشعب اليهودى، إذ يأتى الفلاشى بملامح وقيم وعادات مختلفة. ولنتخيل يهودياً أمريكياً أشقر من أصحاب المذهب الإصلاحى أو يهودياً علمانياً أو يهودياً ملحداً يقف بجوار يهودى من الفلاشاه أسود البشرة يرقص فى "مسجده" اليهودى فى الأعياد، فهل سيقتنع الاثنان بأنهما ينتميان إلى شعب واحد؟ 


وينتشر الفلاشاه فى إسرائيل داخل أراضى فلسطين المحتلة منذ عام 1948، كما ينتشرون فى الأراضى العربية المحتلة بعد عام 1967. وأكبر تركيز لهم (فى الضفة الغربية المحتلة) فى مستوطنة كريات أربع الخليل، وفى مناطق الجليل الأعلى (مدينة صفد). ويتركز عدد لا بأس به منهم فى مدينة عسقلان، أما الباقون فهم موزعون على الضواحى الاستيطانية حول مدينة القدس مثل راموت وبيت مئير وتلة زئيف. 


وقد نشبت أزمة مؤخراً حين كشف النقاب عن إن بنك الدم الإسرائيلى قد أخذ يتخلص بالتدريج من مخزون الدم الذى يتبرع به يهود الفلاشاه خوفاً من أن تكون هذه الكميات ملوثة بفيروس مرض الإيدز، وأيد وزير الصحة الإجراءات التى يقوم بها البنك. 


الفلاشاه مورا 
Falasha Mura 
«فلاشاه موراً » جماعة قبلية فى إثيوبيا يقال لها أيضاً «فلاس مواراً». وكلمة «فلاشاه» كلمة أمهرية تطلق على يهود إثيوبيا، وتعنى «الغرباء». أما «موا»، فيبدو أنها تعنى «الأغيار»، أى غير اليهود. ويطلق الاصطلاح على يهود الفلاشاه الذين تنصروا على يد المبشرين المسيحيين. وهم ينقسمون إلى قسمين: 


 - فلاشاه تنصروا منذ حوالى قرنين من الزمان. 
 - فلاشاه تنصروا منذ ثلاثين عاماً. 


ويمكن تقسيمهم أيضاً، على أساس معدلات الاندماج إلى قسمين: 


 - فلاشاه تنصروا واحتفظوا باستقلالهم كجماعة يهودية متنصرة. 
 - فلاشاه تنصروا واندمجوا فى مجتمع الأغلبية. 


وتميل الصحافة الإسرائيلية الآن إلى الإشارة إلى الفلاشاه موراً باعتبارهم "يهود مارانو»، أى اليهود المتخفين، وهو اصطلاح يطلق فى الأدبيات اليهودية على يهود إسبانيا الذين يقال إنهم أجبروا على ترك عقيدتهم وتبنى العقيدة الكاثوليكية، فتظاهروا بأنهم كاثوليك واستمروا فى ممارسة شعائر دينهم فى الخفاء، وقد استمر بعضهم فى ممارسة هذه الشعائر حتى الوقت الحاضر. ويبلغ عدد الفلاشاه موراً 175 ألفاً، منهم 15 ألفاً ممن تنصروا واحتفظوا باستقلالهم كجماعة فلاشيه متنصرة. وهناك 60 ألفاً تنصروا واندمجوا فى المجتمع المسيحى، وكل ما يربطهم باليهودية جذورهم الفلاشيه (الإثنية(. 


ويبدو إن الفلاشاه أنفسهم يعتبرون الفلاشاه موراً (أياً كان نوعهم)غير يهود. ولذا، فإن أحدهم إذا أراد العودة إلى حظيرة الدين اليهودى، تطبق عليه الشعائر الخاصة بمن يريد التهود، فيحلق شعر رأسه وجسمه، وهى شعائر لا تطبق إلا على غير اليهود (ومهما يكن من أمر سخرية الصحافة الإسرائيلية من هذه الشعائر، فإنها على أية حال الشعائر نفسها التى كانت تطبق فى الماضى قبل ظهور اليهودية الحاخامية(. 


وقد بدأ الحديث عن تهجير الفلاشاه موراً إلى إسرائيل (مع حوالى ثلاثة آلاف يهودى من يهود الفلاشاه الذين لا يزالون موجودين فى إثيوبيا). لكن المؤسسة الحاخامية اعترضت، بطبيعة الحال، على تهجير هؤلاء لأنهم ليسوا يهوداً، وذلك بعد أن كانت قد اعترضت فى بداية الأمر على تهجير الفلاشاه ذاتهم، بدعوى أن اليهودية التى يؤمنون بها غير تلمودية وغير حاخامية وتضم شعائر لا مثيل لها بين يهود العالم، بل وتنطوى على عناصر مسيحية ووثنية. ومن المعروف إن قانون العودة فى إسرائيل لا يسمح بهجرة من يعتنق ديناً آخر حتى ولو ولد يهودياً. ولذا، فحينما تجمع ثلاثة آلاف من الفلاشاه موراً ليهاجروا مع الفلاشاه، لم يسمح لهم بالهجرة ونصحوا بالعودة إلى ديارهم. 
وتشير المؤسسة الحاخامية (وكل من يعارض هجرة الفلاشاه موراً) إلى إن هؤلاء لم يتنصروا قسراً، وأنهم تحولوا عن يهوديتهم لتحقيق المغانم الاقتصادية والحراك الاجتماعى وللاستفادة من المعونات المالية التى يقدمها المبشرون. كما يؤكد أصحاب هذا الرأى أن الفلاشاه موراً يودون الهجرة إلى إسرائيل للأسباب نفسها. ومن ثم، فإن دوافعهم ليست دينية ولا أيديولوجية، فهم إذن مرتزقة. ويحذر هؤلاء من إن عشرات الآلاف من الإثيوبيين، خصوصاً من الأمهريين الذين فقدوا نفوذهم بعد سقوط منجستو، قد ينتهزون الفرصة ويدعون أنهم فلاشاه موراً حتى يهاجروا إلى إسرائيل. 


ولكن يبدو إن المؤسسة الحاكمة فى إسرائيل لا تمانع فى هجرتهم، كما إن الولايات المتحدة بدأت تدعو إلى تهجيرهم. والدافع وراء هذا، على ما يبدو، هو تعطش المستوطن الصهيونى للمادة البشرية. كما يلاحظ إن الوظائف الدنيا فى الهرم الإنتاجى أصبحت شاغرة بعد أن حقق اليهود الشرقيون شيئاً من الحراك الاجتماعى. وبدأ العرب فى ملئها، الأمر الذى أدى تزايد اعتماد المستوطن الصهيونى على العمالة العربية، وهو أمر يهدد أمنه. ولعل المادة البشرية الوافدة، يهودية كانت أم غير يهودية، تسد هذه الثغرة. فالدولة الصهيونية بدأت عام 1948 دولة يهودية استيطانية إحلالية مبنية على طرد العرب أو إبادتهم لتحل يهوداً محلهم، ثم تحولت بعد عام 1967 إلى دولة يهودية استيطانية مبنية على التفرقة اللونية التى تمكن العنصر اليهودى من استغلال العنصر العرب. ويبدو إن الدولة الصهيونية بدأت تدخل مرحلة جديدة تبهت فيها يهوديتها لتصبح دولة استيطانية مبنية على التفرقة اللونية وتصر على استجلاب مادة بشرية غير عربية وليست بالضرورة يهودية (ويهوديتها هى إما مجرد ديباجات لفظية أو محض علاقة واهية اسمية). وهى فى هذا لا تختلف كثيراً عن جنوب أفريقيا التى بدأت دولة استيطانية إحلالية بيضاء مسيحية، ثم أصبحت دولة استيطانية تمارس التفرقة اللونية لصالح البيض المسيحيين، وتحولت المسيحية إلى مجرد ديباجة دون إصرار على المادة البشرية المسيحية وقد تبدى هذا أيضاً فى هجرة اليهود السوفييت حيث وصل مئات الألوف من أشياء اليهود ممن تآكلت علاقتهم العقائدية والإثنية باليهودية، وبالتالى فهم ليسوا يهوداً بالعقيدة ولا بالإثنية وإنما بجذورهم البعيدة وحسب. وكما قال أحد الحاخامات، فإن كل ما يربط هؤلاء اليهود باليهودية هو جد يهودى مدفون فى موسكو. وقد وصل مع المهاجرين السوفييت أيضاً مئات الألوف من مدعى اليهودية، إلا إن المؤسسة الأشكنازية الحاكمة غضت نظرها عن ذلك رغم احتجاج المؤسسة الدينية. وكما قلنا، فقد غلبت المؤسسة الأشكنازية الاعتبارات العملية على الاعتبارات الأيديولوجية أو العقائدية الضيقة. ولعلها تفعل الشىء نفسه مع الفلاشاه موراً.






الباب الثالث: إشـكالية الهوية اليهودية




من هو اليهودي؟ 
Who is a Jew? 
«من هو اليهودي؟» سؤال يُثار من آونة إلى أخرى داخل الكيان الصهيوني. ويُعبِّر هذا السؤال عن فشل الإسرائيليين في تعريف «الشخصية اليهودية » أو «الهوية اليهودية». 


الشخصيـة أو الهوية اليهوديـة 
Jewish Character or Identity 
مصطلح «الشخصية اليهودية» في اللغة العربية مأخوذ من لفظ «شخص» ويعني مجموعة الصفات التي تميِّز هذا الشخص. أما في الأصل الأوربي، فإن المصطلح مأخوذ من اللفظ اللاتيني «بيرسونا Persona»، وهو القناع الذي يرتديه الممثل ليُعبِّر عن السمة الأساسية للشخصية التي يؤديها. و«الشخصية» هي صيغة منظمة نسبياً لمجموعة من الخصائص الجسمية والوجدانية والنزوعية والإدراكية التي تميِّز الفرد عن غيره من الأعضاء. ويُفترَض أن الشخصية الفردية، في جوانب عديدة منها، هي نتيجة عملية تَفاعُل مركبة بين الإنسان الفرد من جهة، وبنيان مجتمعه وثقافته وتاريخه وبيئته الطبيعية والاجتماعية من جهة أخرى. ومن هنا، يتحدث بعض العلماء عن الشخصية القومية، وهي شخصية تَنتُج من عملية تَفاعُل تمتد ردحاً من الزمن بين جماعة من الجماعات البشرية من جهة وتشكيل اجتماعي وتاريخي وبيئة طبيعية من جهة أخرى. ومن خلال الامتداد الزمني تكتسب هذه الجماعة سمات معيَّنة وهوية محددة تصبح ثابتة أو شبه ثابتة يُفترَض أنها تُميِّزها عن غيرها من الجماعات البشرية الأخرى. ومصطلح «الشخصية اليهودية» مصطلح يفترض أن ثمة شخصية قومية يهودية ذات سمات مميَّزة وثابتة. 


أما كلمة «هوية» فهي اسم منقول من المصدر الصناعي «هوية» المأخوذ من كلمة «هو»، وتعني: مجموعة الصفات الجوهرية والثابتة في الأشياء والأحياء. فكأن مصطلح «هوية يهودية» يعني أن ثمة جوهراً يهودياً ثابتاً يسم أعضاء الجماعات اليهودية أينما كانوا ويمنحهم شخصيتهم اليهودية المحددة، ويفرقهم عمن سواهم من البشر. وغني عن القول إن هذا المصطلح، مثل مصطلح «الشخصية اليهودية»، يُعبِّر عن نموذج اختزالي لا يتفق كثيراً مع الحقيقة التاريخية المتعيِّنة ولذلك فمقدرته التفسيرية ضعيفة للغاية. ويشكل استخدام مصطلحات مثل «شخصية يهودية» و«هوية يهودية» تبنيٍّا غير واع للنماذج التفسيرية الاختزالية، الصهيونية والمعادية لليهود، التي تفترض وجود طبيعة يهودية ثابتة وعبقرية يهودية وجريمة يهودية ووجود سمات أساسية للشخصية اليهودية. فهي من منظور المعادين لليهود شخصية متآمرة عدوانية استغلالية ومنحلة، وهي كذلك شخصية تجارية بطبعها، أما الصهاينة، فينسبون إلى هذه الشخصية اليهودية المستقلة سمات إيجابية، فاليهودي يتسم بالإبداع والمقدرة على الانسلاخ من مجتمع الأغيار، وهو يدافع عن نفسه ضد العنف لكنه لا يرتكب العنف أبداً ضد الآخرين، وهكذا. ومن السمات الأخرى التي تُنسَب إلى الشخصية اليهودية حبها للنكتة، ومقدرتها النقدية أو حسها النقدي. ويؤسس الصهاينة نظريتهم في القومية اليهودية والشعب اليهودي انطلاقاً من تأكيد وجود هذه الشخصية اليهودية. كما أن الصهيونية العمالية تصف الشعب اليهودى بأنه شعب طفيلى من السماسرة. 


وإذا اختبرنا النموذج الكامن وراء مقولات مثل «الشخصية أو الهوية اليهودية الثابتة الواحدة» فإننا سنكتشف مدى قصوره، فأعضاء الجماعات اليهودية ليسوا تجاراً بطبعهم، إذ عمل العبرانيون بالزراعة في فلسطين، كما كان منهم الجنود المرتزقة في الإمبراطوريتين اليونانية والرومانية، ومعظمهم الآن من المهنيين في الغرب. وهم ليسوا متآمرين بطبعهم، بل وسقط منهم ضحايا للتآمر، لكن هذا لا يمنع وجود متآمرين وتجار بينهم. وهم ليسوا منحلّين في كل زمان ومكان، إذ كانت هناك أزمنة وأمكنة استمسك فيها أعضاء الجماعات اليهودية بأهداب الفضيلة ولم تُعرَف بينهم ظواهر مثل ظاهرة الأطفال غير الشرعيين. 


وهناك خلل يتمثل في الحديث عن اليهود بشكل مجرد،فمن يود أن ينسب العبقرية إلى الهوية أو الشخصية اليهودية سيجد قرائن على ذلك في مكان وزمان معيَّنين،ومن يود أن ينسب إليهم التآمرية سيجد أيضاً قرائن على ذلك في مكان وزمان آخرين،ثم يتم تعميم الجزء على الكل.وهذا ما يقوم به الصهاينة،عن وعي أو عن غير وعي،حينما يتحدثون عن الشخصية اليهودية أو عن الهوية اليهودية. 


ولكن الشخصية (أو الهوية)، كما أسلفنا، هي بنية مركبة، نتاج تَفاعُل بين مجموعة من البشر ومُركَّب من الظروف التاريخية والبيئية الثابتة على مدى زمني معقول، وهو الأمر الذي لم يتوفر إلا للعبرانيين، ولم يتوفر للجماعات اليهودية التي انتشرت في بقاع الأرض المختلفة وعاشت تحت ظروف اجتماعية مختلفة. ولذا، نرى أنه يجب الابتعاد عن التعميم المتعسف والكف عن استخدام صيغة «الشخصية اليهودية» لنتحدث بدلاً من ذلك عن «الشخصيات اليهودية» و«الهويات اليهودية». وصيغة الجمع لا تنكر الخصوصيات اليهودية، ولكنها لا تجمع بينها وكأن هناك صفة جوهرية أو عالمية كامنة في كل اليهود. ومن هنا، يمكننا أن نتحدث عن الشخصية (أو الهوية) اليمنية اليهودية في أواخر القرن التاسع عشر، أو الشخصية الخَزَرية اليهودية في القرن التاسع، أو الشخصية الإشكنازية في إسرائيل، أو الشخصية السفاردية من أصل سوري في أمريكا اللاتينية. ويمكن دراسة تَطوُّر هذه الشخصيات اليهودية المتنوعة والمختلفة بدراسة سماتها المُستمَدة من أزمنة وأمكنة مختلفة. وفي هذه الحالة، سنكتشف أن حب النكتة ليس خاصية لصيقة بالشخصية اليهودية. فالفقه اليهودي (حتى القرن التاسع عشر) يُحرِّم النكات، كما أن هجاء الحاخامات أمر لم يكن مسموحاً به. ونجد أن حب النكتة هذا ظاهرة مقصورة على يهود أوربا في القرن التاسع عشر ومرتبط بضعف مؤسساتهم الدينية والاجتماعية. ولم يكن الحس النقدي ولا المستوى العلمي الرفيع معروفاً بين أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا حتى القرن الثامن عشر، إذ حرَّمت قيادتها الدينية قراءة كتب الفلاسفة اليهود ودواوين الشعر العبري الدنيوي، كما حرَّمت دراسة اللغات الأجنبية ودراسة الرياضيات والجغرافيا والتاريخ ولم تستثن من ذلك تواريخ الجماعات اليهودية. وكان الجهل بالجغرافيا عميقاً إلى درجة أن الحاخامات كانوا عاجزين عن تحديد اتجاه القدس. ولكن، مع دَمْج اليهود في الحضارة الغربية وتَزايُد معدلات العلمنة بينهم، وانفكاك قبضة المؤسسة الحاخامية التقليدية، تَملَّك أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب في العصر الحديث ناصية العلوم الحديثة، فظهر العلماء وظهر الحس النقدي، وظهر الإحساس بالنكتة. 


ومما تَجدُر ملاحظته أن كثيراً من الأدبيات الصهيونية والغربية، حينما تتحدث عن الشخصية اليهودية أو الهوية اليهودية، تشير عادةً إلى تجربة تاريخية محددة هي تجربة يهود اليديشية، أي الجماعة اليهودية في شرق أوربا والتي كانت تشكل جماعات وظيفية يتحدث أعضاؤها اليديشية، ويعيشون في الظروف الاقتصادية والاجتماعية نفسها، وفي المحيط الحضاري السلافي (المسيحي) نفسه، وهو ما أفرز شخصية يهودية شرق أوربية يمكن أن تُسمَّى «الشخصية اليديشية» تتحدد ملامحها لا من خلال تشكيل تاريخي يهودي عالمي وإنما من خلال التشكيل الحضاري الشرق أوربي. وقد أكد آرثر روبين في كتابه اليهود في الوقت الحاضر أن كلمة «يهودي» تعني بالنسبة إليه «إشكنازي» ولا تضم اليهود السفارد أو الشرقيين. ورغم أن يهود اليديشية كانوا يشكلون الغالبية الساحقة من الجماعات اليهودية في العالم في نهاية القرن التاسع عشر (حوالي 80%)، إلا أن هذا لا يجعل منهم شخصية يهودية عالمية، إذ أن هذه الشخصية اليديشية (القومية) هي ثمرة تَفاعُل الجماعة اليهودية مع المجتمع الشرق أوربي في بولندا وروسيا داخل تركيبة اجتماعية وثقافية مُحدَّدة. وينبع مشروع حزب البوند السياسي من الإيمان بوجود شخصية يهودية قومية شرق أوربية، لا شخصية يهودية عالمية، ولذا كان الحل المطروح هو تطوير هذه الشخصية اليديشية دون الانزلاق إلى أبعاد تعميمية تجريدية. وقد تبنت روسيا السوفيتية هذا الحل في نهاية الأمر بعـد أن رفضـه لينين في بدايتـه، كما تتجلى ملامحـه في تجربة ببروبيجـان.
وقد اختفت الشخصية اليديشية مع التحولات الاجتماعية الضخمة التي حدثت في مجتمعات شرق أوربا، ولم يُكتَب لها الاستمرار. ويبدو أن المكوِّن الأساسي لهذه الشخصية مرتبط تمام الارتباط بالوظيفة الاجتماعية للجماعات اليهودية كجماعات وظيفية تنمي شخصيتها المستقلة ليضمن المجتمع عزلتها ومن ثم مقدرتها على أداء وظيفتها. وقد تحوَّل يهود اليديشية من جماعات شبه قومية متماسكة إلى جماعات مختلفة: يهود روسيا ويتحدثون الروسية، ويهود بولندا ويتحدثون البولندية،ويهود أوكرانيا ويتحدثون الأوكرانية،أما يهود اليديشية الذين استقروا في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة فقد اندمجوا في مجتمعاتهم وتحدثوا لغاتها. 


ومن المفارقات المهمة أن الصهاينة الذين يمجدون الشخصية اليهودية يقومون في الوقت نفسه بالهجوم عليها ورفضها، فهم يرون أن هذه الشخصية مريضة وهامشية. وعند هذه النقطة أيضاً، يلتقي الصهاينة مع المعادين لليهود، بل إن الصهاينة استمدوا نقدهم للشخصية اليهودية من أدبيات معاداة اليهود. ويطرح الصهاينة فكرة الشخصية اليهودية الحقيقية بوصفها شخصية يهودية خالصة عبَّرت عن نفسها من خلال الكيان اليهودي القومي سواء في الكومنولث الأول أو الثاني، وهي تُعبِّر عن نفسها من خلال الكومنولث الثالث، أي الدولة الصهيونية. لكن دارس هذه الدولة يعرف أن علم الاجتماع الإسرائيلي قد تَقبَّل، كحقيقة شبه نهائية، انقسام أعضاء التَجمُّع الصهيوني إلى جماعات يهودية لكلٍّ شخصيتها المستقلة التي تكونت عبر مئات السنين في المنفى، أي في أنحاء العالم. 


ورغم استخدامنا مصطلح «شخصية» في هذا المدخل، إلا أننا سنناقش الإشكالية مستخدمين كلمة «هوية» بسب شيوعها في الأدبيات التي تناقش الموضوع، إذ أن كلمة «شخصية» عادةً ما تعني «شخصية قومية»، بينما تُستخدَم كلمة «هوية» دائماً في عبارات مثل «هوية إثنية». ولا شك في أن الصهاينة يفضلون كلمة «هوية» لإمكان استخدامها في الإشارة إلى يهود إسرائيل وإلى أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، فهي كلمة لن تسبب حرجاً ليهود الولايات المتحدة التي تقبل الهويات الإثنية طالما أنها لا تتعارض مع الانتماء القومي. أما كلمة «شخصية»، فهي باستدعائها فكرة الشخصية القومية، ستسبب الكثير من الحرج والفرقة.


الهويــات اليهوديــة بوصفهــا تركيـباً جيولوجـياً تراكمـياً 
Jewish Identities as a Cumulative Geological Construct 
موضوع الهوية/الهويات اليهودية في غاية التركيب لأسباب عديدة يمكن أن نورد بعضها فيما يلي: 


1 ـ تم تعريف الهويات اليهودية على أساس ديني، وعلى أساس قومي ديني، وعلى أساس قومي وحسب. وقد دارت معارك بين أعضاء الجماعات اليهودية (خصوصاً منذ نهاية القرن التاسع عشر) حول رؤيتهم لهويتهم وتعريفهم لهذه الهوية. 


2 ـ لا تتفق رؤية الإنسان لهويته، بصورة حتمية ومباشرة، مع ممارساته العملية وبنية واقعه وأفعاله. فالرؤية قد تكون تعبيراً عن مثل أعلى أو عن مجموعة من الرغبات، أما الواقع فإنه يتطور بطريقة لا تتفق بالضرورة مع رغبات الإنسان. ومن ناحية أخرى، فإن رؤى أعضاء الجماعات اليهودية للهوية اليهودية لم تكن تتفق بالضرورة مع تطوُّر واقعهم التاريخي، بل وكانت تتناقض أحياناً الواحدة مع الأخرى. 


3 ـ ولكن هذا لا يعني أن رؤية الإنسان لهويته لا تتدخل البتة في تحديد سلوكه، إذ تظل الرؤية، برغم عدم اتفاقها مع الواقع، عنصراً مهماً ومؤثراً في هذا السلوك، دون أن تكون بالضرورة العنصر المحدد الوحيد له. 




4 ـ تحددت الهويات اليهودية المختلفة في غياب سلطة يهودية مركزية، دينية أو دنيوية، عبر الاحتكاك مع عشرات التشكيلات الحضارية ومن خلالها، الأمر الذي نجم عنه تنوُّع هائل في الهويات اليهودية. وتتسم هذه الهويات باستقلال نسبيّ عن سياقها الحضاري، شأنها شأن هويات الجماعات الإثنية والدينية، ولكنها في الوقت نفسه لا تنتمي إلى هوية يهودية واحدة عالمية. ومع هذا، فقد استمر الجميع (اليهود وغير اليهود) في الحديث عن اليهود كما لو كانوا كلاًّ واحداً. 


لكل هذا، ظهر ما نسميه «التركيب الجيولوجي التراكمي» للهويات اليهودية. وفي حديثنا عن النسق الديني اليهودي، نشير إلى أنه ليس كلاًّ واحداً يتسم بقدر من الاتساق، وإنما هو عبارة عن تركيب جيولوجي تراكمي مُكوَّن من طبقات تراكمت الواحدة فوق الأخرى، ولم تُلغ كل طبقة جديدة ما قبلها. وقد تكون هذه الطبقات متشابهة أو متناقضة، ولكنها مع هذا تعيش متجاورةً ومتزامنة وغير متفاعلة، وسُمِّيت كل هذه الطبقات «النسق الديني اليهودي». 


ويمكننا أن نقول إن الهويات اليهودية أيضاً تركيب جيولوجي تراكمي ولكنه لم يكن ملحوظاً بسبب انفصال أعضاء الجماعات اليهودية ووجـودهم في أماكن متفرقة من العالم. فيهود اليديشية نتاج مجتمعاتهم، وكذا يهود اليمن ويهود فرنسا، وهكذا. ومع ذلك، كان يُشار إليهم جميعاً باسم «الشعب اليهودي»، مع افتراض وجود وحدة ما دون أن يختبر أحد مدى صدق هذه المقولة. ولكنها حين وُضعت موضع الاختبار، بعد تأسيس الدولة الصهيونية، ظهرت الخاصية الجيولوجية التراكمية، وتفجرت قضية من هو اليهودي تعبيراً عن اكتشاف أن ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» ليست كلاًّ يتسم بقدر من التجانس وإنما هي في واقع الأمر تركيب جيولوجي تراكمي. وقد أظهرت مجتمعات كلٍّ من أمريكا اللاتينية وجبال القوقاز هذه الخاصية الجيولوجية التراكمية في الهويات اليهودية بشكل واضح. 


ومن ثم، فلابد من نموذج تفسيري أقل عمومية، يمكنه أن يصف المتغيرات التاريخية والثقافية والدينية التي دخلت على هذه الهوية وحولتها إلى هويات مختلفة. ولذلك، فإننا سوف نتحدث بصيغة الجمع فنشير إلى «الهويات اليهودية» (كما نتحدث عن «أعضاء الجماعات اليهودية») فهو مصطلح يعبر عن نموذج أكثر تركيبية ومن ثم أكثر تفسيرية لواقع أعضاء الجماعات اليهودية، يؤكد استقلالهم النسبي عن محيطهم دون أن ينسبهم إلى تاريخ يهودي عالمي أو جوهر ثابت، بل ينسبهم إلى مجتمعاتهم وحسب. ومن هنا محاولتنا فَهْم هذه الهويات لا من خلال العودة إلى ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي»، أو العودة إلى كُتب اليهود المقدَّسة أو شبه المقدَّسة، أو إلى بروتوكولات حكماء صهيون، وإنما بالعودة إلى التشكيلات الحضارية والتاريخية المختلفة التي ينتمي إليها أعضاء الجماعات اليهودية والتي تفاعلوا معها وأثروا فيها وتأثروا بها، وإن كانت درجة تأثرهم تفوق كثيراً درجة تأثيرهم كما هو الحال عادةً مـع أعضـاء الأقليات. فهنـاك هوية بابليـة يهودية، وأخرى فارسـية يهودية، وثالثة أمريكية يهودية، ورابعة عربية يهودية. 


ولكن نموذجنا التفسيري لا يُهمل البُعد اليهودي في بناء هذه الهويات، فالدين اليهودي (بخاصيته الجيولوجية التراكمية) عنصر أساسي فيها، كما أن الرؤية الدينية بُعد حيوي ومهم. وكل ما نفعله أننا لا نجرده وإنما نراه في تفاعله مع الأبعاد الحضارية الأخرى. كما أننا لا نرى أن له مركزية تفسيرية. ولذا، فنحن لا نتحدث عن «هوية يهودية» عامة مُطلَقة، ولا نتحدث عن غياب أية هوية يهودية، وإنما نتحدث عن هويات يهودية مُتعيِّنة متنوعة. 


والفكر الصهيوني يَصدُر عن نموذج اختزالي يُنكر واقع الجماعات اليهودية الحضاري الفسيفسائي الجيولوجي التراكمي، ويطرح فكرة الهوية اليهودية العالمية الواحدة، وتتم عملية تسمية الواقع وتصنيفه من هذا المنظور. ومن ثم، فإن هناك مصطلحات مثل «يهود الدياسبورا» و«يهود المنفى» و«الشعب اليهودي»، وهي جميعاً مصطلحات تفترض وحدة اليهود وتَجانُسهم. ولكن حين يصل أصحاب هذه الهويات إلى إسرائيل، يتضح للجميع أنهم ليسوا مجرد يهود، إذ يصبحون مرة أخرى مصريين ومغاربة وروس! وتتحدد مكانتهم الاجتماعية بحسب ذلك. ولذا، ينكر كثير من المغاربة هويتهم العربية، ويصرون على أنهم فرنسيون وليسوا يهوداً وحسب! وكذلك فإن يهود العالم العربي، الذين تم تهجيرهم باعتبارهم يهوداً بشكل عام، يصبحون مرة أخرى يهوداً شرقيين يقبعون في آخر درجات السلم الاجتماعي الإسرائيلي، كما يصبح يهود روسيا إشكنازاً أو غربيين، ويُعطَون المنح والقروض وأفخر المنازل، ثم يشغلون قمة السلم الاجتماعي. ومن هنا تظهر الهويات اليهودية المختلفة، وهو ما يؤدي إلى طرح قضية «الهوية اليهودية» على بساط البحث. 

تاريخ الهويـات اليهوديـة حتى الوقت الحاضر 
History of Jewish Identities till the Present 
تاريخ الهويات اليهودية طويل ومُركَّب ويغطي عدة أزمنة وأمكنة لا يربطها رابط في كثير من الأحيان. وأولى الهويات اليهودية هو ما نسميه «الهوية العبرانية» أي هوية العبرانيين قبل أن يتم تهجيرهم إلى آشور وبابل. وكانت الهوية العبرانية تستند إلى تعريف ديني قومي، كما كان الحال في الشرق الأدنى القديم. ونحن نستخدم مصطلح «قومي» لعدم وجود مصطلح أدق، ونظن أن مصطلح «أقوامي» (نسبة إلى كلمة «أقوام») قد يكون أكثر دقة (مع قُبحه) لأنه مُستمَد من الواقع التاريخي القديم إذ تشير الدراسات التاريخية إلى «الأقوام الكنعانية» التي سكنت فلسطين (التي كان يُقال لها آنذاك كنعان) وإلى «الأقوام الآرامية»، وهي مجموعات بشرية متماسكة على نحو فضفاض، تتصف ببعض السمات القومية، مثل اللغة المشتركة والثقافة المشتركة والدين المشترك، ولكنها ليست شعوباً ولا قوميات بالمعنى الحديث للكلمة. ولم يكن التعريف الديني القومي للهوية العبرانية منغلقاً تماماً، فثمة إشارات عديدة في الكتابات العبرية التي تعود إلى هذه الفترة أو تتحدث عنها إلى الأجنبي أو الغريب (جير) الذي بوسعه أن ينتمي إلى الجماعة العبرانية عن طريق التهود. وجاء في سفر التثنية « لا تظلم أجيراً مسكيناً وفقيراً من إخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك، في يومه تعطيه أجرته ولا تغرب عليها الشمس لأنه فقير وإليها حاملٌ نفسه لئلا يصرخ عليك إلى الرب فتكون عليك خطيَّة » (تثنية 24/14 ـ 15). وعند الحديث عن هجرة العبرانيين من مصر، أو ربما طردهم، ترد إشارة إلى أن بعض العـبرانيين قد تَخلَّفـوا فيهـا، كمـا خرج معهم « اللفيف » (خروج 12/38)، وهي إشارة إلى جماعات ليست متجانسة عرْقياً ولا تنتمي إلى العبرانيين، ولكنهم على أية حال أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الجماعة العبرانية. وبعد التغلغل العبراني في أرض كنعان، امتزج العبرانيون بالكنعانيين وتزاوجوا معهم. ولكن الحظر التوراتي على الزواج من الأجانب، وعلى ذرية مثل هذا الزواج، لا ينطبق على الأدوميين أو المصريين، وإنما ينطبق على العمونيين والمؤابيين وحسب. « لا يدخل عموني ولا مؤابي في جماعة الرب حتى الجيل العاشر، لايدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد... لا تكره أدومياً لأنه أخوك، لا تكره مصرياً لأنك كنت نزيلاً في أرضه. الأولاد الذين يُولَدون لهم في الجيل الثالث يدخلون منهم في جماعة الرب » (تثنية 23/3، 7 ـ 8). فالحظر هنا ليس مُطلقاً ولا ضَيِّقاً. ومع هذا، فإن ثمة إشارات إلى أن الغريب ليس مقبولاً قبولاً كاملاً بأية حال (تثنية 14/21). وبذا، يمكننا أن نقول إن رؤية العبرانيين لهويتهم وتعريفهم لها كان مرناً منفتحاً إلى حدٍّ ما. 

أما على مستوى الممارسة، فقد كانت الهوية العبرانية منفتحة تماماً. فعند التهجير إلى بابل، كان العبرانيون يشكلون جماعة شبه قَبَلية تتحدث العبرية، كما كان لهم نسقهم الديني المقصور عليهم. ومع هذا، كانت هذه الجماعة مندمجة إلى حدٍّ كبير في المحيط الثقافي والسياسي الذي تواجدت فيه، متأثرة به أكثر من تأثيرها فيه. فالعبرانيون الذين تسللوا إلى كنعان كانوا قد أحضروا معهم من مصر (وأرض مدين) فكرة الإله الواحد. ولكن اليهودية (كنسق ديني متماسك) لم تكن، مع هذا، قد اكتمل تكوينها بعد واستوعبت عناصر كثيرة من عبادات الخصب الكنعانية، كما أن «يهوه » ذاته لم يكن قد اصطبغ بعد بصبغة كنعانية. وتَبـنَّى العبرانيون كثـيراً من أعيــاد الكنعانيين وعباداتهم، واكتسبوا الثقافة الكنعانية، وتحدثوا بإحدى اللهجات أو اللغات الكنعانية والتي أصبحت تُدعَى «العبرية». وحينما تم تأسيس المملكة المتحدة في عهد داود وسليمان، لم يتوقف دخول العناصر الأجنبية. ولقد كانت سيرة داود هي سيرة تحالفه مع الفلستيين، ثم تَنكُّره لهم، ثم تَحالُفه مع دويلات أخرى مجاورة، وهكذا. وحينما فتح داود القدس التي كانت لا تزال في يد اليبوسيين (وهم بطن من بطون كنعان)، تم استيعابهم في الجماعة العبرانية حسبما يُقال. 

وبعد موت سليمان، انحلت المملكة المتحدة إلى دويلتين عبرانيتين: المملكة الشمالية، والمملكة الجنوبية. وكان لكلٍّ مركز ديني مستقل عن الأخرى. ومسألة المركز الديني في العبادات القربانية القديمة، التي تدور حول المعبد، مسألة شديدة الأهمية، فالمعبد هو مصدر الشرعية السياسية ومصدر الدخل الأساسي للدولة، وهو في نهاية الأمر مصدر الهوية القومية وأساسها. وقد كان ملوك الدويلتين العبرانيتين يتزوجون، كنوع من التحالفات السياسية، من أميرات أجنبيات كن يحضرن آلهتهن معهن ويقمن المعابد لهم وينشرن العبادات الخاصة بهم بين الأثرياء وفي البلاط، الأمر الذي كان يزيد التعددية الدينية وعدم التجانس القومي. والـزواج من أجنبيـات هو عـادة ترجع إلى سليمان الذي لم تكن أمه عبرانية. وثمة رأي يذهب إلى أن العبرانيين كانوا يتحدثون في تلك المرحلة بلهجات مختلفة، ولم تكن هناك بالتالي هوية لغوية موحَّدة. وكانت الدويلتان اليهوديتان في حالة حرب وصراع دائمين، كما كانتا تستعينان بالدول والدويلات الأجنبية في صراعهما (الواحدة ضد الأخرى). فقد قامت آشور بالهجوم على الدويلة الشمالية، وفعلت ذلك بناء على طلب من دويلة يهودا الجنوبية التي طالبت بحمايتها من الضـغوط التي كان يمارسـها عـليها الحلـف المعادي لآشور، والذي تَشكَّل بين الدويلات الآرامية والمملكة الشمالية. 

وفي هـذا الإطار، يكـون الحديث عن هويـة عبرانية متسماً بالتجـاوز، ولكنه مع هذا يَصلُح إطاراً أو تعريفاً إجرائياً ضرورياً لتقسيم تَطوُّر ما يُسمَّى «الهوية اليهودية» عبر المراحل التاريخية. 

ونستخدم أحياناً مصطلح «الهوية العبرانية اليهودية» للإشارة إلى الهوية اليهودية بعد العودة من بابل بتصريح من قورش الأخميني إمبراطور فارس. وقد بدأت ملامح الدين اليهودي في التحدد في تلك المرحلة، وظهر نسق ديني يهودي أخذ شكل عبادة قربانية مرتبطة بالهيكل الذي أعيد بناؤه بأمر من قورش، وبأرض فلسطين، وبالتراث العبراني. ومن هنا تسميتنا الهوية اليهودية في هذه المرحلة بأنها «هوية عبرانية يهودية»، فهي عبرانية في جانبها الإثني المحدد ويهودية في جانبها الديني الآخذ في التحدد. وقد ظهر مصطلح «يهودي» بعد التهجير إلى بابل. ومع هذا، يمكن القول بأن هذا المصطلح فيه شيء من التجاوز أيضاً، إذ أن معظم العبرانيين كانوا قد فقدوا لغتهم إبّان الإقامة في بابل، وبدأت أغلبيتهم تتحدث الآرامية. ولذا، فإن كلمة «عبرانية» تشير هنا إلى الانتماء الإثني العام وليس اللغوي. كما أن النسق الديني اليهودي لم يكن قد تَحدَّد تماماً إذ كانت تدخل عليه مؤثرات بابلية وفارسية قوية، ثم هيلينية فيما بعد. وكما هو واضح، تُعَدُّ هذه المرحلة مرحلة انتقالية من منظور الهوية. ولذلك، فإننا نستخدم مصطلح «هوية يهودية» على سبيل التبسيط. 

ولم يكن تعريف الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين يتسم بكثير من المرونة، إذ أن أعضاء الجماعة العبرانية العائدة من بابل كانوا يشعرون بأنهم أقلية تتهددهم الأقوام التي سكنت فلسطين، خصوصاً أن العبرانيين الذين لم يهاجروا تزاوجوا مع نساء تلك الأقوام ورجالهم. ولذلك، طالب عزرا كل من يود أن ينتمي إلى الجماعة اليهودية العبرانية بأن يطلق زوجته الأجنبية. « إنكم قد خنتم واتخذتم نساء غريبة لتزيدوا على إثم إسرائيل، فاعترفوا الآن للرب إله آبائكم، واعملوا مرضاته، وانفصلوا عن شعوب الأرض وعن النساء الغريبة» (عزرا 10/10ـ 11). وعند هذه النقطة، ظهرت جماعة السامريين التي شكلت جماعة دينية مستقلة ذات هوية دينية قومية مستقلة، ورفض أعضاؤها الخضوع لأوامر عزرا (لكن التفسير السامري للانفصال عن الجماعة اليهودية يخالف ذلك تماماً، إذ يرى السامريون أنهم أتباع موسى الحقيقيون الذين لم يُفسدوا أسفار موسى الخمسة بتعاليم الحاخامات وتفسيراتهم، أي التلمود). وقد ظل تعريف عزرا (الديني الإثني) الصارم للهوية سائداً حتى العصر الهيليني.

لكن أهم التطورات، في هذه المرحلة، كان انتشار الجماعات اليهودية خارج فلسطين. فهذه الجماعات كانت تشكل في معظم الأحيان جماعة وظيفية. وحتى يَتسنَّى لأعضاء هذه الجماعة الاضطلاع بالوظيفة الموكلة إليها بكفاءة وعلى أحسن وجه، كان لابد لها أن تحتفظ بعزلتها الإثنية والدينية عن مجتمع الأغلبية. وتُعبِّر هذه العزلة عن نفسها في صورة التمسك الشديد بالهوية والاحتفاظ بقدر من الاستقلال عن المحيط الحضاري الذي يعيش فيه أعضاء الجماعات اليهودية، في الرؤية والمأكل والملبس واللغة والعقيدة (مجتمعة أو منفردة). ولكن يجب أن نشير إلى أن هوية الجماعة الوظيفية تكون عادةً حالة عقلية أكثر من كونها أمراً واقعاً، فأعضاء الجماعة الوظيفية يستبطنون الدور المفروض عليهم ويتوحدون به، ويجدون أن العزلة أمر طبيعي بل ومرغوب فيه، وأن تَحقُّق الذات والهوية لا يمكن أن يتم بدونه. ويُلاحَظ أن أعضاء الجماعة الوظيفية لا يعيدون صياغة هويتهم من خلال عناصر مُستمَدة من التراث اليهودي أو العقيدة اليهودية وحسب، وإنما من عناصر مُستمَدة (وربما بالدرجة الأولى) من المجتمع المضيف الذي يعيشون في كنفه أو من مجتمع مضيف سابق، أو من خلالهما مجتمعين. ولكن الحالة العقلية الانعزالية تخبئ أحياناً معدلات عالية من الاندماج في المجتمع، فهم يحتفظون بقدر من الاستقلال عن محيطهم الحضاري، ولكنهم يكتسبون سماتهم ورؤيتهم لأنفسهم ولغيرهم من محيطهم الحضاري (شأنهم في هذا شأن أعضاء الجنس البشري كافة) وذلك رغم استقلالهم عن هذا المحيط. فهويتهم (الوظيفية) اليهودية لا تتحدد من خارج التشكيل الحضاري الذي ينتمون إليه أو رغماً عنه، وإنما من خلاله ومن داخله وبسبب تفاعلهم معه. وفي الحقيقة، فإن تَفرُّد الهوية اليهودية في أي مجتمع لا تعود إلى تَفرُّد العناصر التي تُكوِّن الهوية وإنما تعود إلى وجودها مجتمعة. كما أن حركيات المجتمع الذي يعيشون فيه يمكن أن تُفسِّر هذا الاختلاف. وهذه التركيبة المزدوجة (قدر من العزلة الفعلية والعقلية مع قدر من الاندماج الفعلي) هي التركيبة المثلى للجماعة الوظيفية. فثمة ضرورة لقدر من الاندماج لأنهم يتعاملون يومياً مع أعضاء المجتمع ويتحركون داخله وبحسب قواعده، ولكن ثمة ضرورة أيضاً لقدر من العزلة لضمان الحياد واستمرار العلاقة التعاقدية بين أعضاء الجماعة الوظيفية وأعضاء المجتمع المضيف، أي أن التركيبة المزدوجة تضمن أن يظل أعضاء الجماعة الوظيفية في المجتمع دون أن يكونوا منه. 

وأولى الجماعات الوظيفية اليهودية التي ظهرت خارج فلسطين هي الحامية العبرانية في جزيرة إلفنتاين، التي وَطَّنها فراعنة مصر هناك (في أسوان) كجماعة وظيفية استيطانية قتالية لحماية حدود مصر الجنوبية. وقد فَقَد هؤلاء علاقتهم بفلسطين ونسوا شعائر دينهم أو ربما احتفظوا ببعض العناصر الوثنية من العبادة اليسرائيلية واختلطوا بالمحيط المصري. فعندما أراد الفرس استخدامهم كجماعة وظيفية قتالية تابعة لهم ضد المجتمع المصري، أرسل الإمبراطور الفارسي رسالة يشرح لهم فيها طقوس عيد الفصح ليؤكد هويتهم اليهودية ويضمن عزلتهم عن محيطهم المصري، ومن ثم ولاءهم. ومع هذا، يرى بعض المؤرخين أن هوية هؤلاء اليهودية أو حتى العبرانية أمر مشكوك فيه، فقد كانوا يتحدثون الآرامية، كما كانت عبادتهم مشوبة بعناصر وثنية عديدة. ويمكن القول أيضاً بأن الجماعة العبرانية في مصر، قبل خروجها منها، كانت جماعة وظيفية، فقد عمل يوسف مديراً لمخازن فرعون، كما كان يضطلع بالأعمال المالية. 

أما أهم هذه الجماعات طراً فهي الجماعة اليهودية في بابل والتي رفضت العودة إلى فلسطين (فيما عدا قلة صغيرة). وقد بدأ أعضاء هذه الجماعة في الاشتغال بالتجارة والربا والانصراف عن الزراعة والتركز في المدن، أي أنهم تحولوا بالتدريج إلى جماعة وظيفية وسيطة تجارية ومالية ونسوا العبرية. وقد كان لهذا التجمع اليهودي علماؤه ومدارسه الدينية وتَوجُّهه الثقافي الذي أخذ يزداد قوة واستقلالاً، حتى أصبح في مرحلة من المراحل مركز اليهودية الأساسي في العالم. ويتضح تَفتُّت الهوية اليهودية في ظهور المفهوم الديني القائل بأن شريعة الدولة هي الشريعة التي يجب أن يتبعها اليهودي في حياته العامة، أي أن نطاق الشريعة اليهودية تم تقليصه بحيث أصبح مقصوراً على حياة اليهود الدينية الخاصة وتعاملاتهم فيما بينهم، ولا يضم حياة اليهود العامة أو القومية. وأصبحت اليهودية (على مستوى الممارسة) ديناً، وتَحوَّل الجانب القومي فيها إلى مجرد رموز وتَطلُّعات دينية وانتماء إثني يضمن للجماعة الوظيفية الوسيطة اليهودية العزلة اللازمة لها. وهذا هو المبدأ الذي لا يزال سائداً بين أعضاء الجماعات اليهودية رغم كل الادعاءات. 

ومما زاد من استقلال يهود بابل عن بقية الجماعات اليهودية في فلسطين أو خارجها، أن اليهود، حتى عام 333 ق.م، كانوا يعيشون داخل إطار إمبراطورية واحدة يدورون في فلكها ويستمدون هويتهم منها، وهي الإمبراطورية الفارسية. أما بعد ذلك، فقد كان الجيب البابلي يدور في فلك فارسي (أخميني ثم فرثي ثم ساساني)، بينما كان يهود فلسطين والبحر الأبيض المتوسط يدورون في فلك هيليني ثم روماني. وقد واكب ظهور الجماعات اليهودية خارج فلسطين تَفتُّت الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين. فقد شهد العصر الهيليني، خصوصاً في القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول الميلادي، تخلخلاً في الهوية العبرانية اليهودية في فلسطين (في الرؤية والممارسة) من المنظورين الديني والقومي لأسباب عديدة: 

1 ـ أدَّى تسامُح الحضارة الهيلينية، وجاذبيتها الشديدة، واستعدادها للاعتراف بأي يهودي على أنه هيليني، متى أجاد اللغة اليونانية ومارس أسلوب الحياة اليونانية، إلى انجذاب العبرانيين اليهود (في بلدان البحر الأبيض المتوسط ومن بينها فلسطين) بأعداد متزايدة إلى تلك الحضارة، وإلى تَبنِّيهم طرق تفكيرها وزيها واحتفالاتها، وفي نهاية الأمر لغتها. وسُمح للعبرانيين اليهود الذين طرحوا هويتهم جانباً (مثل تايبريوس الإسكندر، ابن أخي فيلون الفيلسوف السكندري، وكثيرين غيره) بأن يصبحوا مواطنين يونانيين تماماً. أما بقية أعضاء الجماعة اليهودية الذين احتفظوا بعقيدتهم، فلم يكتسبوا المواطنة اليونانية لعدم استطاعتهم المشاركة الكاملة في نشاطات المدينة (البوليس polis)، إذ كانت الحياة في المدينة تدور حول العبادة اليونانية الوثنية. وكانت القيادة اليهودية في فلسطين ذاتها مصطبغة بالصبغة الإغريقية، الأمر الذي أدَّى إلى نشوب الثورة الحشمونية ضد السلوقيين. ولكن القيادة الحشمونية ما لبثت، هي ذاتها، أن تأغرقت بعد استيلائها على الحكم واصطنعت أسماء إغريقية مثل أنتيجون والإسكندر.

2ــ لم تكن الهوية العبرانية اليهودية، داخل فلسطين ذاتها، محددة بشكل صارم، حيث كانت تعيش في فلسطين أعداد كبيرة من أقليات غير يهودية (يونانيـون وفينيقيـون وبقايا الفلسـتيين وبقايا الأقوام السامية). ويتضح عدم التحدد في فرض الملوك الحشمونيين اليهودية بالقوة إذ فُرضت بالقوة على الأدوميين (في شرق الأردن) وعلى الإيطوريين (في الجليل). وكان هيرود (ملك اليهود) من أصل أدومي، وكان هؤلاء المتهوّدون يشكلون هوية جديدة أيضاً. 

3 ـ كانت اليهودية، كنسق ديني، تخوض تحولات عميقة في تلك المرحلة، نتيجة احتكاكها بالفكر الهيليني وانتشار اليهود في حوض البحر الأبيض المتوسط. وظهرت فرق يهودية كثيرة من بينها الصدوقيون (من طائفة الكهنة) الذين كانوا لا يؤمنون باليوم الآخر، والأسينيون (من أبناء الشعب) الذين كانوا يحيون حياة تَقشُّف ورهبنة. بالإضافة إلى الفريسيين (من أبناء الطبقة الوسطى أساساً) الذين كانوا يؤمنون باليوم الآخر وإليهم يرجع الفضل في إعادة صياغة اليهودية، وهو ما جعلهم أهم هذه الفرق. كما كان هناك أبناء الطبقات الثرية المتأغرقون، فضلاً عن الفرق الشعبية المتطرفة مثل الغيورين (قنائيم)، وعصبة الخناجر (سيكاري)، وكُتَّاب «كتب الرؤى» (أبوكاليبس)، وكُتّاب «الكتب الخفية» (أبوكريفا). وكان لكل فريق رؤيته وعقيدته. ومن ثم، كانت كلمة «يهودي» في تلك المرحلة التاريخية، تضم تعريفات كثيرة متضاربة الأمر الذي زاد من خلخلة الهوية على مستوى الرؤية والممارسة. 

4 ـ وفي هذا الإطار، طرح الفريسيون رؤية جديدة للهوية تُحرِّرها من المفهوم القديم المرتبط بالمجتمع القَبَلي العبراني أو المجتمع الزراعي الملكي، أو المجتمع الكهنوتي المرتبط بالهيكل والعبادة القربانية. فأعيد تعريف الهوية بحيث أصبحت أساساً هوية دينية روحية ذات بُعد إثني مُتقلِّص، ليس بالضرورة قومياً متضخماً، وهي علاوة على هذا غير مرتبطة بالهيكل. وواكب هذا التعريف الجديد استعداد للتصالح مع الدولة الحاكمة أو القوة العظمى في المنطقة، وعدم الاكتراث بنوعيتها مادامت لا تتدخل في حياة اليهود الدينية. وقام الفريسيون بنشاط تبشيري خارج فلسطين، الأمر الذي يفسر زيادة عدد اليهود في الإمبراطورية الرومانية في تلك المرحلة. 

5 ـ كما شهدت تلك المرحلة الصدام بين الإمبراطورية الرومانية والقيادات الشعبية العبرانية اليهودية في فلسطين، التي أجهدها دفع الضرائب للإمبراطورية، فاندلعت الثورة في صفوفها. وعارض الصدوقيون والفريسيون التمرد ضد الرومان، ولم يكترث أعضاء الجماعة اليهودية في بابل به. ووقفـت بعض المدن ذات الأغلبيـة اليهوديـة الواضحة، مثل صفد وطبرية، موقف التأييد من الرومان. وانضم اليهود المتأغرقون إلى الرومان وحاربوا في صفوفهم، فكان هناك جيش يهودي تحت قيادة أجريبا الثاني أثناء حصار القدس وكانت أخته بيرنيكي هي عشيقة القائد الروماني تيتوس. وكانت جهود الرومان موجهة لإخماد التمرد وحسب، وليس للقضاء على اليهودية كدين أو على اليهود كإثنوس أو قوم (كما تَزعُم التواريخ الصهيونية أو المتأثرة بها). 

6 ـ وفي هذه المرحلة، ازداد انتشار الجماعات اليهودية في العالم نتيجة الهجرة من فلسطين والتهوّد، بحيث أصبح عدد اليهود المقيمين خارج فلسطين يفوق عدد المقيمين فيها. وكما بيَّنا، كانت أعداد متزايدة من يهود فلسطين تفقد صبغتها العبرانية لتكتسب صبغة هيلينية. أما خارجها، فقد نسي يهود حوض البحر الأبيض المتوسط، ولا سيما في مصر، العبرية تماماً، وتمت ترجمة العهد القديم إلى اليونانية (الترجمة السبعينية) بتشجيع من البطالمة حتى يفهم يهود مصر معانيه. وبتشجيع منهم أيضاً، تم تشييد هيكل في مصر (في ليونتوبوليس) وهو هيكل أونياس، وذلك حتى يستقلوا عن هيكل القدس، ويبتعدوا عن نفوذ السـلوقيين، وحتى يمكن الاسـتفادة منهم كجماعـة وظيفيـة، مقاتلة وسيطة، وهو ما كان يعني ظهور هوية يهودية في مصر الهيلينية مستقلةً عن الهوية اليهودية في فلسطين. 

وهكذا كانت الهوية اليهودية، داخل فلسطين وخارجها، تخوض عملية تَفتُّت على المستويين الديني والقومي. ولذلك، يمكن القول بأن تحطيم الهيكل على يد تيتوس لم يكن سبباً مباشراً في القضاء على الهوية العبرانية اليهودية، وإنما كان تجسيداً لعملية تاريخية مركبة أدَّت إلى القضاء على هذه الهوية وإلى تفتيتها، ولم يكن تحطيم الهيكل سوى تعبير نهائي عن هذه العملية. فأثناء الحرب الرومانية، استسلم قائد قوات الجليل يوسيفوس فلافيوس للرومان ثم انضم إليهم، كما فرَّ يوحنان بن زكاي من القدس أثناء حصارها، وكلاهما كان من الفريسيين الذين انضموا إلى صفوف المتمردين على مضض. وقد سمح الرومان ليوحنان بن زكاي بتأسيس مدرسة يفنه الدينية التي تمت فيها صياغة اليهودية المعيارية أو اليهودية الحاخامية المنفصلة تماماً عن العبادة القربانية، وهو النسق الديني الذي نعرفه، بينما اختفت القوى الأخرى مثل الأسينيين (الذين استُوعبوا في المسيحية) والصدوقيين وغيرهم. 

ويمكن القول بأن الهوية العبرانية والهوية العبرانية اليهودية ذات التوجه القومي قد اختفت تماماً عند هذه النقطة التاريخية وظهرت مراكز عديدة في بابل والإسكندرية. ولا يمكننا التحدث منذ ذلك التاريخ عن «عبرانيين» ولا عن «عبرانيين يهود»، وإنما عن «أعضاء الجماعات اليهودية»، وعن هوياتهم المختلفة. وقد حدث تمرُّد يهودي وهو تمرد بركوخبا، فقضى عليه الإمبراطور هادريان وأصدر مرسوماً بهدم القدس. ولكن، ومع ذلك، حينما مُنحت المواطنة لكل سكان الإمبراطورية عام 212م لم يُستثن اليهود من ذلك، وأصبحوا مواطنين رومانيين. 

ويمكننا أن نحصر هنا بعض الهويات اليهودية مســتخدمين معيارين: أحدهما ديني والآخر قومي أو إثني. فعلى المستوى الديني، كان هناك السامريون، كتَجمُّع ديني، مقابل بقية اليهود الذين كانوا ينقسمون بدورهم إلى عدة فرق لكلٍّ فهمه الخاص لليهودية، ومن أهمها الصدوقيون والفريسيون. 

وإذا ما أخذنا بالمعيار الإثني، فيمكن الإشارة إلى يهود فلسطين المتأغرقين، وكانوا يتركزون أساساً داخل المدن وفي أوساط الأثرياء. رغم أن التأغرق معيار إثني، إلا أنه يحمل تضمينات دينية، إذ أن اليهود المتأغرقين كانوا يقفون ضد كثير من الطقوس الدينية، ويحاولون التملص منها بل والقضاء عليها بالتعاون مع الدولة السلوقية الهيلينية. وهناك يهود فلسطين (الساميون)، الذين كانوا يتحدثون الآرامية ويتركزون في الريف. كما كان هناك يهود فلسطين (المتهودون) من أبناء الإيطوريين والأدوميين. وهناك يهود مصر المتأغرقون (ويبدو أنه كانت هناك جماعة يهودية خارج الإسكندرية اكتسبت أيضاً الهوية المصرية المحلية ولم يكن أعضاؤها يُصنَّفون ضمن المتأغرقين). وهناك أيضاً يهود جزيرة إلفنتاين وكانوا يتحدثون الآرامية، وأخيراً يهود روما (الذين كانوا يتحدثون اليونانية واللاتينية). كما كانت تُوجَد جماعات يهودية في آسيا الصغرى وفي ليبيا (برقة)، وفي أنحاء متفرقة من أوربا. ويمكن أن نذكر أخيراً أهم هذه الجماعات طراً، وهي الجماعة اليهودية في بابل التي انفصلت عن يهود الإمبراطوريات الهيلينية ثم عن الدولة الرومانية. وقد اكتسب أعضاء هذه الجماعات كثيراً من السمات الإثنية من المحيط الحضاري الذي كانوا يعيشون فيه، الأمر الذي أدَّى إلى قَدْر هائل من التنوع وعدم التجانس. وستظل هذه هي السمة الأساسية والعامة للهويات اليهودية المختلفة التي ظهرت عبر العصور وفي مختلف المناطق.

ومما زاد من عدم تجانس الجماعات والهويات اليهودية، انتشار اليهود في كل أنحاء العالم دون وجود سلطة مركزية دينية أو قضائية في فلسطين أو في غيرها من الأماكن. كما لم تكن تُوجَد في العالم القديم وسائل مواصلات أو إعلام تقرب بين أطراف العالم كما يحدث الآن. لكل هـذا، تطـوَّرت كل جماعة يهودية على حدة، بمعزل عن الأخرى، على المستويين الديني والقومي. وقد ظلت هذه الفسيفساء قائمة إلى أن انحلت الإمبراطورية الرومانية وانتشرت المسيحية في الغرب وانتشر الإسلام في الشرق، فظهرت فسيسفاء أخرى احتفظت بعناصر من الفسيفساء القديمة، كما دخلت عليها عناصر جديدة. وقد انقسمت اليهودية ودخلت مدارين أساسيين: المدار الإسلامي والمدار المسيحي. وازدادت اليهودية توحيدية داخل المدار الإسلامي. ومن ثم، ظهر ما يمكن تسميته «هوية يهودية عربية إسلامية»، وهي التي أنتجت موسى بن ميمون. وقد حَدَث، داخل هذا الإطار، الانقسام الخطير الثاني، وهو الانقسام القرّائي. أما في الغرب، فقد ازدادت اليهودية غيبية، ودخلت عليها عناصر صوفية متطرفة. وازدادت الهوة اتساعاً بين الهويات اليهودية في الشرق والغرب. فيهود الأندلس والعالم العربي كانوا يتحدثون العربية ويكتبون بها، بينما كان يهود فرنسا يتحدثون برطانة فرنسية ويكتبون بالعبرية. ثم ظهرت اليديشية (لغة الإشكناز في شرق أوربا)، واللادينو (لغة يهود السـفـارد في حوض البحـر الأبيض المتوسط). وكانت هناك بقايا يهود الرومانيوت الذين يتحدثون اليونانية ويهود إيطاليا الذين يتحدثون الإيطالية. كما ظهرت هويات يهودية مختلفة في أماكن متفرقة، مثل: الخَزَر في منطقة القوقاز، والفلاشاه في إثيوبيا، وبني إسرائيل في الهند، ويهود الصين في كايفنج،ويهود مانيبور،والتشويتاس،واليهود السود.ولم يكن انتماء هؤلاء الديني إلى اليهودية الحاخامية،وإنما كان انتماؤهم إلى تقاليد دينية مختلفة دخلت عليها عناصر دينية وإثنية محلية. وكان يُوجَد كذلك يهود إيران وأفغانستان الذين يتحدثون اللغة الفارسية وغيرها من اللغات، وبعض اليهود الأكراد الذين يتحدثون الكردية. وظهر عدد ضخم من الجماعات اليهودية الصغيرة في القوقاز مثل: يهود الجبال ويهود جورجيا ويهود الكرمشاكي، وظهرت جماعـات يهودية في جبال الأطلس تتحدث البربرية. ومن الانقسامات الدينية المهمة، ظهور الحركة الشبتانية وظهور يهود المارانو في حوض البحر الأبيض المتوسط ويهود الدونمه في الدولة العثمانية. 

هذه هي الفسيفساء التي كانت قائمة حينما ظهرت العلمانية في المجتمعات الغربية والتي زلزلت اليهودية الحاخامية وعمَّقت عدم التجانس.

التعريــف الدينــي للهـــويات اليهوديـــة 
Religious Definition of Jewish Identities 
في العصور القديمة، كانت اليهودية ديانة توحيدية في محيط وثني، وكانت تكتسب هويتها من هذا التعارض الواضح والبسيط. أما في العصور الوسـطى الغربية وفي العالم الإسـلامي، فقد اختلف الأمر تماماً، إذ وجدت اليهودية نفسها في محيط توحيدي (إسلامي أو مسيحي) أدَّى إلى انطماس معالمها. ولذلك، حاول علماء اليهود أن يخلقوا هوة بين اليهود وأعضاء الديانات التوحيدية الأخرى، وكان التلمود هو ثمرة هذه المحاولة. وخلال هذه الفترة، ظهر تعريف الشريعة (هالاخاه) للهوية اليهودية، فعُرِّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية أو من تهوَّد. وهذه التعريف هو الذي ساد منذ ظهور اليهودية الحاخامية مع بدايات العصور الوسطى في الغرب حتى بداية القرن التاسع عشر، وبالتالي فهو التعريف الذي يُعَدُّ الإطار المرجعي لكثير من الكتابات والإشكالات التي تُثار حول الهوية اليهودية. وهو تعريف ديني إثني مُغلَق يشبه إلى حدٍّ ما تعريف نحميا وعزرا ولكنه مُتحرِّر من الارتباط بالهيكل. ولذا، نجد أن الحاخامات عارضوا أية محاولة للعودة الفعلية ووقفوا ضد أي ماشيَّح دجال من أمثال شبتاي تسفي، باعتبار أن العودة لا يمكن أن تتم إلا بأمر إلهي سيأتي في آخر الزمان، أي أن العنصر القومي للهوية تم تسكينه وتحويله إلى تَطلُّع ديني، ولكنه مع هذا ظل كامناً. 
وقد كانت هناك إشكالية أساسية داخل هذا التعريف تتعلق بالجانب القومي أو العرْقي للتعريف، حيث يتضمن أن من يُولَد لأم يهودية يظل يهودياً حتى ولو لم يمارس تعاليم الدين اليهودي، فهو يهودي بالمعنى الإثني. أما اليهودي المتهود، فكان عليه أن يقوم بتنفيذ جميع الأوامر والنواهي، أي يجب أن يكون يهودياً بالمعنى الديني. لكن هذه الإشكالية كانت، هي الأخرى، في حالة كُمون لأن عدد اليهود المتهودين كان صغيراً إلى حدٍّ كبير، كما أن تَرابُط الجماعات الدينية والإثنية، في العالمين الإسلامي والمسيحي، كان قوياً لدرجة أن أي يهودي يترك دينه كان عادةً ما يتبنى ديناً آخر ويندمج في المجتمع الخارجي وينصهر فيه تماماً، الأمر الذي يحلّ الإشكالية. وكان الفيلسوف إسبينوزا أول يهودي يترك الدين اليهودي ولا يتبنى ديناً آخر، أي أنه كان أول يهودي إثني وعلماني. 

وعلى أية حـال،فإن المشـكلة كانت تظهر عند إقراض النقود بالربا،فاليهودية تبيح لليهودي أن يقرض غير اليهودي بالربا،لكنها تُحرِّم إقراض بني ملته.فإذا ما طلب يهودي مُتنصِّر قرضاً من أحد المرابين اليهود،كانت قضية يهوديته تطرح نفسها.وقد أفتى بعض الحاخامات بأن مثل هذا اليهودي المتنصر يجوز إقراضه بالربا لأنه ليس يهودياً على الإطلاق،ولكن أغلبية الحاخامات أفتوا بأنه يهودي حسب الشريعة اليهودية،لأنه وُلد لأم يهودية (أي أنه يهودي بالمعيار العرْقي). 

وفي القرن الثامن، شهدت اليهودية حركة إصلاح ديني من جانب القرّائين الذين تأثروا بالتراث الديني الإسلامي وعلم الكلام والنزعة العقلانية في التراث الديني الإسلامي، فرفضوا الشريعة الشفهية التي جُمعَت معظم أحكامها في التلمود، ونادوا بأن لا قداسة إلا للتوراة وحسب. أما الشريعة الشفوية، فهي مجرد تفسيرات واجتهادات غير مُلزمة. وهو موقف مختلف تماماً عن موقف اليهودية الحاخامية التي ترفع الشريعة الشفوية (أي تفسيرات الحاخامات) إلى مرتبة التوراة، بل إلى مرتبة أعلى منها أحياناً. ومن ثم، حـدث انقســام كامل بين الفريقين. وكان الفقه اليهودي يواجه دائماً مشكلة ما إذا كان القرّاءون يهوداً أم لا؟ وهل يحلّ الزواج بهم أم يٌعدُّ زواجاً مُختلَطاً؟. 

ومن أهم المشاكل الأخرى التي واجهها الفقه اليهودي، مشكلة يهود المارانو (اليهود المتخفون) الذين لم يتركوا شبه جزيرة أيبريا وتظاهروا باعتناق المسيحية بعد استرداد المسيحية لهذه الجزيرة، واحتفظوا بانتمائهم اليهودي سراً. ويرى الفقه اليهودي أن اليهودي الذي اضُطر إلى اعتناق دين آخر يظل يهودياً، ويمكنه أن يعود إلى حظيرة الدين متى سنحت له الفرصة. ولكن كثيراً من المارانو اعتنقوا المسيحية بإرادتهم للاحتفاظ بممتلكاتهم وثرواتهم، كما أنهم لم يفروا من شبه جزيرة أيبريا حينما سنحت لهم الفرصة. بل إن انتماءهم اليهودي ضعف بشكل واضح بمرور الزمن، ولم يبق منه سوى قشرة رقيقة أو بضعة طقوس. وفي النهاية، أصبح من الصعب عليهم التأقلم مع اليهودية الحاخامية أو المعيارية كما حدث لإسبينوزا (ولأورييل داكوستا من قبله). بل إن ثمة نظرية حديثة تذهب إلى أن المارانو كانوا مسيحيين صادقين في مسيحيتهم، وأن بعض العناصر داخل الدولة الإسبانية هي التي قامت بتوجيه تهمة المارانية لهم لوقف حراكهم الاجتماعي، إذ أن هؤلاء المسيحيين الجدد، كما كانوا يُسمَّون أحياناً، كونوا طبقة وسطى صاعدة وقوية كانت تهدد مصالح بعض الطبقات المهيمنة. 

وقد شكل يهود الدونمه من أتباع شبتاي تسفي مشكلة أخرى، فقد اعتنقوا الإسلام علناً، وأبقوا على انتمائهم اليهودي سراً. ولم يكن الفقه اليهودي، منذ أيام موسى بن ميمون، يعتبر اعتناق الإسلام من جانب اليهود شركاً أو إنكاراً لوحدانية الله (على خلاف التنصر). وبالتالي لم تكن هناك مشكلة من الناحية النظرية على الأقل. لكن الدونمه لم يُرغَموا على اعتناق الإسلام، كما أن الادعاءات المشيحانية لقائدهم قُوبلت بحرب شرسة من جانب الحاخامات الذين أعلنوا أنها هرطقة وتجديف. ومع هذا، كان يهود الدونمه في الدولة العثمانية يدرسون التلمود مع بقية أعضاء الجماعة اليهودية حتى منتصف القرن التاسع عشر، وظلوا محتفظين بكثير من طقوسهم اليهودية سراً دون أن يرغمهم أحد على ذلك! ولهذا كان من الصعب تقرير ما إذا كان المارانو والدونمه يهوداً أم لا، وهي مشكلة لم يحسمها الفقه اليهودي. 

وقد ازداد انتشار أعضاء الجماعات اليهودية في أنحاء العالم، وازداد بشكل واضح غياب التجانس الثقافي والديني بينهم مع الثورة العلمانية الكبرى التي بدأت تترك أثرها التدريجي في الجماعات اليهودية (ولعل ظهور الحركات الشبتانية المختلفة هو تعبير عن تزايد معدلات العلمنة). 

ولكن رغم كل المشاكل والتوترات الداخلية والخارجية، فإن تعريف الشريعة لليهودي (من وُلد لأمٍّ يهودية أو تَهوَّد)، وهو التعريف الحاخامي الأرثوذكسي، كان تعريفاً مقبولاً ويَصلُح أساساً للتفرقة بين اليهود وغير اليهود. ولكن الوضع اختلف تماماً مع ظهور العلمانية التي بدأت تترك أثرها التدريجي في الجماعات اليهودية إلى أن دخلت اليهودية في الغرب مرحلة الأزمة، فظهر فكر حركة التنوير ثم ظهرت اليهودية الإصلاحية ومن بعدها اليهودية المحافظة واليهودية التجديدية ولا تعترف اليهودية الأرثوذكسية بأ
خارجية الأمريكية، التى أُكتشف أمرها؛ وكذلك روبرت ماكسويل، الناشر الإنجليزى. 

3 ـ ولا شك في أن اليهودي الكاره لنفسه هو أيضاً يهودي غير يهودي. 

4 ـ بل وعلى المسـتوى العميق، يمكـن القول بأن كل الصـهاينة هم «يهود غير يهـود»، فالمضمون اليهـودي لحياة معظم صهاينة الغرب يكاد يكون منعدماً، وهم يهود كارهون ليهوديتهم ويودون إلغاء الوجود اليهودي في العالم ليُحلوا محله نمطاً إنسانياً جديداً (طبيعياً) لا يتسم بأي شذوذ أو طفيلية، وهو ما يُسمَّى الإنسان العبري الجديد. 

5 ـ بلغ الاختلاط درجة كبيرة حتى أنه ظهرت فى الاحصاءات الخاصة بالجماعات اليهودية فى العالم مقولة جديدة كل الجده وهى «يهودى بشكل ما » ( بالانجليزية: جويس إن سم وبى Jewish in some way ) وهى مقولة كوميدية لاتختلف عن تعريف سارتر لليهودى بأنه « هو من يشعر فى قرارة نفسه بأنه كذلك ». 

6 ـ أما «اليهودي غير اليهودي» الذي يدعي اليهودية ويتباهى بها (وهذا هو النمط السائد بعد وعد بلفور والحرب العالمية الثانية)، فهو على العكس من ذلك، حيث يتباهى بانتمائه اليهودي مع أن حياته وسلوكه وهويته تكاد تكون خالية تماماً من أي مضمون يهودي ديني أو إثني. وهو يسعى دائماً إلى إبراز جوانب شخصيته التي يتصور أنها يهودية. 


فريدريك ستاهل (1802-1861) 
Friedrich Stahl 
اسمه الأصلي يوليوس شلسنجر. وُلد في بافاريا الكاثوليكية. وهو رجل سياسة وقانون ألماني محافظ وأحد قادة البروتستانتية اللوثرية الألمانية. وُلد لأسرة يهودية وتلقى تعليماً أرثوذكسياً يهودياً، ولكنه تَنصَّر ثم دخل الكنيسة اللوثرية عام 1819، أي وهو بعد في سن السابعة عشرة. وقد كان في هذا مثل عدد كبير من اليهود الألمان في عصره الذين تَنصَّروا لأسباب مختلفة. 

درس ستاهل القانون في عدة جامعات ألمانية، وكان نشطاً في الحركات الطلابية، وعمل أستاذاً للقانون الروماني والكنسي. وعُيِّن عضواً في المجلس التشريعي في بروسيا، وعضواً في مجمع الكنيسة البروسية، كما ساهم في إنشاء مجلس الشيوخ في بروسيا وعين عضواً فيه مدى الحياة، وكان قائداً للحزب المحافظ. 

ويتناول أهم أعمال ستاهل الذي نُشر عام 1829 فلسفة القانون، حيث ينكر في هذا العمل كل العقائد العقلانية وينادي بأن أساس القانون والسياسة هو الوحي المسيحي وأن العرش الزماني لابد من ربطه بالعرش السماوي، أي مُلْك الإنسان بمُلك الإله، كما ينادي بتجنيد الجماهير ضد الليبرالية والديموقراطية. 

وباعتباره قائداً للحزب المحافظ، كان ستاهل مسئولاً عن صياغة برنامجه السياسي الذي يُسمَّى برنامـج تيفولي، والـذي كـان ينادي بعدم إعتاق اليهود. وكـان ستاهـل يؤكد دائمـاً أن اليهــودية متدنية أخلاقياً بالقياس إلى الفولك (الشعب العضوي) الألماني. وقد تأثر بسمارك والمؤرخ الألماني ترايتشكه بأفكار ستاهل الذي يعده بعض المؤرخين المُنظِّر الحقيقي للفكر المحافظ الرجعي الألماني. 

وُلد ستاهل ونشأ يهودياً أرثوذكسياً في مقاطعة كاثوليكية، وتَنصَّر ودخل الكنيسة اللوثرية البروسية وأصبح أحد قادتها ومن قادة الحزب المحافظ، وأخذ موقفاً معادياً تماماً لليهود لا من قبيل الانتهازية وإنما انطلاقاً من رؤية محافظة ساهم في صياغتها. ومع هذا، كان المعادون لليهود يشيرون إليه وإلى غيره من المفكرين من أصل يهودي بوصفهم يهوداً، الأمر الذي يُبيِّن مدى سذاجة مثل هذه التصنيفات ومدى عدم جدوى الإصرار على أن المفكر من أصل يهودي يظل بصورة حتمية يهودياً مهما تغيَّرت آراؤه ومواقفه وأفعاله. فمثل هذا الإصرار يؤدي إلى تكوين صورة عن المفكر لا علاقة لها ببنية فكره أو بمواقفه المتعيِّنة.

 وقد يكون من التعسف إنكار أن أصول المفكر اليهودية تترك أثرها في فكره، ولكن لا يمكن، بأية حال، رد فكره بقضه وقضيضه إلى أصوله اليهودية. 


فرديـنانــد لاســــال (1825-1864( 
Ferdinand Lassalle 
زعيم وفيلسوف اشتراكي ألماني يهودي. وُلد في براسلاو لتاجر ثري، وانضم إلى الحركة اليهودية الإصلاحية وأصبح من أشد المؤمنين بها. وقد درس لاسال في جامعتي براسلاو وبرلين، وتأثر بكتابات هيجل، وانضم لفترة قصيرة لحركة الشباب الهيجلي وعمل على استخدام اليهودية الإصلاحية لضرب اليهودية الأرثوذكسية. وخلال الفترة 1843 ـ 1845، طوَّر لاسال مفهومه حول الاشتراكية الديمـوقراطية والصنـاعية التي تسـتند إلى حكم القانون. وفي عام 1845، انتقل إلى باريس حيث التقى بالشاعر هايني، وتوطدت علاقتهما برغم خلافاتهما العميقة اللاحقة. وقد اشترك في ثورة 1848 أن رؤاهما تباعدت في كثير من الأمور، فتَبنَّى لاسال نهجاً إصلاحياً ونادى بحق الاقتراع العام وبالملكية الدستورية كما أيد القومية ورفض اعتبار الحركة القومية السلافية في روسيا معادية للثورة. 

وقد أسس لاسال عام 1863 الجمعية العامة للعمال الألمان والتي تطورت فيما بعد لتصبح الحزب الاشتراكي الديموقراطي الألماني. وكانت زعامته لهذه الجمعية ومعاداته للحركة الليبرالية أحد أسباب التقارب بينه وبين بسمارك الذي كان أيضاً معادياً للبيراليين. وقد أدَّت هذه العلاقة إلى اتهام لاسـال بخيانة الطبقة العاملة وبالانتهازية السياسيـة. 

وبرغم اهتمام لاسال في شبابه بالعقيدة اليهودية، وخصوصاً اليهودية الإصلاحية، إلا أنه رفضها فيما بعد واعتبرها مرحلة ضرورية في التطور الإنساني في الماضي، ولكنها لا تُعتبَر ذات قيمة أو نفع في الوقت الحاضر، وكان في رأيه هذا متأثراً بهيجل. كما أشار لاسال أنه لا يعتبر نفسه يهودياً، ولا يرى في اليهودية سوى البقايا الفاسدة لماض عظيم غابر، وأن اليهود بعد قرون من العبودية اكتسبوا خصائص العبيد. وقد لقي لاسال مصرعه في مبارزة دفاعاً عن شرفه حين رفضت أسرة خطيبته الكاثوليكية قبوله زوجاً لها بسبب أصوله اليهودية وماضيه الثوري. 


كورت إيسنر (1867-1919( 
Kurt Eisner 
زعيم اشتراكي ألماني يهودي ومؤسس الجمهورية البافارية وأول رئيس وزراء لها. وُلد في برلين لأب ثري يعمل بالتجارة، واشتغل في الصحافة فساهم في تحرير عدد من الصحف الألمانية. وأظهر كورت إيسنر اهتماماً شديداً بالفلسفة فدرس مع هرمان كوهين وله دراسة عن نيتشه. وفي عام 1910، أصدر جريدة نالت شعبية كبيرة. ومع اندلاع الحرب العالمية، عارض بشدة الأطماع الإمبريالية للحكومة الألمانية وسياستها الحربية. وفي عام 1918، حُوكم وسُجن بتهمة الخيانة بعد مشاركته في إضراب عمالي مطالباً بالسلام في ميونيخ، وقد أُفرج عنه بعد عدة أشهر فقام بترشيح نفسه عن الحزب الاشتراكي الديموقراطي المستقل في الانتخابات البرلمانية. وفي نوفمبر من العام نفسه، تَزعَّم كورت إيسنر الانتفاضة الثورية التي جرت في ميونيخ ثم اختير رئيساً لمجلس الوزراء في الجمهورية البافارية الجديدة. ولكي يفضح مسئولية الحكومة الألمانية عن الحرب، قام بالكشف عما جاء في تقارير الحكومة البافارية وسفارتها في برلين. وقد أدَّى ذلك إلى اتهامه من قبل أعدائه بالتـعاون مـع دول الحلفـاء وتَلقِّي الرشـاوى منهم لإشعال الثورة في ميونيخ. وفي عام 1919، اغتيل كورت إيسنر وهو في طريقه إلى البرلمان لكي يقدم استقالة حكومته بعد أن أحرز حزبه (الحزب الاشتراكي المستقل) نتائج ضعيفة في الانتخابات، وكان قاتله من أصل يهودي. ومما يُذكَر أن إيسنر نفسه كان ملحداً، أي يهـودياً غير يهودي. ومع هذا، استفادت الدعاية النازية المعادية لليهود من وجود إيسنر وغيره في صفوف الحركة الاشتراكية لتتحدث عن المؤامرة اليهودية ضد الشعب الألماني. 


بيـلا كـون (1886-1935) 
Bela Kun 
مؤسس الحزب الشيوعي المجري، وأحد أهم الزعماء الشيوعيين. وُلد لأسرة يهودية من الطبقة الوسطى إذ كان أبوه من صغار التجار، ولكنه كان علمانياً تماماً ولا علاقة له باليهودية. وانضم إلى الحزب الديموقراطي الاشتراكي وهو بعد في السادسة عشرة من عمره. فعمل صحفياً في جريدة الحزب وكاتباً في الحزب ومديراً في قسم التأمينات الخاص بالحزب ثم فُصل لسوء سلوكه. انضم للجيش وكان يعمل ضابطاً برتبة ملازم في جيوش الإمبراطورية النمساوية المجرية فأَسَرته القوات الروسية عام 1916. وحين نشبت الثورة، انضم إلى البلاشفة وأصبح تابعاً متحمساً للينين وقام بتجنيد الأسرى لصالح الحركة الثورية. 

عاد بيلا كون إلى المجر عام 1918وساهم في تأسيس الحزب الشيوعي المجري وجريدته وكتب العديد من الكتيبات الثورية، واشترك في الثورة التي أتت بالحزب الديموقراطي الاشتراكي وبالحزب الراديكالي للحكم. وقد حاول بيلا كون أن يطيح بالنظام الحاكم ولكنه سُجن في فبراير 1919. ثم أُفرج عنه في 21 مارس 1919 وهو اليوم نفسه الذي أُعلنت فيه المجر جمهورية سوفيتية، فعُيِّن قوميساراً للشئون الخارجية والعسكرية وأصبح القائد الحقيقي للوزارة والدولة. وكانت الوزارة (التي كان ثلثا أعضائها من اليهود) عبارة عن ائتلاف من الاشتراكيين والبلاشفة، فعمل بيلا كون على القضاء على العناصر المعتدلة وأعلن ديكتاتورية البروليتاريا، وأمم البنوك ورؤوس الأموال الكبيرة والملكيات الزراعية الكبيرة. وقد نجح بيلا كون في بادئ الأمر إذ كوَّن جيشاً شيوعياً أحمر قوياً صد هجوم التشيك والرومانيين واستعاد الأراضي المجرية التي كانت قد استولت عليها كلٌّ من تشيكوسلوفاكيا ورومانيا. ولكن الضربات بدأت تتوالى بعد ذلك، فامتنع الفلاحون عن تزويد المدن بالمحاصيل الزراعية بعدما رفض بيلا كون توزيع الأرض عليهم بعد أن أممها، وتحالف ملاك الأراضي والطبقة الوسطى ضد تأميم الملكية وضد الإجراءات الثورية المختلفة (مثل تقويض دعائم الثقافة القومية وإقامة محاكم ثورية) وضد سوء سلوك البيروقراطية الثورية. وعلى مستوى الجبهة الخارجية، طالبه كلمنصو بسحب قواته. وانهارت شبكة توزيع الطعام تماماً، ورفض الجيش أن يحارب ضد الرومانيين مما أدَّى إلى هزيمته، ففرَّ في أغسطس من العام نفسه إلى النمسا (حيث سُجن ووضع في مصحة عقلية بعض الوقت) ومنها ذهب إلى موسكو حيث عُيِّن قوميساراً سياسياً للجيش الأحمر في الجنوب، ثم عُيِّن قوميساراً مدنياً لشبه جزيرة القرم حيث تَعامَل بصرامة بالغة مع العناصر المعارضة للبلاشفة. وقد كان بيلا كون عضواً في المجلس التنفيذي للكومنترن حيث ساهم في تشجيع النشاط الشيوعي العلني في ألمانيا والنشاط السري في المجر. ويبدو أنه عارض في عام 1937 سياسة الجبهة المتحدة وطالب باتباع الطرق الثورية على طريقة البلاشفة الأصليين، فقُدِّم للمحاكمة واتُهم بالتروتسكية وسُجن، ويُقال إنه أُعدم (ولكن الأرجح أنه كان مصاباً بالسكر، فأُفرج عنه وعُزل عن الحياة العامة). ولبيلا كون مؤلفات عديدة عن الشيوعية، كما أنه كتب عدة مقالات أثناء إقامته في فيينا، وحرَّر إحدى المجلات الشيوعية أثناء إقامته في موسكو، وعُيِّن مديراً لإحدى دور النشر أثناء وجوده في موسكو. 

وبيلا كون ليست له أهمية تُذكَر من منظور يهودي، لأنه كما أسلفنا فَقَد انتماءه الديني والإثني (مثل كثيرين من يهود المجر) ـ فهو، إذن، يهودي غير يهودي. ولفهم سلوكه، لابد من فهم حركيات التاريخ الغربي والحركة الثورية فيها وكذلك موازين القوى بين الدول المختلفة وتطورات الفكر السياسي السوفيتي. أما يهوديته، فهي لا تمثل سوى دور ثانوي للغاية. وقد قدَّمنا سيرته هنا لا باعتباره يهودياً وإنما باعتباره نموذجاً متطرفاً لشخص يُصنَّف بوصفه يهودياً مع أن سلوكه لا يمكن تفسيره إلا بالعودة للحركيات الاجتماعية العامة. 


ماتياس راكوسي (1892-1971( 
Matyas Rakosi 
سياسي وزعيم مجري شيوعي يهودي درس في بودابست ثم اشتغل كاتباً في بنك. وعاش لفترة قصيرة في إنجلترا حيث انضم إلى الحركة الاشتراكية. وخلال الحرب العالمية الأولى، قاتل في صفوف الجيش النمساوي المجري ولكنه وقع في أسر القوات الروسية عام 1915وأمضى عاماً في معسكر لأسرى الحرب. 

وبعد اندلاع الثورة البلشفية انضم للحزب الشيوعي وعاد عام 1919 إلى المجر مع الحكم الجمهوري السوفيتي الجديد بها تحت قيادة بيلا كون. وبعد سقوطه في العام نفسه، هرب إلى الاتحاد السوفيتي. وفي عام 1924، عاد إلى المجر سراً لتنظيم وإحياء الحزب الشيوعي المحظور ولكنه وقع في أيدي السلطات وحُكم عليه بالإعدام. وكان لتَدخُّل بعض المفكرين الأوربيين البارزين لصالحه الفضل في تخفيف الحكم إلى السجن مدى الحياة. 

وفي عام 1940، تم الإفراج عنه وانتقل إلى موسكو حيث تَزعَّم المنفيين المجريين. وفي عام 1944، عاد إلى المجر حيث عمل على إعادة تنظيم الحزب الشيوعي المجري. كما تولى في الفترة ما بين عامي 1945 و1948 منصب نائب رئيس الحكومة الإئتلافية. وقد نجح خلال هذه الفترة في إخراج العناصر غير الشيوعية من الائتلاف الحاكم، وعمل بعد ذلك على إبعاد وإسكات جميع التيارات والاتجاهات المعارضة للحكم حتى بين صفوف الشـيوعيين. وقد تولى عام 1952 رئاسة الوزراء، وتَبنَّى سياسة ستالينية صارمة. وبعد وفاة ستالين، تعرض لانتقادات حادة من جانب القيادة السوفيتية الجديدة، خصوصاً بسبب فشل سياسته الاقتصادية، الأمر الذي دفعه للاستقالة عام 1953، ولكنه عاد مرة أخرى لرئاسة الوزراء عام 1955 واستمر في ذلك حتى عام 1956 حينما استـقال قبل اندلاع أحـداث الانتفاضة المجرية بفترة قصيرة. وقد اضطر راكوســي إلى الفرار مرة أخرى إلى الاتحــاد السـوفيتي في أعقــاب هذه الأحـداث ولم يَعُد إلى المجر حتى بعد قمع الانتفاضة إلا قبل وفاته بقليل. وقد طُرد من الحزب الشيوعي عام 1962. 

لم يُبد راكوسي أي اهتمام بالشئون اليهودية، بل وحاول إخفاء أصله اليهودي، كما أنه كان مناهضاً للصهيونية، وقدم الكثير من الصهاينة للمحاكمة، فهو إذن «يهودي غير يهودي» على حد تعبير إسحق دويتشر. وقد لعب هؤلاء اليهود غير اليهود دوراً كبيراً في نشر الشيوعية في شرق أوربا وفي حكوماتها الشيوعية بعد ذلك. وقد تأثر كثير من أعضاء الجماعة اليهودية في المجر تأثراً سلبياً من سياسات راكوسـي الاقتصـادية التــي أدَّت إلى تأمــيم المؤســسات التجــارية الخاصــة وإلى نقــل آلاف الســكان خارج العاصمة وغيرها من المدن الكبيرة. ولكنه، مع هذا، ظل يُصنَّف على أنه «يهودي». 

ادعــــاء اليهوديــــة 
Claiming Jewishness 
«ادعاء اليهودية» هو أن يدَّعي شخص غير يهودي، وليست له أية جذور يهودية على الإطلاق، أنه يهودي. والمصطلح نفسه ينطبق على يهودي مندمج تماماً (يهودي غير يهودي) نسي يهوديته، ولكنه تحت ظروف معيَّنة يدَّعي أنه يهودي. وهذه الظاهرة ظاهرة حديثة تماماً، فعبر التاريخ كان «التهوّد» يعني الانضمام لأقلية لها طقوسها وشعائرها ووظائفها التي تعزلها عن المجتمع، والتي لها وضع مختلف عن وضع الأغلبية، ولذا لم يكن هناك أي مبرر لادعاء اليهودية. 

وقد ظل الوضع كذلك إلى أن ظهرت الحركة الصهيونية وأُقيمت دولة إسرائيل التي فتحت أبوابها للمهاجرين (بخاصة من الدول الغربية) وقدَّمت لهم هي والحركة الصهيونية تسهيلات مادية وعينية مختلفة ومنحاً مالية مباشرة. وقد شجع هذا بعض العناصر اليهودية ممن فقدوا علاقاتهم باليهودية على إعادة اكتشاف هذه العلاقة حتى يمكنهم عن طريقها تحقيق المزايا المادية. ولكن الظاهرة ظلت هامشية إلى حدٍّ كبير. 

ومع هجرة اليهود السوفييت في بداية التسعينيات (والتي تزامنت مع تآكُل الاتحاد السوفيتي ثم سقوطه)، تفاقمت الظاهرة حتى أن كثيراً من «اليهود المتخفين»، أي المواطنين السوفييت من أصل يهودي، الذين سجلوا أنفسهم على أنهم غير يهود (وهو أمر كان يسمح به القانون السوفيتي)، بدأوا يؤكدون هويتهم اليهودية المزعومة، وانضمت لهم بأعداد متزايدة عناصر غير يهودية على الإطلاق (من بينها عناصر مسيحية بل ومسلمة). ويُقال إن ما بين نصف أو ثلث المهاجرين اليهود السوفييت في التسعينيات غير يهود (مدعو اليهودية أو زوجات وأزواج غير يهود). 

ولا يقتصر الأمر على الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، فمن المعروف أن عـدد اليهـود في مدينـة مكسـيكوسيتي كان يبلغ حوالي عشرة آلاف ثم قفـز إلى 35 ألفاً في عام واحد بعد أن بدأت بعض المنظمات اليهودية الأمريكية تقديم العون للجماعة اليهودية في المكسيك. 

وقد تكررت الظاهرة مرة أخرى في إثيوبيا، فالفلاشاه ليسوا يهوداً بالمعنى الحاخامي، ومع هذا سُمح لهم بالهجرة إلى إسرائيل. ثم بدأ الفلاشاه موراه بالمطالبة بالهجرة باعتبارهم يهوداً، مع أنهم فلاشاه تَنصَّروا منذ قرنين من الزمان. 

ويرى الإسرائيليون أن العبرانيين السود أو اليهود السود (من الولايات المتحدة) مدَّعو اليهودية. وفي الأعوام الأخيرة، بدأت الظاهرة تأخذ شكلاً حاداً إذ بدأ أفراد بعض القبائل في آسيا وأفريقيا يعلنون أنهم «يهود» (من نسل القبائل العبرانية العشر المفقودة) ومن ثم يحق لهم الهجرة إلى إسرائيل بمقتضى قانون العودة. وبعض هذه القبائل تُوجَد في شعائرها بالفعل عناصر عبرية أو يهودية، ولكنها لا تجعل عقيدتهم عقيدة يهودية (بأقصى المعايير تسامحاً بل ونسبية) ومن ثم لا يمكن تصنيف أعضائها على أنهم يهود. ولكن معظم أعضاء الجماعات اليهودية لا يعترفون بمعيارية اليهودية الحاخامية. وقد عرَّفت المحكمة الإسرائيلية العليا اليهودي بأنه من يرى نفسه كذلك. وهذا يخلق ورطة حقيقية للمُستوطَن الصهيوني. ولذلك، فقد تعالت الأصوات ولأول مرة في تاريخ الصهيونية مطالبة بإلغاء قانون العودة. 
أغيــار يتحــدثون العبريــة 
Heberw-Speaking Gentiles 
«أغيار يتحدثون العبرية» مصطلح صكه عالم الاجتماع الفرنسي (اليهودي) جورج فريدمان في كتابه موت الشعب اليهودي ويستخدمه للإشارة إلى جيل الصابرا الإسرائيلي، فهم من وجهة نظره يختلفون تماماً عن يهود العالم (يهود المنفى)، وهويتهم لا علاقة لها بما يُسمَّى «الهوية اليهودية». ولذا، فهم ليسوا يهوداً وإنما أغيار وحسب، حتى وإن كانوا يتحدثون العبرية. والمصطلح تعبير عن إشكالية الهوية أو الهويات اليهودية. 

أعضاء الجماعات اليهودية وقضيـة الهـوية القوميـة 
Members of Jewish Communities and the Issue of National Identity 
ما يُقال له «المسألة اليهودية» هو، في جانب أساسي منه، مشكلة «الهوية اليهودية» في التشكيل الحضاري الغربي. وتعود بجذورها إلى العصور الوسطى في الغرب إذ أن أعضاء الجماعات اليهودية لعبوا هناك دور الجماعة الوظيفية الوسيطة كتجار ومرابين، الأمر الذي أدَّى إلى عزلهم عن بقية أعضاء المجتمع. ومما دعم هذه العزلة، علاقات الجماعة الوظيفية اليهودية (في كل بلد أو مدينة أوربية) مع الجماعات الوظيفية اليهودية الأخرى في أنحاء العالم الغربي والإسلامي، وهي علاقات كانت تشكل ما يشبه النظام المصرفي والائتماني العالمي. وقد خلقت هذه العلاقات وهم الوحدة، بحيث كان المراقب الخارجي يتصور أن اليهود يشكلون وحدة قومية بسبب علاقاتهم التجارية والمالية، وَهْم في الواقع جماعات غير متجانسة تنتمي إلى تشكيلات حضارية مختلفة ويربطها رباط الوظيفة الاقتصادية والاجتماعية (وهذا ما سماه أبراهام ليون«الطبقة/الأمة»). ومن أسباب تدعيم العزلة، أيضاً، التصور المسيحي لهم باعتبارهم قتلة المسيح والشعب الشاهد (على عظمة الكنيسة وصدقها). وقد تَبدَّى كل هذا في شكل استيطان وتوطين اليهود في الجيتو. وهذه بالطبع صورة نموذجية مثالية تختلف كثيراً عن الواقع الحي الذي كان أكثر تماوجاً وتركيباً. 

وقد ظل هذا الوضع قائماً في أوربا، بصور مختلفة، حتى القرن السابع عشر، حين بدأت تظهر الطبقات البورجوازية المحلية (المسيحية) ثم الدول المطلقة ووريثتها الدولة القومية الحديثة التي بدأت تضطلع بكل وظائف الجماعات الوظيفية، وهو ما أدَّى إلى الاستغناء عنها، وانهيار الهيكل القانوني والسياسي الذي كان يجسد عملية الفصل بين الطبقات من ناحية، والجماعات الدينية والإثنية التي كانت تدار على أساسها الدولة في المجتمع التقليدي من الناحية الأخرى. وقد طالبت الدولة القومية الحديثة أعضاء الجماعات اليهودية وكل الأقليات بالتخلص من خصوصيتهم الدينية أو الإثنية أو العرْقية، وبأن يقوموا بإعادة تعريف هويتهم بشكل يتفق مع ما تتطلبه من ولاء قومي كامل من كل المواطنين، وحاولت تخليصهم من تمايزهم الوظيفي والاقتصادي. وهذه عملية يمكن أن نطلق عليها مصطلح «تحديث الهوية» أو «علمنة الهوية». وتتم هذه العملية وتكتمل حينما يتحول أعضاء الجماعة اليهودية من جماعة وظيفية وسيطة إلى أعضاء في الطبقة الوسطى، أو أيٍّ من الطبقات الأخرى في المجتمع. 

ومن منظور التحديث، يمكننا أن نقول إن هويتين يهوديتين أساسـيتين ظهرتا في التشـكيل الحضاري الغربي في القرن التاسـع عشر، أولاهما، الهوية اليهودية في مجتمعات غرب أوربا ووسطها، في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وفي ألمانيا بدرجة أقل، ثم في الولايات المتحدة، وهي مجتمعات تتسم بأنها لم تكن تضم أعداداً كبيرة من أعضاء الجماعات وبأن عملية التحديث نجحت فيها إلى حدٍّ كبير، وتم إعتاق أعضاء الجماعات وإعطاؤهم حقوقهم السياسية والمدنية، كما تم دمجهم في المجتمع اقتصادياً وثقافياً، حيث أصبح الاندماج هو المثل الأعلى. وقد نشأت، في هذا الإطار الاندماجي، اليهودية الإصلاحية التي فصلت الهوية الدينية عن الهوية القومية أو الإثنية تماماً، وعرَّفت الهوية اليهودية تعريفاً دينياً خالصاً. وقد أنجزت اليهودية الأرثوذكسية أمراً مماثلاً بأن جعلت هوية اليهودي مسألة دينية أساساً، وجعلت تحقيق الجانب القومي من العقيدة اليهودية مرتبطاً بالإرادة الإلهية، وهو كما تَقدَّم الحل التقليدي الذي طرحته اليهودية الحاخامية للإشكالية المشيحانية. وقد اندمج يهود هـذه المجتمعات اندماجاً كاملاً، وكانوا يتحدثون الفرنسية في فرنسا والإنجلـيزية في كـلٍّ من إنجلترا والولايات المتحـدة. والهـوية اليهـودية في ألمانيــا، وفي كثـير من بلاد وسـط أوربــا، تنتــمي إلى النمط نفســه رغــم اختلاف الظروف، ولا يمكن فهم هوية الجماعــات اليهـودية في هذه البلاد إلا في السياق الحضاري لكلٍّ منها. وبالتــدريج تراجـع البُعـد الديني مع تَصـاعُد معدلات العلمنة فأعيــد تعريف الهوية اليهودية على أساس إثني علماني ولكن البُعد اليهودي (الإثني والديني) ظل هامشياً للغاية. ولذلك، تأخذ التطلعـات القـومية اليهودية ليهود الغرب، إذا وُجدت، شكـل حنــين ديني للعـودة إلى صهيـون (الروحيــة) إن كـان اليهـود من المتدينين. أما إذا كانوا من العلمانيين، فإنها تأخذ شكل حماس عاطفي لهويتهم الإثنية، لا يترجم نفسه أبداً إلى هجرة استيطانية وإنما يأخذ شكل صهيونية توطينية، أي ينصرف إلى توطين اليهود الآخرين حتى يحموا مواقعهم الطبقية ومكانتهم الاجتماعية. وهذه هي هوية ما بعد الانعتاق أو الهوية اليهودية بعد تحديثها أو الهوية اليهودية الجديدة. 

أما الهوية اليهودية الثانية، فقد نشأت في مجتمعات شرق أوربا بين يهود اليديشية، خصوصاً في بولندا وروسيا. وهذه مجتمعات دخلت العصر الحديث متأخرة وسادت فيها (في القرن التاسع عشر) ظروف تشبه الظروف السائدة في العالم الثالث في الوقت الحاضر، إذ تعثَّر فيها التحديث لسنوات طويلة ابتداءً من عام 1882، كما أنها كانت تضم أعداداً ضخمة من أعضاء الجماعات اليهودية، بل معظم يهود العالم. وكان أعضاء الجماعات اليهودية في هذه المجتمعات يتحدثون اليديشية في محيط سلافي، ويؤمنون باليهودية في محيط مسيحي أرثوذكسي محافظ. كما أن روسيا كانت تأخذ شكل إمبراطورية مُكوَّنة من قوميات لكل منها لغتها وثقافتها. ولذا، لم يكن اليهود، كتَجمُّع له ثقافته ولغته، يمثل استثناءً كبيراً. وقد بُذلت محاولات، في نهاية القرن التاسع عشر، لصبغ اليهود، وغيرهم من الجماعات، بالصبغة الروسية أو البولندية. ولكن، مع تَعثُّر التحديث، توقفت هذه المحاولات. 

وداخل هذا الإطار، وفي هذه المرحلة (أواخر القرن التاسع عشر) طُرحت في شرق أوربا عدة تصورات للهوية اليهودية تستند إلى تجربة أعضاء الجماعات اليهودية في تلك المنطقة. فكان هناك التصور الاندماجي الذي يشبه تَصوُّر يهود الغرب للهوية. ولكن، كان هناك تصوران آخران هما اللذان قُدِّر لهما الشيوع في صفوف يهود شرق أوربا. 

أ) قومية الدياسبورا: 

حاول دعاة قومية الدياسبورا (سيمون دبنوف، وحزب البوند)، المتأثرون بتجربة يهود شرق أوربا وتراثهم، أن يعرِّفوا الهوية اليهودية تعريفاً ثقافياً أو تراثياً وحسب، بإسقاط الجانب الديني تماماً، إذ رأوا أن الهوية اليهودية هي أساساً انتماء إلى التراث الثقافي اليهودي. كما لم يربطوا هذا التراث بفلسطين أو بأي مركز محدَّد آخر، فهم يرون أن مركز اليهودية الثقافي ينتقل من بلد إلى آخر. كما أنهم يرفضون أي إطار عالمي لليهودية، ولا يعترفون بوجود ثقافة يهودية عالمية، ويرون أن كل جماعة يهودية مرتبطة بحركيات تاريخية مختلفة ولها هوية مختلفة وتراث يهودي مختلف، ولذا فإن كل جماعة تبحث عن حلول لمسألتها داخل حدود تاريخها الخاص والمتعيِّن وخارج أية رؤية تاريخية عالمية. ولهذا، يمكن القول بأنهم لا يتحدثون في واقع الأمر عن «قومية الديسبورا» (كما يتوهمون)، وإنما عن هوية يهودية شرق أوربية (يديشية) متفاعلة مع التشــكيل الحضاري الذي تُوجَد فيه. وانطـلاقاً من تلك الرؤية، يرى دعاة قومية الدياسبورا أن اللغة التي تُعبِّر عن هذه الهوية اليهودية ليست العبرية (اللغة الدينية العالمية لليهود)، وإنما اليديشية. وحينما استأنفت الثورة البلشفية عملية التحديث في روسيا، ناصبت حزب البوند العداء لأسباب سياسية في البداية، كما رفضت تَصوُّره للهوية اليهودية المحدودة الشرق أوربية، ولكنها عادت في الثلاثينيات واعترفت بها وبلغتها المستقلة وبشخصيتها الثقافية المستقلة التي يمكن أن تتحقق داخل الإطار السوفيتي. وانطلاقاً من ذلك، حددت مقاطعة بيروبيجان، كمقاطعة مستقلة، لغتها الرسمية اليديشية. وكان بإمكان هذه المقاطعة، من الناحية النظرية، أن تتحوَّل إلى جمهورية مستقلة (داخل اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية) لو هاجر إليها عدد كاف من اليهود. وقد ظلت الهوية اليديشية مزدهرة في الفجوة الزمنية بين تَعثُّر التحديث واستئنافه في الاتحاد السوفيتي وبين هجرة يهود شرق أوربا إلى الولايات المتحدة واندماجهم فيها، وهي تقع على وجه التقريب بين بداية القرن الحالي وأواخر الأربعينيات. ولكن مع تَصاعُد معدلات التحديث والعلمنة بدأت الهوية اليديشية في التآكل السريع، وساهم النازيون في القضاء على البقية الباقية من هذه الهوية، ومع الستينيات لم يَعُد للهوية اليديشية من أثر في العالم. 

ب) الحل الصهيوني: 

حاول الصهاينة العلمانيون، أو اللادينيون، إعادة تعريف الهوية اليهودية تعريفاً يؤكد الجانب القومي ولا يُعنى بالجانب الديني إلا بمقدار تعبيره عما يُسمَّى «القومية اليهودية». وقد أسس هؤلاء مجتمعهم الصهيوني استناداً إلى هذه الرؤية. ومع هذا، ظهرت داخل الحركة الصهيونية جماعات من الصهاينة المتدينين الذين يرون أن الدين اليهودي والقومية اليهودية هما شيء واحد، وأن الهوية اليهودية هويةٌ قومية دينية، الأمر الذي أدَّى إلى تصعيد التفجرات داخل الكيان الصهيوني. 


التعاريف الصهيونيـة للـهـويات اليهوديـة 
Zionist Definitions of Jewish Identities 
تُعَدُّ الصهيونية، في أحد جوانبها، محاولة لإعادة تعريف اليهود تعريفاً يتفق مع وضعهم الجديد في الغرب بعد ظهور الدولة القومية العلمانية وعصر الإعتاق وسقوط الجيتو. وهي، من هذا المنظور، واحدة من كثير من المحاولات اليهودية الأخرى، مثل: اليهودية الإصلاحية، واليهودية الأرثوذكسية، وقومية الدياسبورا. وينطلق الصهاينة اللادينيون من تعريف للهوية هو في جوهره علمنة لكثير من الأفكار القومية الكامنة في التراث الديني اليهودي. فهم يرون أن ثمة هوية قومية يهودية واحدة متميزة متجانسة تفرق بين اليهود وسواهم من أقوام وشعوب في كل زمان ومكان، وأن ثمة مصدرين لها. أما المصدر الأول، فهو الضغوط من الخارج، أي أن مصدر الهوية اليهودية ليس من داخل اليهودية ذاتها وإنما هو مجرد رد فعل لهجمات أعداء اليهود عليهم، باعتبار أن اليهود جسم قومي غريب في أوطان الآخرين. ومن جهة أخرى يرى بعض الصهاينة المتأثرين بالخطاب الاشتراكي أن مصدر الهوية اليهودية هو الوضع الطبقي المتميِّز لليهود في المجتمع الغربي كجماعة وظيفية وسيطة. واليهودي، بحسب الرؤية السابقة، يكتسب هويته من الغير، وهو تعريف أخذ به معظم الصهاينة الأوائل مثل: تيودور هرتزل، وماكس نوردو، وأهارون جوردون، وغيرهم. ويبدو أن هذا كان الاتجاه السائد في أوربا. فعلى سبيل المثال، صرح كارل ليوجر (المرشح المعادي لليهود لمنصب عمدة فيينا) بأنه هو الذي يحدد من هو اليهودي. 

لكن معظم الاتجاهات الصهيونية لا تأخذ بهذا الرأي الآن، وتطرح تصوراً للهوية اليهودية على اعتبار أنها شيء نابع من مصدر آخر هو حركيات ما يُسمَّى «التاريخ اليهودي» المرتبط بفلسطين (إرتس يسرائيل في الخطاب الديني). وهذا المجال الزماني المكاني هو المجال الوحيد الذي تستطيع فيه هذه الهوية أن تُعبِّر عن نفسها تعبيراً كاملاً، مثلما حدث تحت حكم المملكة العبرانية المتحدة (أو الكومنولث الأول) وحكم الدولة الحشمونية (أو الكومنولث الثاني)، إلى أن تم هدم الهيكل. 

ويرى الصهاينة أن هويات يهود المنفى المندمجين ليست إلا انحرافاً عن مسار هذا التاريخ. ولذا، فهم ينطلقون في تعريفهم الهوية اليهودية « الحقة » من انتقاد جذري لهذه الهويات، مستخدمين كثيراً من أطروحات أدبيات معاداة اليهود. فاليهود المندمجون شخصيات مريضة مصابة بالازدواج والانقسام، مشوهة وهامشية، وهم يحاولون إخفاء هويتهم اليهودية الحقة المتأصلة ويبذلون قصارى جهدهم في إظهار هويتهم غير اليهودية المُكتسَبة والإعلان عنها بشكل مُقزِّز، الأمر الذي يجعلهم يشبهون القردة التي تقلد ما لا تعي. وستُلغَى كل هذه الأوضاع الشاذة حالما يؤسس الصهاينة وطناً قومياً تتمكن الشخصية اليهودية من خلاله التعبير عن نفسها بشكل سوي تعبيراً كاملاً، بحيث يصبح اليهود شعباً مثل كل الشعوب. وسيحقق اليهود من خلال الدولة، وبوصفهم شعباً، ما فشلوا في تحقيقه بوصفهم أعضاء في مجتمعاتهم. وهذا ما يُسمَّى في المصطلح الصهيوني «تطبيع الشخصية اليهودية». وبحسب الرؤية الصهيونية، فقد بدأت هذه العملية بالفعل في عام 1948ـ عام إعلان الدولة الصهيونية (الكومنولث الثالث). لكن تطبيع اليهود لا يعني تصفية الهوية اليهودية وإنما يعني منحهم هوية يهودية جديدة سوية؛ هوية اليهودي الخالص (اليهودي مائة بالمائة على حد قول بن جوريون). وقد طُرحت تصورات عدة لمصدر يهودية هذا اليهودي الخالص ولسماته وجوهره: 

1 ـ التعريف العرْقي: 

يُصُّر المدافعون عن هذا التعريف على رؤية اليهود كعنصر عرْقي متمـيِّز، ولذا فهم يتحـدثون عن «الجنس اليهودي» وعن اليهود باعتبارهم « جنساً متميِّزاً ». وقد عرَّف كثير من الزعماء الصهاينة اليهودية بأنها « مسألة تتعلق بالدم». وانطلاقاً من ذلك، يرى الصهاينة أن التزاوج مع الأجانب سيؤدي إلى تدهور العرْق اليهودي، وأنه لابد من تأسيس وطن قومي (لهذا الجنس الفريد) ودولة مستقلة يُعبِّر فيها عن عبقريته ويمارس فيها إرادته. ولكن تم التخلي عن هذا التعريف تماماً في هذه الأيام، إذ أن النظريات العرْقية لم تَعُد مقبولة في الغرب، خصوصاً بعد أن نجح هتلر في تدمير أعداد كبيرة من اليهود باسم هذه النظريات والاعتذاريات. 

2 ـ التعريف الإثني أو التراثي: 

يرى فريق من الصهاينة أن اليهود جماعة مترابطة ذات تاريخ مُشترَك منفصل ومحدَّد، وأن ثمة روابط تراثية (وليست عرْقية) فريدة بقيت على مدى قرابة أربعة آلاف سنة بين اليهود، وأن ثمة تماثلاً في أوضاع اليهود الإثنية والتاريخية، والمختلفة من بلد إلى بلد. وهم يرون أن ما حفظ وحدة اليهود هو الدين اليهودي، لا من حيث هو عقيدة وإنما من حيث هو إطار رمزي وبُعد أساسي من أبعاد التراث اليهودي. فالدين هو الوعاء الوحيد الذي ضمن الاستمرار والتجانس الإثني. وبناءً عليه، تكون الدولة الصهيونية هي الإطار الأمثل لكي تُعبِّر هذه الإثنية عن نفسـها. 

3 ـ التعريف الديني: 

لم يقبل الصهاينة الدينيون التعاريف اللادينية السابقة، وحاولوا استرجاع قداسة الهوية اليهودية. وهكذا، فهم يرون أن هوية اليهود القومية مصدرها الدين، إذ لا يمكن التفرقة بين القومية اليهودية والعقيدة اليهودية. فاليهود أمة مقدَّسة وكيان منعزل غريب مقدَّس يكتسب هويته من علاقته الخاصة مع الرب، ومن رسالته الخالدة بين الشعوب الأخرى. والتعريف الديني لا يستبعد العنصر الإثني، فالهوية اليهودية (بحسب تعريف الشريعة كما تقدَّم) ذات أساس ديني إثني. كما أن الهوية اليهودية (كما يُعرِّفها الصهاينة المتدينون) لا تحمل معها أية أعباء أخلاقية، بل تمنح اليهود حقوقهم القومية كاملة دون أية مسئولية تجاه الأغيار. ولذا، لا يوجد أي تناقض جوهري بين التعريف الإثني اللاديني والتعريف الإثني الديني. ومع هذا، يظل مصدر الشرعية في كلا التعريفين مختلفاً، فمصدر الشرعية والقداسة في القول الصهيوني العلماني هو الشعب اليهودي ذاته. أما في القول الديني، فإن مصدر الشرعية هو الحلول الإلهي في هذا الشعب. وحينما يتحدث المتدينون عن اليهودي، فإنهم يستخدمون، كما هو مُتوقَّع، معياراً أرثوذكسياً. 

والتعريف السائد الآن في المُستوطَن الصهيوني هو التعريف الصهيوني اللاديني الإثني بالدرجة الأولى، ويليه التعريف الصهيوني الديني الإثني. ومن الملاحَظ أن التعريف الديني أخذ في الشيوع والانتشار منذ نهاية الستينيات. كما أن الصراع بين التيارين يفجر قضية الهوية التي يُشار إليها بسؤال «من هو اليهودي»؟. 

ومن الضروري أن نتنبه إلى أن مقولة الهوية اليهودية في السياق الصهيوني الاستيطاني ليست مجرد مقولة نفسية أو فلسفية أو دينية، فهي مقولـة قانونية تحمل مضموناً سـياسياً واقتصـادياً محـدَّداً. فلليهودي، في الدولة الصهيونية، مزايا وحقوق معينة لا يتمتع بها غير اليهودي. كما أن ثمة وكالات ومؤسسات صهيونية عديدة يمولها يهود الخارج وتُعدُّ الترجمة الفعلية والمؤسسية لمقولة اليهودي هذه، فهي مؤسسات تمد يد المساعدة لليهود وحسب، وتحجبها عن غير اليهود. وأهم هذه المؤسسات الصندوق القومي اليهودي الذي يمتلك معظم أراضي فلسطين المحتلة باسم الشعب اليهودي، والذي تُحرِّم قوانينه بيع هذه الأراضي أو تأجيرها لغير اليهود، أو حتى استخدامهم للعمل فيها. وبذلك يمكننا أن نقول إن التعريف الصهيوني للهوية اليهودية هو الأساس النظري للممارسات الصهيونية العنصرية ضد العرب، بل إن عمليات ضم الأراضي تتم باسم هذه الهوية. وبالفعل، حذَّر الحاخام آرون سولوفاشيك (زعيم اليهودية الأرثوذكسية في الولايات المتحدة) من أن قبول التعريف العلماني لليهودي سيقوي عناصر الضغط على إسرائيل لأن تتنازل عن الأراضي المحتلة وعن أجزاء من القدس وحائط المبكى، حيث إنها ضمتها باسم الهوية اليهودية وباسم الحقوق التي يتمتع بها اليهود. 


الهويات اليهودية والتناقض بين الرؤية الصهيونيــة والممارسـة الإسرائيلية 
Jewish Identities and the Contradiction Between the Zionist Outlook and Israeli Practice 
كانت كل جماعة يهودية تمارس تجربتها التاريخية والدينية بمعزل عن الجماعات الأخرى، وكانت كل منها تُطوِّر هويتها الدينية والإثنية من خلال التشكيل الحضاري الذي تُوجَد فيه وتتعامل معه وتُسمِّي نفسها «يهودية»، وذلك دون البحث عن خاصية جوهرية ما تربط كل أعضاء الجماعات معاً، ودون الحاجة إلى تعريف دقيق وعالمي وشامل لليهودي. 

وكان الصهاينة اللادينيون، حتى عام 1948، يتحدثون بحرية شديدة عن «الشعب اليهودي الواحد» (بالألمانية: أين فولك Ein Volk)، وبالتالي عن «الهوية اليهودية الواحدة» و«القومية اليهودية». كما كان الصهاينة المتدينون قانعين بدورهم الثانوي في الحركة الصهيونية، ولكنهم كانوا يتحينون الفرصة ليفرضوا تعريفهم القومي الديني الأرثوذكسي. وقد تم إعلان قيام الدولة الصهيونية لا باعتبارها دولة مستقلة وحسب، وإنما باعتبارها دولة يهودية ليست مقصورة على مواطنيها، فهي أيضاً دولة الشعب اليهودي بأسره داخل فلسطين وخارجها. وترى هذه الدولة أن مصدر شرعية وجودها هو يهوديتها، ومن هنا محورية تعريف الهوية اليهودية، ومن هنا أيضاً حتمية ظهور التناقضات الكامنة. 

وقد أصدرت الدولة الصهيونية عدة قوانين تعطي حقوقاً لصاحب الهوية اليهودية. وكان أول هذه القوانين قانون العودة (عام 1950) الذي يعطي لأي يهودي الحق، أينما كان، في الهجرة إلى إسرائيل (فلسطين المحتلة)، والاستيطان فيها. ثم صدر عام 1952 قانون تكميلي هو قانون المُواطَنة الإسرائيلية، والذي يمنح الجنسية الإسرائيلية لكل المهاجرين اليهود. ولكن كلا القانونين لم يُعرِّف من هو اليهودي، وتُركت القضية معلقة. وقانون العودة ليس القانون الوحيد الذي يتطلب تعريف اليهودي، إذ تتم الإشارة إلى اليهودي في الدولة الصهيونية في سياقين آخرين. فقانون تسجيل المواطنين يتعرض لهذه القضية إذ تتضمن الهوية في إسرائيل البنود المعتادة مثل الجنسية (إسرائيلي)، والديانة (يهودي أو مسلم أو مسيحي)، ولكن هناك بنداً ثالثاً خاصاً بالقومية (عربي بالنسبة للعرب المسلمين والمسيحيين ويهودي بالنسبة للإسرائيليين اليهود). ولابد أن يتفق البندان الخاصّان بالديانة والقومية في حالة الإسرائيليين اليهود باعتبار أن الصهيونية في أحد تعاريفها للهوية تُوحِّد بينهما. 

أما السياق الثالث الذي تتم الإشارة فيه إلى اليهودي، فهو المحاكم الحاخامية التي تمارس السلطة المُطلَقـة في أمور الزواج والطلاق. والتعريف الذي تأخذ به هذه المحاكم هو التعريف الديني القومي (الأرثوذكسي) وحسب، وهو يستبعد أي تعريف آخر. ويمكننا أن نتحدث عن عدة تناقضات أساسية، واجهها الصهاينة في محاولتهم تطبيق المُثُل الصهيونية، ولكنهم فضلوا إرجاءها وعدم التعرض لها: 

1 ـ التناقض بين الدينيين واللادينيين: 

التعريف الديني الأرثوذكسي لليهودي أمر معروف أقرته الشريعة اليهودية الحاخامية. أما التعريف القومي (غير الديني)، فهو مسألة غامضة للغاية، إذ أن من الصعب تعريف هذه الخاصية القومية الفريدة التي تُميِّز هذا الحشد الهائل من الجماعات اليهودية التي تتمتع بهويات متعددة. ومن الصعب كذلك، بل وربما من المستحيل، تعريف اليهودي الملحد أو اليهودي الإثني، أو اليهودي غير اليهودي. وفي نهاية الأمر، تصبح المسألة مسألة إحساس داخلي غامض يمارسه اليهودي بوجود هذه الخاصية اليهودية داخله. ولذلك، يشير بعض المعلقين إلى التعريف الديني بأنه تعريف موضوعي، أي يستند إلى مقاييس خارجة عن الذات ويمكن الاحتكام إليها. أما التعريف العلماني، فهو تعريف ذاتي يستند إلى حالة شعورية تتفاوت في حدتها وعمقها من شخص إلى آخر. وبالفعل، تُعرِّف الأوساط العلمانية اليهودي بأنه من يشعر في قرارة نفسه بأنه يهودي ويعلن ذلك بإخلاص دون الحاجة إلى قرائن خارجية، وهو تعريف يخلق من المشاكل أكثر مما يحلّ. 

ولإيضاح هذه النقطة، يمكن أن نشير إلى العاهرات وتجا�



الباب الرابع: اليهود والجـماعات اليهودية


اليهـود : مشكلـة التعريــف 
The Jews: The Problem of Definition 
كلمة «يهودي» هي من أكثر الدوال إشكالية رغم بساطتها، فكلمة «يهودي» يمكن أن تُستخدَم للإشارة إلى العبرانيين القدامى باعتبارهم جماعة عرْقية أو إثنية (قوم) أو باعتبارهم جماعة دينية (شعب مختار). ثم تُستخدَم الكلمة للإشارة إلى اليهود الحاخاميين والقرّائين والسامريين ويهود الصين وإثيوبيا. 

ويُشار إلى اليهود باعتبارهم شعباً مقدَّساً في التراثين الدينيين المسيحي واليهودي. وبعد ظهور العلمانية، أصبحوا شعباً عضوياً يُشار إليهم بوصفهم «الشعب اليهودي» أو بالمعنى اللاديني مجرد «اليهود» (بالإنجليزية: جوري Jewry ). ويُشار إلى السفارد والإشكناز والصابرا ويهود الولايات المتحدة على أنهم «يهود». وتزداد الأمور اختلاطاً حينما يُستخدَم الدال «يهودي» للإشارة إلى يهود العالم وإلى صهاينة العالم والمستوطنين الصهاينة في إسرائيل. ولعل المصدر الأساسي لهذا الخلط هو التراث الإنجيلي الذي يتحدث دائماً عن اليهود ككل باعتبارهم «الشعب»، وهي طريقة للرؤية ورثها العالم الغربي ككل.ولذا، نجد أن المحايدين العلميين والمعادين لليهود والصهاينة المتحيزين كلهم يتحدثون عن اليهود ككل. 

وغني عن القول إن استخدام الدال «يهودي» بهذه الطريقة يجعله عديم الفائدة، إذ يشير إلى حقل دلالي متضارب ومدلولات مختلفة. وسنحاول في مداخل هذا المجلد أن نحدد الحقل الدلالي لبعض المصطلحات السائدة وأن نقترح مصطلحات جديدة لتحل محل مصطلح «يهودي». 

اليهود بوصفهم كُلاًّ متماسكاً 
Jewry 
«اليهود بوصفهم كُلاًّ متماسكاً» هي ترجمتنا للكلمة الإنجليزية «جوري »Jewry»، والتي كانت تُستخدَم أصلاً للإشارة إلى الجيتو أو الشارع أو الحي الذي يسكنه اليهود. وهي تشير إلى اليهود من حيث هم كُلٌّ متماسك لا من حيث هم جماعات شتى لكل منها انتماؤها العرْقي أو الإثني أو الحضاري وتضم في صفوفها أعضاءً يهوداً لكلٍّ طموحاته وتصوراته الخاصة به. والكلمة تفترض أن هناك علاقة عضوية بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، وأنهم يخضعون للحركيات نفسها التاريخية التي تَجبُّ الانتماءات المختلفة والتناقضات الكامنة والظاهرة. وتُوجَد كلمات مماثلة في اللغات الأوربية الأخرى، مثل جويفيري Juiverie الفرنسية، وجويديتشا Guidecca الإيطالية. 
ويحبذ الصهاينة استخدام هذا المصطلح لأنه يُعبِّر عن رؤيتهم ونموذجهم التفسيري. وهذا المصطلح لا يختلف كثيراً في تضميناته عن مصطلحات مثل «الشعب اليهودي» أو «الشعب العضوي»، فهي جميعاً تشير إلى كلٍّ عضوي متماسك. 

الشــعب اليهـودي 
The Jewish People 
«الشعب اليهودي» عبارة تفترض أن اليهود شعب بالمعنى القومي أو العرْقي للكلمة، كما تفترض أن لديهم قوميتهم اليهودية المستقلة. ويستطيع القارئ أن يعود إلى مدخل «القومية اليهودية» و«الجماعات اليهودية». 

الشـــــعب 
The People 
«الشعب» كلمة تتواتر في الأدبيات الدينية اليهودية والمسيحية وفي الدراسات الدنيوية أيضاً. ويختلف معنى الكلمة في السياق الديني عنه في السياق الدنيوي والتاريخي. فهي في السياق الديني تعني «جماعة دينية» ترتبط بميثاق بينها وبين الإله وتنتفي عنها صفة الشعب بعدم تنفيذها العهد. وهذا الشعب قد يرى نفسه شعباً مختاراً أو شعباً مقدَّساً أو أمة الروح أو الأمة المقدَّسة أو الشعب الأزلي أو المفضل على العالمين، ومن أسمائه «بنو يسرائيل» و«شعب يسرائيل». وترى الكنيسة المسيحية أن المسيحيين هم الشعب الحقيقي وأن اليهود قد تحولوا إلى مجرد «شعب شاهد». 

أما في السياق الدنيوي، فالأمر أكثر تركيباً، حيث يعني «الشعب» مجموعة القبائل العبرانية التي تسللت إلى كنعان ثم اتحدت في المملكة العبرانية المتحدة ثم انفكت إلى مملكتين: المملكة الشمالية والمملكة الجنوبية. وقد اعتبره اليونانيون والرومان «إثنوس» أي قوماً يترأسهم رئيس القوم (إثنآرخ)، ثم تحولوا إلى جماعات يهودية مختلفة منتشرة. وفي العصر الحديث، عاد الحديث بين الصهاينة عن «الشعب اليهودي» أو «الشعب العضوي (فولك)». وقد قمنا بوضع مصطلح «الشعب العضوي المنبوذ» لوصف رؤية العالم الغربي للجماعات اليهودية. 
الجماعــات اليهوديــة 
Jewish Communities 
«الجماعات اليهودية» مصطلح نستخدمه في هذه الموسوعة بدلاً من مصطلح «اليهود». ونحن نذهب إلى أن العبرانيين (والعبرانيين اليهود)، أي اليهود القدامى، كانوا يشكلون وحدة ثقافية وإثنية تتسم بقدر من التماسك والتجانس والوحدة. ولكن، مع انتشار اليهود في أرجاء العالم في مجتمعات مختلفة، لكلٍّ تقاليدها الحضارية والدينية، وتواريخها، تَفاعَل اليهود مع هذه التقاليد والتواريخ وخضعوا لمؤثراتها، شأنهم شـأن كل الأقليات والبشـر. وقد بدأت عملية الانتشـار مع التهجير البابلي، ولكن وتيرتها تصاعدت مع ظهور الحضارة الهيلينية والرومانية. وقد اكتملت عملية الانتشار والتَفرُّق مع هدم الهيكل في عام 70م على يد تيتوس، وكذلك سقوط العبادة القربانية المركزية وأية سلطة دينية مركزية يهودية. وقد تَحوَّل اليهود نتيجة هذه العملية إلى جماعات مختلفة متفرقة غير متجانسة. ونحن نفضل استخدام مصطلح «جماعات يهودية» على مصطلح «يهود» لأن المصطلح الأخير يؤكد التَماسُك والتَجانُس والوحدة حيث لا تَماسُك ولا تَجانُس ولا وحدة. 

وإذا حاول الدارس أن يدرس أعضاء الجماعات اليهودية في القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين كيهود وحسب فإنه سيحاول دون شك أن يرصد عناصر الوحدة بين هؤلاء اليهود. ومع أن هناك عناصر مشتركة قد تجمع بين هذه الجماعات، إلا أنها ليست في أهمية العناصر غير المشتركة من الناحية التفسيرية والتصنيفية. ولعل الاستعراض التاريخي الجغرافي للجماعات اليهودية يوضح هذه النقطة، فقد كانت الجماعات اليهودية في كل أنحاء العالم، في القرنين العاشر والحادي عشر، تُوجَد داخل عدة تشكيلات حضارية سياسية مستقلة وسمت كل جماعة بميسمها. وقد أصبح أعضاء الجماعات اليهودية في أوربا أقنان بلاط وتجاراً ومرابين داخل النظام الإقطاعي، بل وبدأوا يواجهون مشكلة ظهور طبقات تجارية ومالية محلية. أما يهود العالم الإسلامي فلم يتسموا بتَميُّز وظيفي حاد بل وشاركوا في الثورة التجارية التي ظهرت آنذاك، وكانوا من الناحية الثقافية جزءاً لا يتجزأ من محيطهم الحضاري كما هو واضح في العصر الذهبي في الأندلس. وقد كانت أعداد من يهود فارس (وربما الهند) قد بدأت تستقر في الصين لأسباب تتصل بالحضارة الصينية (وهو تَزايُد الحاجة إلى المنسوجات الحريرية). وكان يهود الخزر قد تبعثرت دولتهم بسبب صعود القوة السلافية الروسية وتَنصُّرها، ولكنهم كانوا يشاركون في تأسيس المجر. وكان يهود الفلاشاه قد أصبحوا جزءاً من التشكيل الحضاري الأفريقي في إثيوبيا، وكونوا قبيلتهم بل ومملكتهم وانخرطوا في الحروب القَبَلية المختلفة. ولا يمكن لإطار واحد أن يشمل كل هذه الظواهر. ولفهم سلوك هذه الجماعات وحركتها ومصيرها، لابد من العودة إلى التشكيلات الحضارية التاريخية التي كانوا يُوجَدون فيها، لا إلى جوهر يهودي يتجاوز الزمان والمكان ويشكل وحدتها الجوهرية أو إلى تاريخ يهودي يتطور حسب قوانينه الداخلية ويتطور اليهود في إطاره منعزلين عن تواريخ الجماعات التي يعيشون بين ظهرانيها. 

وقد ازداد عدم التجانس بين الجماعات اليهودية بعد القرن الحادي عشر على المستويين الديني والاجتماعي، حيث تَعمَّق التوحيد في النسق الديني اليهودي في العالم الإسلامي، بينما تَعمَّق العنصر الحلولي الكموني في اليهودية الغربية وظهرت عناصر الثنوية والشرك مع هيمنة التراث القبَّالي. بينما كان يهود العالم الإسلامي يزدادون اندماجاً وتَحضُّراً، كان يهود العالم الغربي يزدادون انعزالاً وتَخلُّفاً. ولكن، مع الصعود الاقتصادي للعالم الغربي بعد الثورة التجارية والصناعية والرأسمالية، نجد أن يهود الغرب مارسوا تحولاً عميقاً ولعبوا دوراً في هذه العملية التي لم تترك أي أثر في يهود الدولة العثمانية أو يهود كوشين في الهند على سبيل المثال. 

وفي العصر الحديث، نجد أن اليهود الأرثوذكس يُكفِّرون الإصلاحيين والمحافظين والتجديديين. ويوجد الآن فريق من اليهود المسيحيين الذين يؤمنون بالمسيح باعتباره الماشيَّح دون الاعتراف بألوهيته. كما أن غالبية يهود العالم إما ملحدون أو لاأدريون أو غير مكترثين بالدين. ويهود الفلاشاه لا يعرفون التلمود ويتعبدون بالجعزية، مع أن التلمود يُشكل العمود الفقري لليهودية الحاخامية (أي اليهودية الأرثوذكسية(. 

وكل جماعة يهودية لها مشاكلها الخاصة النابعة من وجودها داخل بناء تاريخي مستقل، فيهود الفلاشاه يواجهون مشكلة المجاعات التي تجتاح أفريقيا في الآونة الأخيرة كما بدأوا يواجهون مشكلة التحديث في إسرائيل. أما يهود اليمن، فهم يواجهون مشكلة عدم توافر المعلمين الدينيين والكتب الدينية بسبب انقطاع صلتهم بمراكز الدراسات الحاخامية في الغرب، كما يواجهون مشكلة أن اليمن بلد عربي في حالة صراع سياسي حاد مع دولة تُسمِّي نفسها «الدولة اليهودية». وهم يعانون أيضاً من التَدخُّل الدائم من المنظمة الصهيونية التي تحاول إنقاذهم شاءوا أم أبوا. واليهود القرّاءون في إسرائيل يواجهون مشكلة وجودهم في مجتمع تسيطر عليه المؤسسة الحاخامية التي لا يعترفون بها، وكذلك مشكلة تَزايُد معدلات العلمنة. أما القرّاءون في الاتحاد السوفيتي، فيواجهون مشاكل مختلفة. ومشاكل كلا الفريقين تختلف عن تلك التي يواجهها اليهود القرّاءون في مصر أو في الولايات المتحدة. واليهود السامريون في نابلس يواجهون مشاكل فريدة باعتبارهم أصغر أقلية دينية في العالم لا تزال محتفظة بعبادتها القربانية المرتبطة بجبل جريزيم. ومشاكل يهود جورجيا تختلف عن مشاكل يهود الكرمشاكي أو يهود أوكرانيا أو يهود بيروبيجان. ويواجه يهود الولايات المتحدة مشاكل من بينها الخوف من الاندماج (الهولوكوست الصامت) نتيجة تقبل المجتمع لهم ونجاحهم فيه. وهذا التقبل والنجاح يسبب لهم مشاكل مع السود، فالسود متركزون في المدن نفسها التي يوجد فيها اليهود وعادةً ما يشغلون «الجيتو» الذي كان يشغله المهاجرون اليهود قبل أن يحققوا الحراك الاجتماعي وينتقلوا إما إلى جيرة أفضل أو إلى الضواحي. فحي هارلم الشهير كان حياً يهودياً يجعل من « المالك اليهودي » ممثلاً للرأسمالية الأمريكية المستغلة أمام الأمريكيين السود، الأمر الذي يسبب كثيراً من المشاكل للجماعة اليهودية ككل. كما أن تَزايُد وعي السـود بأنفسـهم، وبقوتهم ورغبتهم في المشـاركة في السلطة، يجعل احتكاكهم باليهود أكثر حدة بسبب تَركُّز الجماعتين في الأماكن نفسها. ويواجه يهود هولندا مشكلة عدم الامتزاج بين الإشكناز والسفارد حتى أن كل طائفة لها مدارسها. وكلا الفريقين يواجه مشاكل ناجمة عن تَصاعُد معدلات العلمنة في هولندا. ويجابه أعضاء الجماعة اليهودية في فرنسا مشاكل الانقسام، فالمهاجرون اليهود من البـلاد العربية لا يتزوجون في كثير من الأحوال من يهود فرنسا الأصليين، وإن كانت هذه الظاهرة قد بدأت تقل. 

كما نجد أن الجماعات اليهودية لا تعترف أحياناً الواحدة بالأخرى. وتتضح هذه الظاهرة بحدة في أمريكا اللاتينية حيث حافظت كل جماعة يهودية على هويتها وبالتالي كان الصدام حاداً بين الجماعات، خصوصاً بين السفارد والإشكناز. وفي سويسرا، يجابه اليهود مشكلة أن الذبح الشرعي محظور منذ أمد طويل مع أن سويسرا هي مقر كثير من المنظمات اليهودية. وفي إنجلترا، يجابه الجيل اليهودي القديم مشكلة انصراف اليهود عن التعليم اليهودي والتقاليد اليهودية، فخمسة في المائة فقط من الأطفال اليهود يدخلون مدارس يهودية و75% يدرسون موضوعات اليهودية في مدارس الأحد و20% لا يتلقون أية ثقافة يهودية على الإطلاق. والواقع أن مشكلة التعليم و «الانتماء اليهودي» على وجه التحديد هي مشكلة تواجهها جميع الجماعات اليهودية في الغرب، وسببها ازدياد علمانية هذه المجتمعات وانتشار العقلية الاستهلاكية التي لا تهتم كثيراً بالتاريخ أو التراث أو الهوية. ومما يزيد المشكلة حدة أن الجيل الجديد يدخل طرفاً في زيجات مُختلَطة، الأمر الذي لابد أن يؤدي إلى تَناقُص عدد أعضاء الجماعة. كما أن أعضاء الأجيال الجديدة يحجمـون عن الزواج بشـكل عام، وإن تزوجـوا فهـم يُحجمون عن الإنجاب. ومن الملاحَظ أن متوسط أعمار اليهود في كثير من بلدان الغرب أعلى من متوسط العمر في هذه البلدان بسبب اختفاء العناصر الشابة. وكل هذا يهدد بموت الشعب اليهودي وهي مشكلة لا يعاني منها اليهود الشرقيون بعد.

إن مشاكل الجماعات اليهودية متنوعة ونابعة من وجودها في مجتمعات مختلفة ذات مستويات مختلفة من التقدم والتخلف. ولكن استخدام اصطلاح «يهود» على إطلاقه لن يساعد كثيراً على التحليل والتفسير. ومن هنا، فإننا نرى أن كلاًّ من العقيدة اليهودية والهوية اليهودية هما، في واقع الأمر، عقائد وهويات تأخذ شكل تركيب تراكمي جيولوجي يحوي داخله طبقات غير متجانسة تعيش بعضها فوق بعض. (وإذا ما أطلقنا على هذا اسم «يهود» و«يهودية» لكان في الأمر تعسف وليٌّ لعنق الواقع لا يساعدان كثيراً على فهم الظاهرة). ولذا، فنحن نشير إلى العقائد وإلى الجماعات اليهودية، بحيث تؤكد كلمة «جماعات» على استقلال كل جماعة وعلى خضوعها لحركيات تاريخية وحضارية مختلفة. 
كما أن لفظ «جماعة» أفضل من لفظ «طائفة» أو «أقلية». فلفظ «طائفة» يشير عادةً إلى طائفة دينية، بينما يؤكد لفظ «أقلية» الجانب الكمي للظاهرة. أما كلمة «جماعة»، فهي وإن كانت لا تؤكد الجانب الكمي (أي عدد اليهود كأقلية)، إلا أنها لا تستبعده تماماً. كما تتضمن فكرة أنها جزء من كل أكبر، كما أن كلمة «جماعة»، وهذا هو الأهم، تؤكد أن ثمة عناصر تُميِّز هذه المجموعة البشرية وأن هذه العناصر ليست دينية وحسب، فقد تكون حضارية أو ثقافية أو وظيفية. ونحن حين نستخدم اصطلاح «جماعة وظيفية»، فإننا نربط على مستوى المصطلح بين «الجماعـة اليهوديـة» و«الجماعـة الوظيفيـة». ومما يجدر ذكره أن العرب، في شبه جزيرة أيبريا، استخدموا لفظ «الجماعة» للإشارة إلى اليهود، وقد استبقاه المسيحيون من بعدهم. والمقدرة التفسيرية لمصطلح «الجماعة اليهودية» أعلى بكثير من مصطلح «اليهود» الذي يجعل الباحث يواجه اليهود ككتلة متماسكة لها قوانينها الخاصة المقصورة عليها ولها منطقها الداخلي. أما مصطلح «أعضاء الجماعات اليهودية»، فيؤكد عدم التجانس وعلى استقلال كل جماعة عن الأخرى، ويؤكد أن هذه الجماعات قد تكون خاضعة لقوانينها الخاصة ومنطقها الداخلي (من حيث هي يهودية) ولكنها مع ذلك خاضعة أيضاً لقانون أكبر ومنطق أشمل من حيث هي «جماعات» تشكل جزءاً من كل، فهو إذن مصطلح يعيِّن الظاهرة باعتبارها ظاهرة يهودية ولكنه لا يجعل هذا الأمر النقطة المرجعية الأساسية بل مجرد نقطة فرعية، إذ تظل الحقيقة الأساسية المرجعية أنها جماعة بشرية في مجتمع الأغلبية، وأنها جزء من كل تاريخي حضاري أكبر تستمد منه هويتها وتَرقَى حركيتها برقيه وتنحدر وتهوى بانحداره وسقوطه، شأنها في هذا شأن الجماعات المماثلة. 

ومن المفيد أن نؤكد أن مصطلحاً مثل «الجماعات اليهودية في مصر» قد يكون مضللاً رغم أنه يشير إلى يهود مصر، فلابد من تأكيد البُعد الزمني إلى جانب البُعد الجغرافي. والواقع أن يهود مصر، على سبيل المثال، يبدأ تاريخهم منذ أن كانوا في مصر عبيداً عبرانيين يتحدثون لغة المصريين القدماء أو ربما لغة أخرى لا نعرف ما هي (ثم حينما تسللوا إلى كنعان اكتسبوا لسان كنعان). وكانت حامية إلفنتاين العبرانية، في عهد الأسرة 26، تتحدث العبرية والآرامية، وتتعبد حسب صيغة وثنية يهودية إذ كانوا يعبدون يهوه وآلهة أخرى. ثم نجد أن يهود مصر راحوا يتأغرقون بعد ذلك ويتخذون من اليونانية لغةً لهم، كما اكتسبت عبادتهم بُعداً هيلينياً. وأخيراً، بعد الفتح الإسلامي، استعرب يهود مصر وأصبحت يهوديتهم أكثر توحيدية. وفي العصر الحديث، تم علمنتهم وتغريبهم. إن هذه الجماعات المختلفة إثنياً ودينياً يُطلَق عليها جميعاً «يهود مصر» كما لو كانت كُلاًّ واحداً مستمراً بلا انقطاع، مع أن من الواضح أن ثمة انقطاعات عديدة. 

ومن أكثر الأمثلة دراميةً وطرافة يهود القرم ويهود شبه جزيرة تامان المجاورة لها. ويعود تاريخ استقرار اليهود في هذا المكان إلى القرن الثاني قبل الميلاد، حينما استجلب مثراديتيس الأكبر مستوطنين يهوداً من آسيا الصغرى ووطنهم ذلك الجزء من مملكته (حول مضيق البوسفور). ومن المؤكد أنه، في القرن الأول الميلادي، كانت توجد مستوطنات من اليهود المتأغرقين في المملكة البوسفورية. ولذا، كانت شواهد قبورهم تُكتَب بكل من اليونانية والعبرية، كما كان الحال في مصر بعد تأغرقهم. وهناك وثائق تدل على وجود جماعة استيطانية قتالية من عَبَدة الإله الأعظم. وقد حطمت قبائل الهن هذه المملكة في عام 370 مما ساهم في نَزْع الصبغة الإغريقية عن الجماعة اليهودية. ثم غزت الإمبراطورية البيزنطية هذه المنطقة في القرن السادس، ولابد أن هوية اليهود في هذه المنطقة قد تَغيَّرت بتَغيُّر التشكيل الحضاري الذي ساد فيها. وفيما بعد، غزت قبائل الخَزَر شبه جزيرة القرم في منتصف القرن السابع، وهو ما أدَّى إلى دخولها في فلك إمبراطورية الخَزَر فتترَّك اليهود فيها وتهوَّدت النخبة الحاكمة. وبعد سقوط دولة الخَزَر، التي اختفى آخر أثر لها في القرم في القرن الحادي عشر، اكتسح التتار شبه الجزيرة عام 1227. وقد اندمج اليهود في التتار أيضاً وتَبنَّوا لغتهم وأزياءهم. وهؤلاء هم أسلاف يهود الكرمشاكي الذين انتقلت بقاياهم مؤخراً من الاتحاد السوفيتي إلى الولايات المتحدة. وتحت حكم التتار، بدأ القرّاءون يدخلون القرم. وقد قامت مدينة جنوة بتأسيس بعض مستعمرات تجارية على الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة في منتصف القرن الرابع عشر. ويبدو أن بعض أعضاء الجماعة اليهودية اكتسبوا الثقافة الإيطالية أو انضم إليهم يهود من إيطاليا. ونحن نعرف أن الجماعة اليهودية في تامان كان يرأسها (عام 1419) يهودي إيطالي يُدعَى سيمون دي جوبزولفي. 

ومع سقوط القسطنطينية عام 1543، أصبحت القرم تابعة للدولة العثمانية. ولابد أن هذا ترك أيضاً أثره الثقافي في اليهود. ثم ضمت روسيا القرم في عام 1783، وبدأت هجرة العناصر الإشكنازية، كما بدأ تحديث يهود القرم. 
ورغم كل هذه التحولات اللغوية والحضارية، يُشار لهم باسم «يهود القرم» بكل ما ينطوي عليه المصطلح من استمرار وتَجانُس وعدم انقطاع حيث لا استمرار ولا تَجانُس، وإن وُجدت عناصر استمرار فإنها لا تكون في أهمية عناصر الانقطاع وعدم الاستمرار. ولذا، نقترح أن نقول «يهود القرم في العصر الخزري» و«يهود مصر في العصر البطلمي» وهكذا. 
وأخيراً، يجب ملاحظة أن إحدى الدول قد تضم جماعة يهودية واحدة متجانسة حضارياً و تضم دولة أخرى عدة جماعات. فالجماعة اليهودية في إنجلترا، مثلاً، جماعة واحدة يتصف معظم أعضائها ببعض السمات الأساسية، وغالبيتهم الساحقة يتحدثون الإنجليزية. والأمر نفسه ينطبق على يهود الولايات المتحدة، حيث تُوجَد جماعة يهودية رئيسة يتحدث أعضاؤها الإنجليزية وجماعات أخرى صغيرة للغاية مهملة إحصائياً، خصوصاً أن أعضاءها في طريقهم إلى الاندماج والاختفاء. هذا على عكس يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، فقد كانت أغلبيتهم الساحقة من يهود اليديشية الإشكناز الذين اصطبغوا بالصبغة الروسية، ولكن كانت هناك جماعات أخرى (تُشكل حوالي 15%) لها هويات أخرى. والشيء نفسه ينطبق على أمريكا اللاتينية، فما نقوله عن الجماعة اليهودية في إنجلترا والولايات المتحدة، وكذلك ما يُقال عن الجماعات اليهودية في الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، يَصدُق على الجماعات اليهودية في أمريكا اللاتينية.

طائفــــــــــــــة 
Community; Taifa 
كان يُشار لكل جماعة يهودية بأنها «طائفة»، فكان يُشار إلى «طائفة اليهود» وإلى «الطائفتين» (القرّائين والحاخاميين) وإلى «رئيس الطائفة اليهودية». ويقوم بعض الدارسين العرب في الوقت الحاضر باستخدام هذا المصطلح. وقد آثرنا استخدام «جماعة» لأنه أكثر عمومية من طائفة، فكلمة «طائفة» مرتبطة بالتشكيل الحضاري والسياسي الإسلامي وكان المطلوب هو التوصل إلى مصطلح أكثر عمومية ليضم كلاًّ من طوائف اليهود في العالم الإسلامي والجماعات اليهودية في بقية العالم ومن هنا استقر اختيارنا على هذا المصطلح. هذا وقد استُخدم لفظ «الجماعة» للإشارة إلى الجماعة اليهودية في كلٍّ من إسبانيا الإسلامية وإسبانيا المسيحية. 

عـــبري 
Hebrew 
«عبري» هي أقدم التسميات التي تُطلَق على أعضاء الجماعات اليهودية، ويُقال أيضاً «عبراني»، وجمعها «عبرانيون». وهناك تسمية أخرى هي «بنو يسرائيل» أو «جماعة يسرائيل» أو «يسرائيلي»، ثم يأتي بعد ذلك لفظ «يهودي» للتعبير عن المسمى نفسه. 

والكلمة ذات معان ومدلولات عديدة، فيرى بعض الكُتَّاب أن الكلمة ترادف كلمة «عبيرو» التي ترد في المدونات المصرية، و«خابيرو» التي ترد في المدونات الأكادية. ولكن البعض الآخر يُشكك في هذا الاشتقاق باعتبار أن كلمة «عبري» صفة تدل على النسب أو الانتماء لوجود ياء النسب في آخرها، في حين أن كلمة «خابيرو» أو «حبيرو» لا تعني غير المُزامَلة والمرافقة . 

ومن الآراء المطروحة أيضاً أن كلمة «عبري» مشتقة من «العبور» من عبارة «عبر النهر»: « فهرب هو وكل ما كان له وقام وعبر النهر وجعل وجهه نحو جبل جلعاد » (تكوين 31/21). ويرى البعض أنه حين يقول الساميون « عــبر النهر » دون ذكر اسم هذا النهر فإنهم يعنون نهر الفرات، والإشارة هنا إلى عبور يعقوب الفرات هارباً من أصهاره. ويرى بعض الباحثين أن عبور يعقوب النهر هو أساس اسم العبرانيين، حيث ينتسبون إلى من قام بهذا العبور، أي يعقوب الذي سُمي «يسرائيل». 

وربما كان الاسم إشارة إلى جماعة قَبَلية إثنية كبيرة. ويظهر هذا الاستعمال في العلاقة بين المصطلح «عبري» واسم «عابر» حفيد سام (تكوين 10/24 ـ 25، 11/15 ـ 16) الذي تنتسب إليه مجموعة كبيرة من الأنساب. ولكن أول شخص يُشار إليه بأنه عبري هو إبراهيم (تكوين 14، 13) في سياق لا يدل على أن الإشارة إشارة إثنية، وإنما إشارة تدل على الوضع الاجتمـاعي باعتبـاره غريبـاً أو أجنبياً ليست له أية حقـوق. وتشير كلمة «عبري» في التوراة إلى العبرانيين أيضاً باعتبارهم غرباء. والعبري «غريب في منزلة الخادم» ويدل هذا على أن كلمة «عبري» هنا تشير إلى غير اليهودي في حكم التوراة، ويظهر هذا في الأحكام الخاصة بشراء عبد عبري (خروج 21/2(. 

وثمة رأي يذهب إلى أن العبرانيين كانوا غرباء في مصر مدة طويلة، وبالتالي ارتبط الاسم بهم، وتَحوَّل من صفة لوضع اجتماعي إلى وصف لجماعة إثنية. ولذا، فإن ثمة إشارات إلى يوسف على أنه غلام عبراني (تكوين 41/12)، أو رجل عبراني (تكوين 39/14). كما أن ثمة إشارة أيضاً إلى النساء العبرانيات (خروج 1/19). ورغم أن الإشارة ذات طابع إثني واضح، فإنها لم تفقد بعدها الاجتماعي تماماً. وفي سفر التكوين نجد إشارة إلى يوسف كعبد عبراني (39/18) وهي إشارة ذات دلالة تخلط العنصرين الإثني والطبقي. 

وترد كلمة «عبري» أحياناً مرادفة لكلمة «يهودي» على نحو ما جاء في سفر إرميا (34/9): « أن يُطلَق كل واحد عبده وكل واحد أَمته، العبراني والعبرانية، حُريَّن حتى لا يستعبدهما، أي أخويه اليهوديين، أحـد ». كما كانت الكلمة مـرادفة لكلمة «يسـرائيلي» (خـروج 9/1 ـ 4): « هكذا يقول الرب إله العبرانيين... ويميِّز الرب بين مواشي يسرائيل ومواشي المصريين ». وفي صمويل الأول (4/9)، يقول أحد الفلستيين: « تشددوا... وكونوا رجالاً لئلا تُستعبَدوا للعبرانيين » وهو يتحدث عن جماعة يسرائيل. 

ويُفضل بعض الصهاينة العلمانيين أن يستخدموا كلمة «عبري» أو «عبراني» على استخدام كلمة «يسرائيلي» أو «يهودي» باعتبار أن الكلمة تشير إلى العبرانيين قبل اعتناقهم اليهودية، أي أن مصطلح «عبري» يؤكد الجانب العرْقي على حساب الجانب الديني فيما يُسمَّى «القومية اليهودية». بل إن بعض أصحاب الاتجاهات الإصلاحية والاندماجية، في مرحلة من المراحل، كانوا يفضلون كلمة «عبري» على كلمة «يهودي» بسبب الإيحاءات القدحية للكلمة الأخيرة. وقد ظهرت في هذه الآونة كلية الاتحاد العبري Hebrew Union Collegeوجماعة هياس (وهي اختصار Hebrew Immigration Aid Society، أي الجمعية العبرية لمساعدة المهاجرين). كما أنهم في إسرائيل، يشيرون عادةً إلى اللغة العبرية والأدب العبري والصحافة العبرية، ولكننا نفضل استخدام «عبراني» للإشارة إلى اليهود القدامى من حيث هم تَجمُّع بشري حضاري ذو خصائص متميِّزة. أما لفظ «عبري»، فنقصر استخدامه على الناحية اللغوية والأدبية، كما نستخدم كلمة «جماعة يسرائيل» (أو «يسرائيلي») للإشارة إلى العبرانيين القدامى من حيث هم تَجمُّع ديني، تمييزاً لهم عن الصهاينة المستوطنين في فلسطين، وعن أبنائهم الذين يمكن أن نطلق عليهم مصطلح «إسرائيليين»، على أن تظل كلمة «يهودي» مصطلحاً يشير إلى المؤمنين باليهودية، بغض النظر عن انتمائهم العرْقي أو الإثني أو الحضاري، ويشير إلى كل من يطلق على نفسه هذه الصفة. 

ونحن في هذا لا نختلف كثيراً عن الاستعمال الشائع للكلمة. ويقول الدكتور ظاظا: « بعد العودة من بابل في القرن الخامس قبل الميلاد، اقتصر استخدام مصطلح «عبرانيين» على الإشارة إلى الرعيل الأول من اليهود حتى عصر التهجير البابلي، واستُخدمت كلمة «يهود» أو «يسرائيلي» للإشارة إلى الأجيال التي أتت بعد ذلك، والتي لم تَعُد تستخدم اللغة العبرية وإنما تتحدث الآرامية وتكتب بها ». 

ولعل الدقة الكاملة كانت تتطلب أن نستخدم اصطلاح «عبراني يهودي» للإشارة للعبرانيين في الفترة ما بعد العودة إلى بابل (538 ق.م) حتى سقوط الهيكل (70م)، فإبان هذه الفترة بدأت ملامح النسق الديني اليهودي كما نعرفه في التحدد مع بداية الفترة واكتملت مع نهايتها. ومع هذا، كانت العبادة القربانية المركزية لا تزال الإطار الديني المرجعي الأساسي للعبرانيين اليهود. ولكننا، مع هذا، نستخدم كلمة «يهودي» وحدها للإشارة إلى العبرانيين اليهود من قبيل التبسيط، وحتى لا يصبح هيكل المصطلحات مركباً لدرجة يصعب معها استخدامه. ويستطيع القارئ أن يعود إلى مدخل «الهويات اليهودية (تاريخ)». 

يســـــــرائيــل 
Israel; Yisrael 
«يسرائيل» كلمة عبرية قديمة غامضة المعنى، يمكن تقسيمها إلى «يسرا»، أي الذي يحترب أو يصارع، و« إيل» وهو الأصل السامي لكلمة «إلـه». والكلمة تعني حرفياً «الذي يصارع الإلـه» أو «جندي الإلـه إيل»، وفي كل التفسيرات معنيان أساسيان هما معنى الصراع والحرب ومعنى القداسة. 
ومما يجدر ذكره أن كلمة «يسرائيل» وردت في الكتابات المصرية في عهد مرنبتاح في عام 1230 ق.م بوصفها اسماً لإحدى المدن، أو ربما لبطن من بطون القبائل في جنوبي كنعان. ولعل هذا يدل على أن الكلمة كنعانية الأصل، وأنها كانت ذات ارتباطات مقدَّسة بين سكان المنطقة آنئذ. وهناك نظرية تذهب إلى أنها كانت اسم بطن من بطون القبائل العبرانية. 

وقد اكتسب يعقوب هذا الاسم بعد أن صارع الإله في حادثة غامضة لا يُفهَم مكنونها أو دلالتها « فبقي يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر. ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه. وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر. فقال لا أطلقك إن لم تباركني. فقال ما اسمك، فقال يعقوب. فقال لا يُدعَى اسمك فيما بعد يعقوب بل يسرائيل، لأنك جاهدت مع الإله والناس وقدرت. وسأل يعقوب وقال أخبرني باسمك. فقال لماذا تسأل عن اسمي، وباركه هناك » (تكوين 32/25 ـ 29). والقصة متأثرة بعناصر الملحمة الأكادية، حيث يكتسب البطل بصراعه المادي مع الإله صفات تجعله فوق البشر أو نصف إله، وتكسبه بانتصاره على الإله حق نصرة الإله له دائماً في علاقاته مع الآخرين. وهذا الصراع مع الإله يشبه وقائع مماثلة في الأساطير اليونانية. 
وكلمة «يسرائيل» تشير أيضاً إلى نسل يعقوب، ثم أصبحت تشير إلى المملكة الشمالية «يسرائيل» قبل التهجير الآشوري. ثم استُخدمت الكلمة للإشارة إلى سكان المملكة الجنوبية «يهودا» بعد سقوط مملكة يسرائيل إلى أن حلت كلمة «يهودي» محلها. 

وللكلمة في دلالتها الاصطلاحية معنيان أساسيان: فهي تعني اليهود بوصفهم شعباً مقدَّساً، وتعني فلسطين بوصفها أرضاً مقدَّسة. وهي ترد مضافة إلى كلمات أخرى، مثل: «عام يسرائيل» أي «شعب إسرائيل» و«بنو يسرائيل» أي «بنو إسرائيل»، و«بيت يسرائيل» أي «بيت إسرائيل». و«كنيست يسرائيل» أي «مجمع إسرائيل» أو «جماعة يسرائيل». وقد بُعثت كلمة «يسرائيلي» مرة أخرى، في عصر الانعتاق، في القرن التاسع عشر الميلادي، كما بعثت أيضاً كلمة «عبراني» لأن كلمة «يهودي» كانت تحمل إيحاءات سلبية. 

وفي العصر الحديث، تُستخدَم عبارة «مدينة إسرائيل» العبرية للإشارة إلى الدولة الصهيونية وكلمة «إسرائيليين» للإشارة إلى أعضاء التجمـع الاســتيطاني الصهيوني في فلسـطين. ولكننـا، إذا أردنا التفرقة، فمن المستحسن أن نطلق كلمة «إسرائيليين» على سكان التجمع الاسـتيطاني الصهيوني في فلسـطين وحدهم، وأن نسـمِّي اليهود القدامى، من حيث هم تَجمُّع بشري له خصائص إثنية مُتميِّزة، «عبرانيين» (ومفردها عبراني) وأن نسميهم «جماعة يسرائيل» (وأحياناً «اليسرائيليين») لنصفهم من حيث هم جماعة دينية، على أن تظل كلمة «يهودي» مصطلحاً يشير إلى كل من يعتنق اليهودية وهي العقيدة التي اكتسبت ملامحها الرئيسية في القرن الأول قبل الميلاد. مصطلح «عبري» فيَصلُح في الناحيتين اللغوية والأدبية وحسب. 

بنـو إسرائيل 
Banu Israel 
«بنو إسرائيل» عبارة ترد في القرآن الكريم (وفي كثير من الكتب الفقهية الإسلامية) للإشارة إلى اليهود. كما تُوجَد كلمات أخرى، مثل: «أهل الكتاب» و«الكتابيون» و«أهل الذمة» و«الذميون» لتشير إلى كل من اليهود والمسيحيين. وقد عُرِّف النطاق الدلالي لكلمة «بني إسرائيل» إسلامياً بشكل واضح ومحدد، فهي تشير إلى جماعة محددة الأوصاف يؤمن أصحابها بالإله والتوراة. ومن ثم، فإن هذا المصطلح لا ينطبق على غالبية يهود العالم في الوقت الحالي. لكن هؤلاء هم موضع الدراسة في هذه الموسوعة، ومن ثم فإننا لا نستخدم هذه العبارة. وترد عبارة «بني إسرائيل» للإشارة إلى الجماعة اليهودية التي تُوجَد في الهند وتحمل هذا الاسم. 

شــــعب يســــرائيل 
The People of Yisrael 
«شعب يسرائيل» هو أحد الأسماء التي تُطلَق على العبرانيين من حيث هم جماعة دينية قديمة تسبق تَبلوُّر اليهودية، وهو مرادف للكلمات «بني يسرائيل» و«اليسرائيليين»، وكذلك «كنيست يسرائيل» أي «جماعة يسرائيل». 

جماعة يسرائيل 
Israel; Yisrael 
»جماعة يسرائيل« مصطلح قمنا باشتقاقه من كلمة «يسرائيل»، وهي كلمة من المعجم الديني اليهودي وتعني »الذي يصارع الإله». ونحن نستخدم الكلمة لنشير إلى العبرانيين القدامى من حيث هم جماعة دينية مقابل العبرانيين القدامى كجماعة عرْقية أو إثنية. ومن ثم نشير إلى عقيدتهم باعتبارها «عبادة يسرائيل القربانية المركزية» لتمييزها عن اليهودية التي هي ثمرة تطورات مختلفة دخلت على هذه العبادة في بابل وبعد العودة منها وخلَّصتها من جوانبها الوثنية. كما نستخدم كلمة «يسرائيل» للإشارة إلى مملكة يسرائيل الشمالية العبرانية (مقابل مملكة يهودا الجنوبية) لتمييزها عن دولة إسرائيل الحديثة. أما المستوطنون اليهود من مواطني الدولة الصهيونية، فنحن نشير إليهم على أنهم إسرائيليون. 
ونحن نفعل ذلك حتى لا نخلط بين النسق الديني اليهودي والواقع الاستيطاني في فلسطين المحتلة، ولا نخلط بين العبرانيين القدامى والمستوطنين الصهاينة، وهو خلط تحرص كلٌّ من الإمبريالية الغربية والمؤسسة الصهيونية عليه باستخدام دال واحد يشير إلى مدلولين مختلفين للإيهام بوجود استمرار وتَرادُف بين النسق الديني والواقع الاستيطاني، وبالتالي إكساب عملية الاغتصاب الصهيوني لفلسطين شرعية بل وقداسة، وكذلك تصوير الهجوم على المستوطنين الصهاينة على أنه معاداة لليهود ونوع من التعصب الديني! 

ونستخدم كلمة «يهودي» للإشارة إلى أعضاء الجماعات اليهودية بعد صدور مرسوم قورش بعودة المهجَّرين إلى بابل. أما كلمة«صهيوني» فهي تشير إلى كل من يؤمن بالعقيدة الصهيونية بغض النظر عن انتمائه الديني. 
عـَم هآرتـس 
Am Haaretz 
«عَم هآرتس» عبارة عبرية تعني حرفياً «شعب الأرض»، أي «أبناء الأرض». وقد وردت هذه العبارة في العهد القديم بمعنيين، الأول للإشارة إلى سكان فلسطين الأصليين مثل الحيثيين الذين اشترى منهم إبراهيم مغارة مكفيلة (تكوين 23) مقابل العبرانيين. أما المعنى الثاني، فيشير إلى السامريين والأقوام الأخرى التي كانت تسكن فلسطين وعارضت استيطان العبرانيين العائدين من بابل (عزرا 4). 

وكانت العبارة تُستخدَم كذلك للإشارة إلى عامة العبرانيين مقابل الأسرة المالكة والنبلاء والطبقة العسكرية والكهنة والأنبياء، وذلك قبل التهجير البابلي. ولكن بعد العودة من بابل، حيث صارت النخبة الحاكمة هي الكهنة أساساً، أصبحت العبارة تشير إلى الشعب مقابل الكهنة الأثرياء. وقد أخذت الحواجز بين الفريقين في التحدّد والتبلوّر، فكانت طبقة الكهنة تقيم جميع شعائر الطهارة الخاصة بالعبادة القربانية، كما كانت تتلقى العشور من المصلين ولا تأكل طعاماً إلا إذا دُفعت ضريبة العشـور عـنه. وقد قـام الفريسـيون والفرق اليهودية الأخرى، مثل الأسينيين، بإقامة شعائر الطهارة رغم أنهم لم يكونوا من طبقة الكهنة، وكانوا أيضاً لا يأكلون من محاصيل لم تُدفَع عنها العشور. وحتى يضمنوا أن يظلوا ضمن النخبة الحاكمة الطاهرة، كانوا حريصين على الإبقاء على الحواجز الفاصلة بينهم وبين العامة. 

ولكن رغم توسـيع نطاق النخبة ليضم الفريسيين وغيرهم، ظلت أعداد كبيرة من اليهود غير قادرة على إقامة شعائر الطهارة بسبب تزمتها وصرامتها، خصوصاً في المناطق التي ضمها الحشمونيون وهوَّدوا أهلها عنوة (الإيطوريون والأدوميون الذين أصبحوا يهوداً ولكنهم باتوا ينوءون تحت نير هذه الشعائر). وقد توجهت المسيحية إلى هؤلاء فانضموا إلى صفوفها، إذ أن الدين الجديد لم يثقل المؤمن بقيود شعائر الطهارة والعبادة القربانية. 

ومع هدم الهيكل، فقدت العبارة معناها القديم حيث اختفت قوانين الطهارة والعبادة القربانية مع اختفاء الهيكل. ومع ظهور المعبد كمركز للعبادة اليهودية، أصبحت العبارة تفيد معنى قدحياً وتشير إلى اليهودي الذي لا يرتدي تمائم الصلاة (تيفلين)، ولا الشال (طاليت)، ولا يضع تمائم الباب (مزوزاه) على منزله، ولا يعلِّم أولاده التوراة. بل وتشير العبارة إلى العامة الذين لا يتفرغون لدراسة التوراة مقابل النخبة الحاخامية التي تفرغت لها. ويبدو أن الهوة قد اتسعت بين الفريقين حتى أن الحاخام عقيبا، الذي بدأ دراسته في سن متأخرة، قال إنه حين كان ضمن عم هآرتس (أي العامة) كان من الممكن أن ينهش لحم أي حاخام يقابله في طريقه. وقد جاء في التلمود أن العالم يجب ألا يتزوج من ابنة أحد من العم هآرتس فهم كريهون وزوجاتهم مثل الديدان وينطبق على بناتهم ما جاء في التوراة " ملعون من يضطجع مع بهيمة " (تثنية 27/21). فعبارة عم هآرتس تعني ببساطة «الإنسان الجاهل» ولو أنها، عند الحسيديين، كانت تعني «الساذج وطيب القلب». 

وقد استمر التمييز الحاد بين النخبة والعامة من يهود اليديشية، فهم يميِّزون بين «شيد يدين»، وهي عبارة يديشية تعني «الرجال الذين يتحلون بالجمال»، وبين «بروست يدين»، أي الرجال العاديون، وهي تكاد تكون مرادفاً يديشياً لعبارة «عم هآرتس». وفي العصر الحديث، تُطلَق كلمة «عم هآرتس» أحياناً على اليهود السـفارد والشرقيين والفلاشاه. 

اليشوف 
Yishuv 
«يشوف» كلمة عبرية تعني «التَوطُّن» أو «السَكَن»، وهي تشير إلى الجماعات اليهودية التي تستوطن فلسطين لأغراض دينية. ويُستخدَم اصطلاح «اليشوف القديم» للإشارة إلى الجماعات اليهودية التي كانت تعيش على الصدقات التي ترسلها لهم الجماعات اليهودية فيما يُعرَف باسم «حالوقة». وكان اليشوف القديم يتكون من جماعتين منفصلتين تمام الانفصال: الأولى إشكنازية والأخرى سفاردية، وكانت كل جماعة تنقسم بدورها إلى أقسام فرعية مختلفة حسب مصدر الصدقة التي تأتي لها (وهذا يذكرنا بعض الشيء بالنظام الحزبي في إسرائيل ونظام تمويله عن طريق مساعدات يهود الدياسبورا، فحزب حيروت مثلاً يحصل على أكبر قسط من المعونة من اليهود اليمينيين وبالذات في جنوب أفريقيا، أما حزب الماباي فيموله اليهود الليبراليون في الغرب). 

ولم يكن عند أعضاء اليشوف القديم أية مطامع سياسية لأن الغرض من وجودهم كان دينياً محضاً، ولذلك كانت علاقاتهم بالعرب طبيعية وطيبة للغاية. وعلى العكس من هذا كان أعضاء اليشوف الجديد (وهو الاصطلاح الذي يطلقه الصهاينة على التجمع الاستيطاني الصهيوني ابتداءً من عام 1882)، إذ كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم جماعة «قومية» ذات برنامج سياسي محدَّد يتلخص في إنشاء الوطن اليهودي. ولذلك، ركزوا جهدهم في تأسيس أبنية اقتصادية سياسية حضارية منعزلة تمام الانعزال عن العرب (بل وعن أعضاء اليشوف القديم)، كما كانوا يدورون في إطار مفاهيم انعزالية مثل اقتحام الأرض والعمل والحراسة والإنتاج. وقد تَسبَّب هذا في حدوث توتر ثم صراع حاد أدَّى إلى نشوب القتال بينهم وبين العرب، وهذا الصراع هو الذي يُعرَف الآن باسم الصراع العربي الإسرائيلي. 

والملاحَظ أن الكتابات الصهيونية تستخدم كلمة «يشوف» لتوحي بأن ثمة استمراراً يهودياً عبر التاريخ، وأن الوجود اليهودي في فلسطين كان مستمراً ومتصلاً، وفي الوقت نفسه مستقلاً ومنفصلاً عن تاريخ المنطقة العربية. 

يهـودي   Jew
كلمة «يهودي» كانت تشير إلى الشخص الذي يعتنق اليهودية، وقد ظهرت بعد الكلمتين الأخريين «عبراني» و«يسرائيلي» أو عضو «جماعة يسرائيل». و«يهودي» كلمة عبرية مشتقة من «يهودا» وهو اسم أحد أبناء يعقوب والذي سُمِّيت به إحدى قبائل العبرانيين الاثنتي عشرة. 

والاسم مُشتَق من الأصل السامي القديم «ودي» التي تفيد الاعتراف والإقرار والجزاء مثل كلمة «دية» عند العرب. وقد اكتسبت هذه المادة معنى الإقرار والاعتراف بالجميل. وقد استوحت ليئة زوجة يعقوب اسم ابنها الرابع من هذا المعنى: " هذه المرة أحمد الرب لذلك دعت اسمه يهودا " (تكوين 29/35). فكلمة «يهوه» تعني الرب و«دي» تعني الشكر ومنهما «يهودي». 

وكانت الكلمة ذات دلالة جغرافية تاريخية في بادئ الأمر، إذ كانت تشير إلى سكان المملكة الجنوبية (يهودا) وحسب، ولكن دلالتها اتسعت لتشمل اليهود كافة، خصوصاً بعد انصهار سكان المملكة الشمالية (يسرائيل) بعد التهجير الآشوري، واختفائهم من مسرح التاريخ، واستمرار مملكة يهودا قرنين من الزمان. 
وهكذا أصبحت كلمة «يهودي» عَلَماً على كل من يعتنق اليهودية في أي زمان ومكـان بغـض النـظر عن انتمائه العرْقي أو الجغـرافي. ومن هنا، فإن فيلون السكندري يهودي، وموسى بن ميمون العربي يهودي. ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، فكلمة «يهودي» متسعة الدلالة تختلف دلالتها باختلاف الزمان والمكان. 

ومع أن الشرع اليهودي قد عَرَّف اليهودي بأنه من وُلد لأم يهودية أو تَهوَّد، فإن الشرع الإسلامي لم يقبل، في جميع مراحله التاريخية، بهذا التعريف العرْقي، فكان يُعرِّف اليهودي تعريفاً دينياً وحسب، أي أنه عرَّفه بأنه من يعتنق اليهودية سواء كان من الحاخاميين أو القرّائين أو السامريين. وثمة اختلاف جوهري بين التعريفين، فأحدهما عقائدي محض والآخر ديني عرْقي، وبالتالي تنشأ مشكلة من هو اليهودي، وهل اليهودي هو الذي يعتقد أنه كذلك من منظور يهودي أم أنه اليهودي الذي نسميه نحن كذلك انطلاقاً من عقيدتنا؟ 

أما في العالم الغربي، فقد مرت الكلمة بعدة تطورات دلالية. ففي العالم الهيليني والدولة الرومانية، كانت كلمة «يهودي» تشير إلى الفرد في الإثنوس أي القوم اليهودي، وكانت مسألة العقيدة ثانوية. وفي العصور الوسطى الكارولينجية في الغرب، حتى القرن الحادي عشر الميلادي، أصبحت كلمة «يهودي» تعني الانتماء إلى الجماعة اليهودية، كما كانت مرادفة لكلمة «تاجر». وبعد القرن الحادي عشر الميلادي، أصبحت كلمة «يهودي» مرادفة لكلمة «مرابي». ولم تتخلص اللغات الأوربية تماماً من تلك التضمينات التي كانت تُحمِّل كلمة «يهودي» معنى قدحياً، مثل «بخيل» أو «غير شريف» أو «عبد للمال» وغير ذلك من المعاني التي ارتبطت بأعضاء الجماعات اليهودية، نظراً لاضطلاعهم بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة التي هي محط كراهية أعضاء المجتمع المضيف. وهذا ما كان يعنيه ماركس حينما تَحدَّث عن انتشار العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في المجتمع بوصفه « تهويد المجتمع ». ويساوي الفكر الاشتراكي الغربي، خصوصاً كتابات فورييه، بين اليهودي والمرابي. وفي اللغة الإنجليزية، ارتبطت الكلمة باسم يهوذا Judas الإسقريوطي الذي باع المسيح بحفنة قطع من الفضة. 

ولذا، أسقط بعض اليهود، في القرن التاسع عشر الميلادي، مصطلح «يهودي» واستخدموا مصطلحات مثل «عبراني» و«إسرائيلي» و«موسوي» حتى أصبحت كلها مترادفة. ولكن حدث تَراجُع عن ذلك بعد الحرب العالمية الثانية وأصبح مصطلح «يهودي» أكثر شيوعاً. وكثير من المعاجم الأوربية لا تورد الآن المعاني القدحية لكلمة «يهودي» بل وتوصي بعدم استخدامها. ويُلاحَظ أن كلمة «يهودي» بدأت، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، تحمل إيحاءات بالقداسة مع بَعْث أسطورة اليهودي التائه وإعطائها مضموناً إيجابياً. 
ومع ظهور حركة التنوير وضعف اليهودية الحاخامية، ترك كثير من اليهود عقيدتهم الدينية واستمروا في تسمية أنفسهم «يهوداً»، وهذا ما يُطلَق عليه «اليهودي غير اليهودي». وبين هؤلاء نجد «اليهودي الملحد» و«اليهودي العلماني» و«اليهودي الإثني» ممن نطلق عليهم نحن «اليهود الجدد». وغني عن القول أنه حينما كان مصطلح «يهودي» يُستخدَم للإشارة إلى هؤلاء، فإن محيطه الدلالي كان يختلف تماماً عن محيطه الدلالي حتى أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، حيث كان الانتماء اليهودي يعني الإيمان بالعقيدة اليهودية. أما هؤلاء، فإنهم لا يتبعون تعاليم دينهم بل ويرفضها بعضهم تماماً ويُسمي نفسه يهودياً استناداً إلى ما يتصور أنه موروثه الثقافي.ويوجد الآن تعريفان لليهودي: أحدهما ديني يعتمد الشريعة ويأخذ به نحو 18% من يهود العالم، والآخر علماني ويأخذ به نحو 61%. والباقون مترددون متضاربون في الرأي. فإن شـعر أحدهم في قرارة نفسـه بأنه يهـودي، فإنه يمكن اعتباره يهـودياً. 

وقد حاول جان بول سارتر تعريف «اليهودي» فأخذ بهذا التعريف الذاتي، وقال إن اليهودي يكون يهودياً أصيلاً حينما يصبح واعياً بحالته كيهودي ويشعر بالتضامن مع سائر اليهود. ولكن سارتر نفسه كان قد عرَّف اليهودي من قبل بأنه من يراه الأغيار كذلك. وفي كلتا الحالتين، لا يُوجَد معيار موضوعي للتعريف. وقد انتهى الأمر به إلى القول بأن اليهودي هو رجل يبحث عن هويته. وهذا ليس بتعريف أيضاً، وإنما إشارة إلى حالة عقلية. وقد علق أحد المثقفين الفرنسيين على الوضع قائلاً: « إنني مثل جميع اليهود الفرنسيين، فأنا يهودي من الناحية الخيالية ولكني فرنسي من الناحية الفعلية »



0 مشاركات:

إرسال تعليق