موسوعة الىهود واليهودية عبد الوهاب المسيرى ج 2 lمقطع 2


الباب الثالث: إشكالية العبقرية والجريمة اليهودية




العـــبقرية اليهوديـة 
The Jewish Genius 
كلمة «عبقرية» تعني مجموعة من السمات الخاصة لا تفترض بالضرورة تَميُّزاً أو علواً مثلما نقول «عبقرية المكان» حيث لكل مكان عبقريته الخاصة، أو «عبقرية اللغة الإنجليزية» حيث لكل لغة عبقريتها الخاصة. وحينما تُستخدَم العبارة بهذا المعنى في الكتابات الصهيونية (أو غيرها) كأن يُقال «العبقرية اليهودية»، فهي تشير عادةً إلى «الخصوصية اليهودية» (انظر: «الخصوصية اليهودية»). ولكن هذا الاستعمال نادر، والاستعمال الشائع هو أن تشير كلمة «عبقرية» إلى درجة من درجات التَميُّز إلى جانب الخصوصية. وعبارة «العبقرية اليهودية» تفترض وجود عبقرية يهودية مستقلة، وأن العباقرة اليهود يتمتعون باستقلال عما حولهم، وأن وجودهم مؤشر على تَميُّز اليهود ككل، ولذا نجد حديثاً مستفيضاً عن فضل العباقرة اليهود على الحضارة الإنسانية وعن زيادة عددهم بالنسبة للعباقرة من الشعوب والأقليات الأخرى. 


لكن الحديث عن «العبقرية اليهودية» لا يختلف بنيوياً، في واقع الأمر، عن حديث المعادين لليهود عن «الجريمة اليهودية» أو عن «عبقرية اليهود المتأصلة في ارتكاب الموبقات والسرقة والفساد». فالحديث عن العبقرية اليهودية، تماماً مثل الحديث عن الجريمة اليهودية، يَصدُر عن تَصوُّر أن اليهودي «يهودي» وحسب أو يهودي بالدرجة الأولى ثم أمريكي أو روسي بالدرجة الثانية أو الثالثة، وأن ما يحدد سلوكه (عبقريته في الخير والشر) هو البُعد اليهودي في وجدانه ورؤيته. كما يتفق الصهاينة والمعادون لليهود على اختزال اليهودي وتجريده من أي سياق اجتماعي أو تاريخي أو إنساني وعلى وضعه على هامش التاريخ أو خارجه، حيث يقف ليساهم فيه بعبقرية فذة، أو يحاول تخريبه بكل ما أوتي من قوة ودهاء وحيلة وعبقرية إجرامية. 


ولو نظرنا إلى العباقرة اليهود، بعد أن نضعهم في سياقهم التاريخي المتعيِّن، سنكتشف على الفور أن مقولة «العبقرية اليهودية» لا تملك مقدرة تفسيرية عالية. وسيظهر قصورها التفسيري حينما نسأل عن تلك السمات "اليهودية المشتركة" بين عباقرة مثل فيلون (الفيلسوف الذي عاش في العصر الهيليني)، وشعراء العرب اليهود (في الجاهليـة)، وموسى بن ميمون (المفكر الديني اليهودي الذي عاش في العالم الإسلامي في القرن الحادي عشر)، وفرويد (المفكر النمساوي اليهودي الذي عاش في أواخر القرن التاسع عشر)، وشاجال (الفنان التشكيلي الذي عاش معظم حياته في النصف الأول من القرن العشرين)، وبرنارد مالامود (الروائي الأمريكي الذي عاش في النصف الثاني من القرن العشـرين). والإجابة الوحيـدة هي أن مثل هذه السمـات المشتركة غير موجودة. وإن اكتشف أحد عناصر يهودية مشتركة بين كل هؤلاء العباقرة، فإن تصنيفهم على أنهم يهود بالدرجة الأولى لا يفيد كثيراً في فَهْم فكرهم أو طبيعة مساهمتهم في التراث الإنساني. فيهوديتهم المشتركة ليست ذات مقدرة تفسيرية أو تصنيفية عالية، ولابد لنا أن نعود إلى التقاليد الحضارية والظروف التاريخية التي شكلت فكر ووجدان كل واحد منهم حتى يتسنى لنا الإحاطة بها. فموسى بن ميمون كاتب عربي أندلسي كان يؤمن باليهودية وتفاعُل مع التراث العربي الإسلامي. ومن خلال هذا التفاعُل نضجت عبقريته العربية، ولم تكن اليهودية سوى أحد العناصر في تكوين هذه العبقرية (وحتى هذه اليهودية كانت قد اصطبغت بصبغة إسلامية). وقصص برنارد مالامود تنتمي إلى التراث الأدبي الأمريكي لأن كاتب هذه القصص تأثر بتقاليد هذا الأدب وأتقن اللغة الإنجليزية الأمريكية وكتب روايات أمريكية تعالج موضوعات أمريكية يهودية. وحين صرح شاجال ذات مرة لمجلة تايم بأنه غير مهتم باليهودية، قامت الدنيا ولم تَقعُد، وأرسل كثير من القراء برسائل احتجاج أوضحوا فيها تأثُّـر شاجال باليهودية الحسيدية. وقد يكون هذا أمراً صحيحاً، ولكن شاجال يظل نتاج الحركات الفنية في أوربا في القرن العشرين، وبخاصة في روسيا وفرنسا. وقد تكون لبعض لوحاته نكهة حسيدية، خصوصاً أنها تعالج موضوعات يهودية مثل التوراة والحاخام، ولكنها تظل مع هذا لوحات رسمها فنان روسي فرنسي متأثر وبعمق بالتراث المسيحي! 


وإذا ما تركنا مجال الفنون والإنسانيات، يصبح الحديث عن العبقرية اليهودية عبثاً وهراء لا طائل من ورائه. فبأي معنى يمكننا أن نقول إن نظرية النسبية قد تَوصَّل إليها أينشتاين من خلال عبقريته اليهودية، وكأن أينشتاين كان من الممكن أن يصل إلى ما وصل إليه من اكتشـافات باهـرة دون جهود من سبقه من علماء مسيحيين وبوذيين؟ وهل كان من الممكن أن يصل إلى ما وصل إليه من اكتشافات دون وجوده داخل الحضارة الغربية الحديثة؟ وإلا فبماذا نفسر عدم ظهور علماء طبيعة متفوقين تَفوُّق أينشتاين بين يهود الفلاشاه الإثيوبيين؟ 


ويُلاحَظ أن نسبة المتعلمين والمخترعين بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي مرتفعة. ولكن هذا أمر طبيعي وينطبق على كل أعضاء الأقليات في أي مكان حينما تتاح أمامهم الفرصة. لكن أعضاء الأقلية يخضعون، مع ذلك، في معظم الأحيان إن لم يكن كلها، لدرجة تَقدُّم وتَخلُّف المجتمع الذي يعيشون بين ظهرانيه، فإن تَقدَّم تَقدَّموا وإن تخلف صاروا متخلفين. ولذا لم يكن هناك عباقرة يهود بين العرب إبَّان فترات الانحلال في الحضارة العربية حين أُغْلقَت فيها الحلقات الفقهية والمدارس التلمودية العليا في العراق بسبب انتكاس الحضارة العربية، بينما ازدهر الفكر العربي اليهودي في الأندلس بسبب ازدهارها. 


وحتى لو رصـدنا العبقرية اليهودية بشكل مطلق، كما يفعل الصهاينة، فإننا سنكتشف أن العبرانيين وأعضاء الجماعات اليهودية، لم يلعبوا دوراً كبيراً في خلق الحضارة الإنسانية. فحينما ظهر العبرانيون على مسرح التاريخ منذ عام 1200 ق.م. رعاةً رُحَّلاً، كانت الإمبراطورية الفرعونية في مصر قد شيدت مئات المعابد والأهرامات والسدود، وكان الفن المعماري وعلوم الفلك المصريان قد وصلا إلى قمم شامخة. وحينما تأسست المملكة العبرانية المُوحَّدة على يدي داود وسليمان، لم تكن هذه المملكة سوى مملكة صغيرة ازدهرت في غياب القوى الإمبراطورية العظمى في الشرق الأدنى القديم، واعتمدت حضارياً على الدول والأقوام المجاورة اعتماداً كاملاً. أما في مجال الأدب والفن والفكر، فلا توجد أية مسـاهمة حقـيقية من جـانب العبرانيين في تراث العالم القـديم، ولا نسمع عن عباقرة يهود في فن الهندسة المعمارية (على سبيل المثال). ولا يأتي ذكر اليهود في الكتابات اليونانية أو الرومانية إلا بوصفهم شحاذين ومصدر ضيق لكُتَّاب مثل شيشرون. وإذا نظرنا إلى الحضارة العربية إبَّان فترة نهضتها، فإننا نجد أن دور اليهود كان مقصوراً بالدرجة الأولى على الترجمة والنقل من اللغات الأجنبية. وقد دفعهم اضطلاعهم بوظيفة الجماعة الوظيفية الوسيطة التي يعمل أعضاؤها بالتجارة الدولية في العالم القديم إلى معرفة العديد من اللغات، كما جعلهم ناقلين لحضارات الآخرين. ولم يكن يوجد شاعر كبير أو مفكر فلسفي عربي مشهور يعتنق اليهودية، فكنت ترى بينهم الأطباء والصيادلة والتجار حيث ظلوا مرتبطين بالإنتاج اليومي المادي، ولكن لم يُوجَد بينهم الفنانون أو المفكرون. وبعد أن انتقل مركز الحضارة إلى الغرب، ظل الأمر على ما كان عليه. ففي شرق أوربا، التي كانت تضم غالبية يهود العالم (يهود اليديشية)، ظلت الجماعات اليهودية غارقة حتى أذنيها في التأملات القبَّالية. وكانت الحـياة العقلية في الجيتو منفصـلة عن العـالم الخارجي، هذا في الوقت الذي كانت أوربا تعيش عصر نهضتها. ولذا لا نجد في أدب وحضارة العصور الوسطى أو عصر النهضة مفكراً أو رساماً أو أديباً يهودياً واحداً شهيراً. بل إن المفكرين اليهود الذين ظهروا خلال هذه الفترات الطويلة، مثل الحاخام عقيبا أو راشي أو موسى بن ميمون، كانوا مهتمين بأمور دينية يهودية ذات أهمية إنسانية محدودة. كما نعرف أنهم كانوا بلا ثقَل يُذكَر داخل مجتمعاتهم، فمـوسى بن ميمون لم يكـن معـروفاً باعتباره مفكراً دينياً، وإنما باعتباره طبيباً ومؤلف كتب في الطب وحسب. وما من شك في أن اقتصار نشاط اليهود على نشاطات إنسانية معيَّنة دون غيرها أمر طبيعي للغاية من أقلية تلعب دور الجماعة الوظيفية الوسيطة المنعزلة اقتصادياً ووجدانياً بسبب وظيفتها. 


ونحن لا نسمع عن العباقرة اليهود إلا مع بدايات ظهور الرأسمالية والعلمانية. وربما لم يكن من قبيل المصادفة أن إسبينوزا، أول فيلسوف يهودي غربي في العصر الحديث، ظهر في هولندا مهد الرأسمالية الحديثة. ومما له دلالة بالمثل ظهور إسبينوزا من بين اليهود السفارد المتمتعين بمستوى حضاري مرتفع بسبب احتكاكهم بالحضارة الإسلامية، على عكس اليهود الإشكناز الذين تَدنَّى وضْعُهم الحضاري داخل الحضارة المسيحية. وقد كان إسبينوزا أيضاً من أوائل المفكرين العلمانيين الذين طرحوا انتماءهم اليهودي جانباً، فلم يكن إبداعه وبروزه نتيجة انتمائه اليهودي، وإنما تم هذا الإبداع وذلك البروز رغماً عن هذا الانتماء وبسبب رفضه (وذلك مع عدم إنكار أن التراث اليهودي القبَّالي لعب دوراً مهماً في تحديد معالم فكره أو في تأكيد الواحدية المادية الكونية والاتساق الهندسي عنده واللذين يشكلان جوهر نسقه الفلسفي). 


العباقــرة مـن أعضاء الجماعـات اليهوديـة 
Geniuses from the Jewish Communities 
ظل العباقرة من أعضاء الجماعات اليهودية يساهمون في بناء الحضارة الأوربية باعتبارهم أوربيين علمانيين أولاً وأخيراً، أي أن يهودية العبقري لم تكن العنصر الأساسي في إسهامه. وقد زادت هذه المساهمة بازدياد انتشار القيم الليبرالية ثم الثورية في الغرب والشـرق، إذ أن هذه القيم فتحـت المجال أمام أعضاء الجماعات اليهودية. 


ونحن لا نُنكر أثر البُعد اليهودي في تكوين العبقري اليهودي، فأثر القبَّالاه اللوريانية واضح تماماً على تفكير إسبينوزا وفرويد وجاك دريدا فيلسوف التفكيكية. كما نرى أن للمدرسة التفكيكية (في النقد والفلسفة) علاقة قوية بمدارس التفسير الدينية اليهودية، وأن اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تحوي داخلها عناصر كثيرة متناقضة (بعضها عبثي وبعضها عدمي أو غنوصي) تتيح للعبقري اليهودي استعداداً كامناً (أكثر من غيره) لاكتشاف مثل هذه التيارات في المجتمع والتعبير عنها بطريقة مباشرة. كما أن البُعد الحلولي الكموني القوي في اليهودية ولَّد استعداداً كامناً قوياً لدى أعضاء الجماعات اليهودية لتَقبُّل المنظومة العلمانية (وهي منظومة حلولية كمونية). ولكن يجب أن نشير أيضاً إلى أن البُعد اليهودي ذاته هو نتاج تفاعل اليهود مع ما حولهم من حضارات، فالغنوصية هي حركة سادت الشرق الأدنى القديم وتأثرت بها اليهودية. كما أن العبقري اليهودي قد يكون لديه استعداد كامن لاكتشاف شيء ما، لكن هذا الشيء سيظل جزءاً من تشكيل حضاري غير يهودي، بمعنى أن الحركيات النهائية هي حركيات الحضارة التي يعيش فيها اليهودي. فمهما كان علم فرويد مثلاً بتراث القبَّالاه، لا يمكن تَخيُّل أن بوسعه التوصل إلى نظرياته وهو في اليمن (التي يعرف حاخاماتها القبَّالاه اللوريانية بطريقة تفوق فرويد وحاخامات أوربا في عصره). ففرويد هو نتاج مجتمع فيينا في أواخر القرن التاسـع عشـر بكل ما كان يحويـه من إبـداع وانحـلال وتركيب وتَخثُّر. 


ويُلاحَظ أن بعض المؤلفين والرسامين اليهود في الحضارة الغربية بدأوا، منذ نهاية القرن التاسع عشر، في تناول مضامين يهودية في أدبهم وفنهم. ولكن مثل هؤلاء لا يختلفون البتة عن المؤلفين غير اليهود الذين يتناولون مضامين يهودية، ذلك أن طريقة التناول ـ بكل مزاياها وعيوبها ـ تظل جزءاً من التشكيل الحضاري الغربي. إن سول بيلو وفيليب روث ـ وكلاهما كاتب أمريكي يهودي ـ يتناولان شخصيات أمريكية يهودية، إلا أن أدبهما لا يمكن أن يُصنَّف أدباً يهودياً، وعبقريتهما لا تُصنَّف كعبقرية يهودية إذ يظل هذا الأدب أدباً أمريكياً مكتوباً بالإنجليزية، ينتمي إلى التراث الأدبي الأمريكي ولا يمكن فهمه خارج هذا التراث، وتظل عبقريتهما نتاج تفاعلهما مع محيطهما الحضاري. وهما في هذا لا يختلفان عن جيمس جويس في رواية يوليسيس حينما جعل أحد أبطال روايته يهودياً، ومع هذا لم يصنفها أحد باعتبارها من عيون الأدب اليهودي، شأنها في هذا شأن رائعة شكسبير تاجر البندقية . 


وفيما يتصل بالعبقريات التي تنتجها إسرائيل، فإن الأمر يتوقف على جنسية العبقري، فإن كان هذا العبقري إسرائيلياً فهو تعبير عن العبقرية الإسرائيلية، أما إذا كان من أصل روسي أو ألماني فهو عبقري روسي أو ألماني، أي أن العبقرية اليهودية تظل مقولة مجردة لا وجود لها إلا بين صفحات الكتب الصهيونية أو المعادية لليهود. وبدلاً من ذلك، يتعيَّن علىنا أن نتحدث عن «عباقرة يؤمنون بالدين اليهودي»، أو عن «عباقرة ذوي بعد إثني يهودي»، وينتمون إلى الحضارات الإنسانية المختلفة في مختلف الأماكن والأزمان. 


ومن الأمور الجديرة بالدراسة نسبة العباقرة بين الإسرائيليين ومدى اختلافها عن مثيلتها بين الدول التي حققت معدلات التحديث والتصنيع والتقدم التكنولوجي والعلمي نفسها. وكل المؤشرات تدل على أنها غير مختلفة على الإطلاق، وإن كان الأمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة. 


بـــــروز اليهـــــــود وتَمــيُّـزهـــم 
Jewish Eminence and Distinctiveness 
جاء في المعاجم العربية «تميَّز الشيء» بمعنى «بدا فضله وانفصل عن غيره»، و«برز بروزاً» بمعنى «فاق الآخرين في فضل أو علم»، و«برَّز الشيء» معناها «أظهره وبيَّنه». ومن الموضوعات الأساسية التي تتواتر في الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود، موضوع «بروز أعضاء الجماعات اليهودية وتَميُّزهم» في كثير من مجالات النشاط والمعرفة الإنسانيتين بنسبة تفوق بمراحل نسبتهم إلى عدد السكان في المجتمعات التي يعيشون في كنفها. ودارس تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية سيجد قرائن على كلٍّ من البروز الإيجابي والتميز في الخير والإبداع، والبروز المشين والتميز في الشر والهدم والإجرام. أما البروز الإيجابي، فعليه من الأدلة الكثير، مثل: كثرة عدد العباقرة والمهنيين بين أعضاء الجماعات اليهودية، ونسبة التعليم المرتفعة بينهم، وارتفاع دخولهم. أما البروز المشين، فهناك أيضاً مؤشرات كثيرة عليه، مثل: اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية بالربا عبر العصور الوسطى في الغرب بل واحتكار هذه المهنة في بعض المناطق، واشتغالهم بتجارة الرقيق في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ثم اشتغال أعضاء الجماعات اليهودية في القرن التاسع عشر، بتقطير الخمور والاتجار فيها، وتهريب البضائع والرقيق الأبيض، وبكثير من الأعمال الطفيلية غير المنتجة. 


ويُلاحَظ أن أي مؤشر على بروزهم الإيجابي قد يُعدُّ مؤشراً على بروزهم المشين، فالثراء (وهو عادةً مؤشر على حركية الإنسان وذكائه) يُعتبَر من منظور آخر دليلاً على عدم الانتماء وعلى الرغبة في الثروة وفي مراكمتها دون أية تحفظات أخلاقية. كما أن التميُّز الوظيفي لليهود هو أيضاً من علامات البروز الإيجابي والمشين، بل إن الجيتو ذاته كان علامة من علامات البروز، إذ كان اليهود يسعون للحصول على إذن بإقامته والإقامة فيه ليتمتعوا داخله بالمزايا الممنوحة للجماعة اليهودية والمقصورة عليهم وليعزلهم عن بقية السكان الأمر الذي يُيسِّر لهم إدارة مؤسساتهم الدينية والقضائية والتربوية الخاصة. ولكن الجيتو أصبح بالتدريج هو المكان الذي يتعيَّن عليهم البقاء فيه، وهكذا تحوَّل من ميزة إلى قيد. 


ويذهب كثير من الدارسين إلى أن بروز بعض أعضاء الجماعات اليهودية من أهم الأسباب التي تجلب عليهم عداء أعضاء الأغلبية من غير اليهود؛ وهو تعميم متعسف. فقد كان البروز يؤدي أحياناً إلى مثل هذه النتائج، كما حدث في ألمانيا النازية. ولكن، في إسبانيا الإسلامية أو أمريكا العلمانية، لم يؤد البروز والتميز إلى أي عنف أو تمييز ضد أعضاء الجماعة اليهودية. أما في بولندا، خصوصاً في أوكرانيا التي ضمت من منظور التطورات التاريخية اللاحقة أهم الجماعات اليهودية عبر التاريخ، فإن بروزهم قد أدَّى دون شك إلى استجلاب السخط عليهم لا بسبب البروز في حد ذاته وإنما بسبب طبيعته، إذ أن أعضاء الجماعة اليهودية كانوا قريبين من الطبقة الحاكمة عملاء لها، في إطار الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا، وبذا أصبحوا عنصراً استيطانياً تجارياً يمثل الأرستقراطية البولندية في وسط فلاحي، وعنصراً يهودياً ينوب عن عنصر كاثوليكي في وسط أرثوذكسي أوكراني، يتحدثون اليديشية أو البولندية في وسط يتحدث الأوكرانية، أثرياء في وسط من الفقراء والمعدمين. وقد تَحوَّل أعضاء الجماعة اليهودية إلى أداة يمسك بها النبلاء في وارسو يعتصرون بها الفلاحين. وحينما يكون البروز على المستويات الطبقية والدينية والثقافية، فإن الانفجار الشعبي يكون ساحقاً ماحقاً، وهذا ما حدث مع انتفاضة شميلنكي. 


وقد يتشابك التَميُّز المشين مع التَميُّز الإيجابي، فمع نهاية القرن التاسع عشر كان يهود البلاد الغربية قد حققوا صعوداً طبقياً ومكانة اجتماعيـة عالية وهو ما يعني تَميُّزاً يهودياً إيجابياً. ثم وصل يهود اليديشـية، وكانوا متخلفين فقراء تتفشى بينهم الأمراض الاجتماعية المختلفة كما تَفشَّى التعصب الديني، وكان هذا يعني تَميُّزاً يهودياً مشيناً، وحدث تَشابُك بين الجماعتين أدَّى إلى إحساس المجموعة الأولى بالحرج ثم إلى فَزَعها. ومن هنا فقد كان من أهداف الصهيونية أن تُبقي ليهود الغرب تميزهم الإيجابي، وأن تُريحهم من يهود اليديشية بتَميُّزهم المشين عن طريق توطينهم في فلسطين. 


ويحاول الصهاينة تفسير بروز وتميُّز بعض أعضاء الجماعات اليهودية على أساس طبيعة اليهود والخصوصية اليهودية والجوهر اليهودي والعبقرية اليهودية، وهو منطق خطر للغاية لأن البروز والتميُّز اليهودي الإيجابي إن فُسِّر على أساس الطبيعة اليهودية، فلابد من تفسير البروز والتميز المشين على الأساس نفسه أيضاً. وهذا ما لا يحجم عنه أعداء اليهود بل وبعض الصهاينة (خصوصاً العماليين). 


ويُلاحَظ أن اليهودي الذي يحقق اندماجاً في مجتمعه ويسلك سلوك الآخرين، لا يرصد أحد سلوكه باعتباره سلوكاً عادياً. ولكن حينما ينخرط بعض أعضاء الجماعات اليهودية في أنشطة مشينة أو متطرفة كأن يصبحوا أعضاء في جماعات ثورية أو ماسونية أو يحققوا قدراً عالياً من الثراء، فإن أعداء اليهود يتجاهلون اليهود العاديين والفقراء ويتناسون العباقرة من أعضاء الجماعات اليهودية ويرصدون بعناية فائقة الأنشطة المشينة وحدها. وحينما يحقق البعض الآخر من أعضاء الجماعات اليهودية بروزاً إيجابياً، فإن الصهاينة يؤكدون ذلك ويستبعدون كلاً من اليهود العاديين وهؤلاء الذين حققوا بروزاً مشيناً. وربما إذا أُخضعت الظاهرة للدراسة الإحصائية المتأنية لاكتشفنا أن بروز اليهود في الخير والشر إنما هو خاضع لآليات اجتماعية ليسوا مسئولين عنها، وأن نسبة المتطرفين بينهم، في الخير والشر، قد لا تختلف كثيراً عن النسبة السائدة في المجتمع، أو عن النسبة السائدة بين أعضاء الأقليات على وجه العموم في أي مجتمع. 


ومما يُظهر عدد اليهود المتميِّزين أكثر من حقيقته أن دارسي الجماعات اليهودية ينظرون إليهم كما لو كانوا يُشكِّـلون كلاًّ واحداً. ومن هذا المنظـور، فإن يهود اليمن والولايات المتحدة والصين وإثيوبيا وجنوب أفريقيا وجنوب أمريكا، كلهم يهود في نهاية الأمر. ومن هنا، فإن البحث عن البارزين فيهم داخل أية جماعة يتم دون أية دراسة إحصائية تبيِّن العلاقة بين نسبة هؤلاء البارزين إلى المعدل السائد في كل مجتمع. كما يتجاهل الدارسون أن تَركُّز اليهود في قطاعات وعلوم بعينها يؤدي إلى كثرة البارزين فيها (مهنة الطب والعلوم الطبيعة وعالم التجارة والموسيقى وعلم الاجتماع). ولكن هذا يعني أيضاً غيابهم عن قطاعات وعلـوم أخرى كثيرة أو ندرتهم فيها. كما أنهم يتجاهلون اللحظة التاريخية، فبروز اليهود في مجتمع ما في لحظة تاريخية معينة لا يعني بالضرورة بروزهم الدائم في كل زمان ومكان. 


ويتبنَّى أعداء اليهود منهجاً مماثلاً، فهم يركزون على اليهود الذين حققوا بروزاً مشيناً في بعض المجتمعات، وكأن جميع اليهود يُكوِّنون كلاًّ واحداً ولا يقارنون نسبة اليهود الذين حققوا مثل هذا البروز قياساً إلى المعدل الإحصائي السائد في المجتمع، كما أنهم يهملون أخيراً اليهود الذين حققوا بروزاً إيجابياً. ونحن نذهب إلى أن أعضاء الجماعات اليهودية يحققون البروز والتميز داخل الحضارة التي يعيشون في كنفها وبسبب عناصر موجودة داخلها لا على الرغم منها. وتعود معدلات إبداعهم (وإجرامهم) لا إلى التراث اليهودي وإنما إلى العناصر الحضارية والاجتماعية التي تكوِّن محيطهم الحضاري والاجتماعي.
ويمكننا أن نحاول رصد أسباب بروز وتَميُّز أعضاء الجماعات اليهودية، مقسمين الأسباب إلى قسمين: أسباب عامة تسري على أعضاء معظم الأقليات في العالم، وأخرى مقصورة على اليهود في الحضارة الغربية الحديثة. ولنبدأ بالأسباب العامة: 


1 ـ يتسم أعضاء الأقليات في جميع المجتمعات بشيء من البروز نظراً لاختلافهم في بعض النواحي أو في كثير منها عن أعضاء المجتمع. 


2 ـ يتميَّز أعضاء الأقليات في المجتمعات التقليدية، بل وأحياناً في المجتمعات الحديثة، تَميُّزاً وظيفياً إذ يضطلعون بوظائف دون غيرها. 


3 ـ يسكن أعضاء الأقليات في المجتمعات التقليدية في أماكن مقصورة عليهم وهو ما يساعد على هذا البروز، وقد قطن أعضاء الجماعات اليهودية في الجيتو. 


4 ـ تتسم المجتمعات الغربية بأنها مجتمعات لا تضم أقليات كثيرة، وذلك على عكس المجتمعات الشرقية الفسيفسائية، ولذا فإن أقلية تكاد تكون وحيدة مثل الأقلية اليهودية تحقق بروزاً غير عادي. 


5 ـ لا شك في أن من يوجد في المدينة يحقق بروزاً لا يحققه عادةً من يكون في الريف، وقد تركزت الغالبية الساحقة من يهود العالم الغربي في العصر الحديث في المدن. 


6 ـ ولا شك أيضاً في أن ارتباط أعضاء إحدى الأقليات بالطبقات الحاكمة يساهم في زيادة بروزهم، وقد ارتبط أعضاء الجماعات اليهودية في العصر الوسيط في الغرب بالطبقات الحاكمة. 


7 ـ يكون أعضاء الأقليات دائماً واقعين تحت ضغط نفسي يدفعهم إلى إثبات تفوقهم أمام أنفسهم وأمام الآخرين، ومن ثم فهم يجتهدون في أن يُساهموا في الإبداع الحضاري بدرجة تزيد عن المعدل السائد في المجتمع. ولذا يُلاحَظ في معظم الأحيان أن نسبة المتعلمين والمخترعين (في قطاعات معيَّنة) من بين أعضاء الأقليات مرتفعة نوعاً (ويُلاحَظ الشيء نفسه بالنسبة للإجرام والانحراف). 


8 ـ عضو الأقلية عادةً ما تكون لديه عقلية نقدية في رؤيته للمجتمع (بسبب عدم إحساسه الكامل بالأمن والاستقرار)، وهو ينظر لمنظومة المجتمع الدينية والقيمية نظرة شك. وهذه النظرة النقدية الحادة تخلق تربة خصبة للإبداع التفكيكي، وربما التركيبي أيضاً. 


9 ـ عضو الأقلية يتسم بروح الريادة وبالحركية، الأمر الذي يجعله سبَّاقاً إلى الخير والشر. 


أما بروز أعضاء الجماعات اليهودية وتَميُّزهم داخل الحضارة الغربية على وجه التحديد فيمكن تفسير كثير من جوانبه من خلال مُركَّب من الأسباب والنماذج التفسيرية المترابطة: 


1 ـ يُلاحَظ ارتـباط تَميُّز أعضاء الجماعات اليهودية بتَصاعُد معدلات العلمنة في المجتمع. وليس من قبيل الصدفة أن أول عبقري يهودي حقق تَميُّزاً وبروزاً لا داخل سياقه اليهودي وإنما داخل سياق الحضارة الغربية ككل هو إسبينوزا، فيلسوف الحلولية والكمونية. ويمكن القول بأن العباقرة اليهود في الغرب الحديث يحققون التميز والبروز لا بمقدار تعبيرهم عن يهوديتهم وإنما بمقدار تخليهم عنها. ولعل أصدق شاهد على هذا هو إسبينوزا نفسه الذي حقق بروزه وتَميُّزه بمقدار ابتعاده عن اليهودية، ثم تبعه ماركس وفرويد وأينشتاين وكلهم يهود ملحدون، أي يهود غير يهود، تبرأوا من يهوديتهم. 


ويمكن القول بأن الجماعات اليهودية في أوربا كانت تُعَدُّ، مع اندلاع الثـورة الفرنسـية، أكثر قطاعات المجتمع تَخلُّفاً وهامشـية. إلا أن معظم يهود العالم الغربي كانوا مع انتصاف القرن من أكثر القطاعات علمانية وحداثة. وقد تبعهم وبسرعة يهود اليديشية من شرق أوربا، سواء من بقي منهم داخل الاتحاد السوفيتي أو من هاجر منهم إلي الولايات المتحدة. 


2 ـ يُلاحَظ أن علمنة النخب اليهودية (قيادات اليهود الثقافية) تمت بسرعة فائقة وبشكل كامل وجذري، كما تمت علمنة الجماهير اليهودية بشكل كامل وقاس وفجائي ومخطط من قبَل الدول المطلقة المختلفة (الدولة الفرنسية أو النمساوية أو الروسية). واستمرت هذه العملية حتى بعد أن حكمت هذه الدول نظم ليبرالية أو ثورية. وقد أدَّى هذا إلى انقطاع واضح بين انتمائهم الديني وتراثهم من ناحية، ووجودهم في العصر الحديث من الناحية الأخرى، ولذا فإنهم لم يحتفظوا بقيمهم الدينية التقليدية إلى جانب الرؤية العلمانية التي اكتسبوها. ويُلاحَظ كذلك أنهم لم يحتفظوا بأية رواسب دينية من خلال الرموز العلمانية ذات الأصول المسيحية، إذ أنهم لا يشتركون أصلاً في هذه الرموز باعتبارهم يهوداً. كما أن غالبية أعضاء الجماعات اليهودية في غرب أوربـا وجميع يهـود الولايـات المتحـدة وكندا وأمريكـا اللاتينيـة، عناصـر مهاجـرة، وبالـتالي فهـم عناصر حركية متحررة من القيم والمطلقات تبحث عن الحراك الاجتماعي. 


وقد أدَّى كل هذا إلى علمنة اليهود بشكل حاد وبمعدل يفوق معدلات العلمنة بين معظم قطاعات المجتمع الأخرى. ولذا، أصبح أعضاء الجماعات اليهودية من أكثر العناصر تَحرُّراً من القيم التقليدية وغير التقليدية في المجتمعات الغربية، وأصبح الإنسان اليهودي في الغرب هو الإنسـان الحـديث بشـكل نماذجي متبـلور، لا انتماء له ولا جذور، لا يشعر بحرمة أي شيء وينزع القداسة عن الإنسان والعالم. ومن ثم أصبح أعضاء الجماعات اليهودية من أكثر العناصر مقدرة على التحرك في المجتمع العلماني الحديث وأصبح لديهم من الكفاءات اللازمة للتعامل مع المجتمع العلماني الجديد أكثر مما لدى بقية أعضاء هذا المجتمع من المسيحيين أو حتى العلمانيين ذوي الجذور المسيحية، فاستطاعوا أن يحققوا بروزاً وصعوداً بدرجة تفوق ما يحققه أقرانهم من القطاعات البشرية الأخرى في المجتمع، ولكنه صعود من يستطيع أن يسبح مع التيار بكل قوة، لا أن يسبح ضده فيعوقه ويصده. 


وقد لاحَظ أحد وزراء داخلية روسيا القيصرية وجود اليهود بأعداد كبيرة في الحركات الثورية، فبيَّن له أحد الحاخامات أن الشباب اليهودي كان بعيداً كل البعد عن الحركات الثورية والفوضوية حينما كان يتلقى تعليماً دينياً تقليدياً، وأن هذه الظاهرة لم تَبرُز إلا بعد أن انخرطوا في المدارس العلمانية التي أسسها القياصرة.


3 ـ ويمكن أن نضيف إلى هذا أن اليهود كانوا يشكلون جماعة وظيفية وسيطة في المجتمع الغربي لعدة قرون، فأصبحت سمات الجماعة الوظيفية من سماتهم الأساسية. ويوجد أعضاء هذه الجماعات داخل المجتمع وخارجه في وقت واحد، فهم على هامشه لا يخضعون لقوانينه، ولكن عليهم التعامل معه، ولذا كان عليهم أن يفهموا هذه القوانين، حيث إن علاقاتهم بالمجتمع علاقات موضوعية غير حميمة، فهم ينظرون إلى المجتمع بطريقة تحليلية تفكيكية تعاقدية نقدية، وخصوصاً أنهم من القرب بحيث يمكنهم فهم آلياته، كما أنهم بعيدون بقدر يُمكِّنهم من الاحتفاظ بالمسافة النقدية. وأعضاء الجماعات الوظيفية هم من أولى القطاعات في المجتمع التي تتم علمنتها وتجريدها من القداسة، وصبغها بالصبغة الموضوعية. وبالتالي، فإن أعضاء الجماعات الوظيفية الوسيطة هم أول من يحمل الفكر العلماني النفعي الدنيوي وينشره ويذيعه. 


4 ـ يُقال إن النزعة المشيحانيّة عند اليهود، والتي أخذت شكلاً علمانياً عند المثقفين اليهود الغربيين، تساهم في إضعاف الأواصر التي تربط بين اليهودي وبين المعطيات التاريخية والاجتماعية، الأمر الذي يجعله أكثر رفضاً للمجتمعات التي يوجد فيها، وأشد عمقاً في نقده لها، وأكثر موضوعية. ويُلاحَظ أن المثقفين اليهود من أكثر العناصر تطـرفاً في الحـركات الثورية والفـوضوية والعدمية (تروتسكي ـ روزا لوكسمبورج... إلخ). 


5 ـ ويمكننا هنا أن نحاول تقديم فرضية تلقي بعض الضوء على بروز المثقفين اليهود في الحضارة العلمانية، وهذه الفرضية تستخدم نموذج الحلولية الكمونية (وتَصاعُد معدلاتها داخل النسق الديني اليهودي وداخل الحضارة الغربية) لتفسير هذا التَميُّز. ويمكن القول أن ثمة تشابها بنيويا شبه كامله بين وحدة الوجود الروحية (لا موجود إلا هو، أي الإله) ووحدة الوجود المادية (لا موجود إلا هي، أي المادة). وهنا، فإننا نذهب إلى أن بروز المثقفين اليهود في الحضارة الغربية بدأ حينما بدأت هذه الحضارة في تَبنِّي أنساق فكرية حلولية كمونية (البروتستانتية - النزعة الإنسانية الهيومانية - النزعة العقلانية المادية). فهؤلاء المثقفون اليهود، بخلفيتهم الحلولية، وبإنكارهم إمكانية تجاوز المادة كانوا مهيئين بشكل كامل لامتلاك ناصية الخطـاب الحضـاري العلـماني، ومن ثم تحقـيق البروز من خـلاله. ولعل الأهمية المركزية لإسبينوزا تتضح من خلال هذا النموذج التحليلي. فهو أول مثقف يهودي حقق بروزاً واضحاً في العصر الحديث، ويعود هذا إلى أنه ربط بين النسقين الحلوليين، الروحي والمادي، وعادل بين الإلهي والطبيعي، ومن ثم فقد عَلْمَن الحلولية تماماً وجعلها تصب في الأنساق المادية والعلمية. 


6 ـ يُلاحَظ أيضاً تَركُّز اليهود في حقل الإعلام، خصوصاً في الصحافة والإذاعة، وهو ما جعلهم في موقع يُمكِّنهم من تسليط الأضواء على الأنشطة التي يقومون بها وإعطائها من الأهمية ما تستحق وربما أكثر مما تستحق. كما أن اليهود الجدد متمركزون في المدن، وهي مراكز صنع القرار في كل أنحاء العالم. فضلاً عن أنهم بانتقالهم إلى الضواحي لم يبعدوا كثيراً عن هذه المراكز، إذ أن معظم أعضاء النخبة في الولايات المتحدة يوجدون في هذه الضواحي. ويمكن أن نضيف أيضاً أن ارتفاع دخل المواطن الأمريكي اليهودي بالنسبة إلى المعدل القومي قد زاد من بروزهم، وكذلك تمركزهم في بعض المهن البارزة، مثل الطب والجامعات والمراكز العلمية. 


7 ـ ويجب التأكيد ـ كما أسلفنا ـ على أن بروز المثقفين اليهود في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لا يعود إلى أنهم يهود، بل إلى أنهم أمريكيون يوجدون داخل الحضارة الغربية، وهي الحضارة المهيمنة على معظم المصادر الطبيعية في العالم، والتي نجحت في تأسيس بنيتها التحتية، وبالتالي بإمكان أي شخص ينتمي إليها أن يُحقِّق كل إمكانياته الفكرية والإبداعية. 


كما أن الحضارة الغربية، بسـبب هيمنتها على معظم أرجـاء العـالم، تنسب لنفسها صفة العالمية وتسلط عليها الأضواء. والمفكرون البارزون من أعضاء الجماعات اليهودية يتمتعون بهذه المزايا. ولعل ظاهرة العرب من أصل مصري أو لبناني أو فلسطيني وغيرهم (فاروق الباز ـ إدوارد سعيد) ممن يُحقِّقون بروزاً في الحضارة الغربية تُلقي بعض الضوء على الظاهرة نفسها بين أعضاء الجماعات اليهودية. فلو قُدِّر لهؤلاء البقاء في بلادهم فلربما أُجْهضَت إمكاناتهم بسبب الحدود المادية. وربما حتى لو تحققت إمكاناتهم لما وُصفت بالعالمية ولما سُلطت عليها الأضواء. 


هذه هي بعض العناصر التي تَصلُح في مجملها لتفسير معظم جوانب هذه الظاهرة. ومع هذا يجب ألا نَسقُط في الاختزالية والواحدية بألا نعطي أية قدرة تفسيرية للبُعد اليهودي في تَميُّز العباقرة (والمنحرفين) من أعضاء الجماعات اليهودية. وكل ما نفعله هنا هو أننا ننكر على مثل هذا البُعد أية أولوية أو مركزية تفسيرية. فالبُعد اليهودي لا يُفسِّر تَميُّز اليهود وبروزهم ولكنه يُساهم ولا شك في تفسير حدَّته ودرجته ونسبته. 


ويمكننا أن نقول إن آليات المجتمع العلماني التي أدَّت إلى بروز اليهود هي ذات الآليات التي قد تؤدي إلى اختفائهم وانصهارهم، فالمجتمع العلماني يزداد ترشيداً وتطبيعاً ويتطلب من أعضائه كافة أن يُعيدوا صياغة ذاتهم حتى تزداد كفاءتهم في الأداء العام، وهو ما يعني ضرورة التخلص من كل الخصوصيات والنتوءات. فإنسان عصر الاستنارة والعقل المادي إنسان عالمي لا يتمتع بأية خصوصية. كما أن عملية الدمج في المجتمع العلماني لا تتم من خلال الدمج بين هويات دينية وإثنية مختلفة وإنما تتم من خلال نزع جميع الهويات أو إخفائها أو تهميشها حتى يكتسب الجميع هوية علمانية عامة تُزيد كفاءتهم في الأداء في رقعة الحياة العامة. وبما أن أعضاء الجماعات اليهودية ليسوا استثناء من القاعدة، فنحن نتنبأ بأن يتزايد اندماجهم وانصهارهم في الغرب إلى أن يختفي بروزهم ويصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الآلة ذات الكفاءة الكبرى.


الجريمة اليهودية 
Jewish Crime 
«الجريمة اليهودية» مصطلح يفترض وجود جرائم ذات خصوصية يهودية (أي جرائم مقصورة على أعضاء الجماعات اليهودية وتتبع نمطاً بعينه وتأخذ أشكالاً بعينها). ومن ثم، فإن يهودية اليهودي هي النموذج الذي يمكن من خلاله تفسير وتصنيف السلوك الإجرامي لبعض أعضاء الجماعات اليهودية. وحيث إننا لم نعثر على مثــل هذا النموذج، فإننا نؤثر استخدام مصطلح «المجرمون من أعضـاء الجماعات اليهودية» باعتبـار أن النمـوذج الكـامن وراءه ذو مقـدرة تفسيرية وتصنيفية أعلى، كما أنه ينطوي على دعوة إلى أن يدرس الباحث كل حالة إجرامية يرتكبها عضو من أعضاء الجماعات اليهودية على حدة، داخل ملابساتها الخاصة وإطارها الحضاري. 


ولا يمكننا التحدث عن «الجريمة اليهودية» أو «خصوصية الإجرام اليهودي» تماماً كما لا يمكننا الحديث عن «الجوهر اليهودي» أو عن «التاريخ اليهودي» أو عن «العبقرية اليهودية»، إذ أن الجماعات اليهـودية في العالم لا تعيـش تحت ظروف خاصة بها مقصورة عليها. ولذا، فإننا نجد أن معدلات الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية لا تختلف بشكل جوهري عن المعدل السائد في المجتمع أو بين الأقليات الأخرى في المجتمع. ولذا، فنحن نتحدث عن «المجرمين من أعضاء الجماعات اليهودية». 


المجرمــون مــن أعضــاء الجماعــات اليهوديـة 
Criminal Elements from Jewish Communities 
من المعروف أن النسق الأخلاقي الذي تطرحه العقيدة اليهودية (حينما تكون تعبيراً عن الطبقة التوحيدية الكامنة فيها) يشبه، في كثير من الوجوه، الأنساق الأخلاقية التي تطرحها الديانات السماوية. فالقتل والزنى والسرقة والشذوذ الجنسي والجماع مع المحارم، كلها أمور مُحرَّمة يعاقب عليها القانون الديني. ولتفسير السلوك الإجرامي لأحد أعضاء الجماعات اليهودية، لابد من العودة لحركيات وقيم المجتمع الذي يعيش فيه هذا اليهودي، ولابد من دراسة القوانين الاجتماعية والجنائية والظروف الاقتصادية والعناصر الأخرى كافة. 


ومع هذا، يمكن ملاحظة أن بعض الأنماط المتكررة يمكن تفسيرها على أساس أن الجماعات اليهودية تُشكِّل أقليات وجماعات وظيفية، علماً بأن أعضاء الأقلية يخضعون عادةً لحركيات المجتمع ولكنهم يشعرون بها بشكل أكثر حدة، كما توجد بينهم دوافع وضوابط مختلفة إلى حدٍّ ما عن تلك التي توجد في المجتمع ككل. ولكن، قبل الاسـتمرار في الدراسة، تجب الإشارة إلى أن بعض الأرقام الموجودة لدينا غير موثوق فيها بسبب عنصرية النموذج الإحصائي والتفسيري الذي تم بمقتضاه جمع المادة. كما أصبح العكس صحيحاً الآن؛ إذ ترفض كثير من الدول الغربية أن تكشف عن الانتماء الديني أو الإثني للمجرم خوفاً من إشاعة صورة عنصرية كريهة عن أعضاء الأقليات. وبعد هذا التحفظ، يمكن القول بأنه قد لُوحظ، على سبيل المثال، أن نسبة الجريمة بين أعضاء الجماعة اليهودية تكون أحياناً أقل من النسبة العامة في المجتمع، وقد تكون مساوية لها أو أعلى منها، ولكن لكل وضع تفسيره. ويمكن استخدام الأحكام الصادرة ضد أعضاء الجماعة كمؤشر. ولكننا لن نقدِّم هنا عرضاً لأنماط الجريمة بين العبرانيين وأعضاء الأقليات اليهودية عبر التاريخ وفي مختلف المجتمعات، ذلك لأن مثل هذا العرض سيشغل حيزاً ضخماً، إلى جانب أن ما نهدف إلىه في هذا المدخل هو أن نُبيِّن مدى الخصوصية أو العمومية في ظاهرة الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية. ولهذا، فإننا س�
ة الأزبكية. فألَّف فرقة مسرحية من تلاميذه وكان هو مدير المسرح ومؤلف التمثيليات، كما كان يقوم أحياناً بدور الملقن. وكان يُقدِّم تمثيليات مُترجَمة عن الفرنسية والإنجليزية والإيطالية. وقد أعجب به الخديوي في أول الأمر وخلع عليه لقب «موليير مصر» (ولكنه قام بتعنيفه حينما كتب مسرحية عن تَعدُّد الزوجات(. 


ولكن يعقوب صنوع لم يكن يتحرك داخل دائرة البلاط الملكي والمسرح وحسب، إذ بدأ يحتك بالدائرة الفكرية التي تَحلَّقت حول جمال الدين الأفغاني، الذي شجعه هو والشيخ محمد عبده على الكتابة في الصحـف، بل وعلى إنشـاء صحـيفة عـربية تُكتَب بالعامية. وحكى لنا يعقوب صنوع كيف وقع اختياره على اسم أبو نظارة. فبعد أن قرر تأسيس مجلة خرج من بيت الأفغاني فأحاط به المكارية (أصحاب الحمير) وكان كل واحد منهم يريد أن يختار يعقوب حماره، ويقول: « ده يا أبو نظارة »، فأعجبه النداء واختاره اسـماً لصحيفته. وقد أعـجب بهذا الاسم كثيرون من أصدقاء يعقوب، حيث يوحي بأن صاحبه رجل يرى من بعيد، وفي ذلك ما يعني أنه رجل ملهم (ذو نظر) لا تفوته فائتة. وكانت الصحيفة ذات تَوجُّه اجتماعي ناقد؛ فنددت بزيادة الضرائب والتدخل الأجنبي وهاجمت الوزراء بأسلوب ساخر ملتو ونكات وفكاهات، وشجعت المصريين على الشكوى وبصَّرتهم بحقوقهم. 


وهنا لابد أن نتوقف عند علاقة يعقوب صنوع بالماسونية، إذ يذكر الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى أن يعقوب صنوع وجمال الدين الأفغاني قد نشطا في التنظيمات الماسونية، وأن هذه التنظيمات لعبت دوراً « في دعم الحركة الوطنية المصرية الوليدة ». وقد بيَّنا في مدخل الماسونية في هذه الموسوعة أنه لا توجد ماسونية واحدة بل عدة ماسونيات. وكانت التنظيمات الماسونية في بلاد أفريقيا وآسيا تضم الأجانب بالدرجة الأولى، حيث كانوا يتمتعون بمزايا وحقوق خاصة وبمساندة القناصل الأوربيين. وقد استخدمت كل دولة أوربية المحفل الماسوني التابع لها كأداة في صراعها الاسـتعماري بين بعضـها البعض. وقد استفاد كثير من زعماء الحركات الوطنية من هذا الوضع، تماماً كما يحدث الآن حين يتمتع زعيم حركة وطنية بدعم فرنسا على سبيل المثال فيُعطَى حق اللجوء السياسي للإقامة في باريس، بل وممارسة نشاطه السياسي. ووجود مثل هذا الزعيم يمثل بالنسبة لدولة المأوى ورقة ضغط في صراعها مع القوى الغربية الأخرى. كما أن هناك دائماً احتمال أن يصل إلى الحكم، ولذا فمن الحكمة أن تَبقَى الجسور مفتوحة معه. وفي هذا الإطار يمكن فهم انضمام يعقوب صنوع والأفغاني لمثل هذه التنظيمات وترحيبها بهما وبغيرهما من المثقفين والسياسيين الثوريين. 


وقد أدَّى تَوجُّه مجلة أبو نظارة إلى مصادرتها المستمرة ولذا كان يعقوب صنوع يضطر لتغيير اسمها، فهي مرة أبو نظارة ومرة أخرى أبو نظارة زرقاء وثالثة رحلة أبي نظارة زرقاء ورابعة النظارة المصرية. بل وكان يصدر ما يسميه إبراهيم عبده «مجلات الضرورة» (الضرورة التي فرضتها عليه القوانين المتعسفة) فكان يصدر المجلة تلو الأخرى فلا يُغيِّر سوى اسمها، فهي أبو صفارة وحينما أغلقت أبو صفارة ظهرت أبو زمارة التي جاء في افتتاحيتها التي تعبِّر عن روح الدعابة المصرية ما يلي: « بسـم الله الرحـمن الرحـيم، الحمـد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أنبيائه أجمعين. أما بعد فيقول العبد الحقير أبو زمارة. لما بلغني بأن صدر أمر من ناظر الخارجية. بقفش وكسر الصفارة. الساعية في استحصال التمدن والحرية. قلت ياربي نور عقلي وفهمي. وانصرني على الواد الأمرد مصطفى فهمي. إللي أمر بتعطيل صفارتي البهية. العزيزة عند الشبان المصرية ». 


وحينما أغلقت أبو زمارة صدرت مجلة الحاوي التي وصفها صاحبها بأنها «الحاوي الكاوي إللي يطلَّع من البحر الداوي عجايب النكت للكسلان والغاوي ويرمي الغشاش في الجب الهاوي».




ويقول الدكتور عبد الرحيم مصطفى إن يعقوب صنوع قام بتأسيس جمعيتين علميتين أدبيتين أطلق على أولاهما اسم «محفل التقدم»، وعلى الثانية اسم «محفل محبي العلم» وترأسهما بنفسه. وفي هاتين الجمعيتين كانت تُلقَى المحاضرات عن تَقدُّم الآداب والعلوم في أوربا مع الاهتمام بالتاريخ والسياسة والأدب والممارسات التعليمية والإشارة بوجه خاص إلى ما حققته فرنسا وإيطاليا في هذا المضمار. وأشار يعقوب صنوع إلى أنه كان يَحضُر اجتماعات كل من الجمعيتين المسلمون والمسيحيون واليهود، وأن الجمعيتين لقيتا الإقبال من طلبة الأزهر وكبار ضباط الجيش، كما ذهب إلى أنهما هما اللتان وفرتا الإطار فيما بعد لظهور الحزب الوطني (القديم). 


وقد أغلقت الجمعيتان ونُفي يعقوب صنوع إلى خارج البلاد عام 1878 فاستقر في باريس إلى آخر حياته. وهناك التقى بأديب إسحاق والأفغاني ومحمد عبده وإبراهيم المويلحي وخليل غانم ثم مصطفى كامل وغيرهم، وواصل دعايته للقضية الوطنية بعد الاحتلال البريطاني، فأصدر العديد من الصحف بالعربية والفرنسية. وأخذ يتنقل في أوربا للدفاع عن وطنه واشترك في الحملات التي شُنَّت على الخديوي إسماعيل والاحتلال البريطاني، وراسل عرابي في منفاه في سيلان، وعبَّر عن ابتهاجه بانتصار اليابانيين على قوة غربية بيضاء مثل روسيا القيصرية. 


وقد ظل يعقوب صنوع شأنه شأن كثير من رواد الحركة الوطنية في مصر يتصور أن بعض القوى الغربية (فرنسا على وجه التحديد) يمكنها أن تساعد المصريين ضد الاحتلال الإنجليزي، ولكن خابت آماله عام 1904 بعد توقيع صفقة الاتفاق الودي بين فرنسا وإنجلترا التي تم بمقتضاها حسم التناقضات بين القوتين الاستعماريتين. وقد ظل يعقوب صنوع يُعبِّر عن إعجابه بالسلطان عبد الحميد طيلة عشرين عاماً نتيجة مقاومته الأطماع الأوربية (وكان السلطان يبادله الإعجاب). ومع هذا رحَّب يعقوب صنوع بدستور 1908 ظناً منه أنه بداية حقيقية للإصلاح وللتصدي للنهم الاستعماري الغربي. 


وقد كتب يعقوب صنوع قصيدة بالعربية الفصحى بعنوان «القول الوجيز في دخول الإنجليز » وكيف سلمها الخونة للغزاة جاء فيها: 


مصر الفتاة أبو سلطان أسلمها 


وإنما أسلم الإسلام بالذهب 


هم رأسوه على النواب يرشدهم 


فكان نائبه من أكبر النوب 


وقد أثارت لهيب النار ندوته 


فصار أولى بأن يُدعَى أبا لهب 


تبت يداه على ما جاء من عمل 


لم يأته خائن في سالف الحقب 


ولا يمكن القول بأن القصيدة من عيون الشعر العربي، فهي لا تختلف كثيراً عن مثل هذه القصائد التي تُكتَب في المناسبات وتتبع قوالب لفظية ومجازية جاهزة. ولكن ما يهمنا هنا هو المصطلح العربي الإسلامي الواضح. 


وتتبدَّى عبقرية يعقوب صنوع بشكل أوضح وأكثر بلورة حين يترك الخطاب البلاغي التقليدي ويستخدم روح الفكاهة المصرية ويُعبِّر عن الشخصية المصرية، كما في مقاله الفكاهي عن الخديوي إسماعيل الذي يتحدث فيه عن « مناقبه » فقال: « وكفاك أنه لا يعـرف مـعـروفاً ولا ينكر مُنكَراً. ولا يُوجَـد في وقـت الصـلاة إلا جُنباً. وفي رمضان إلا مُفطراً. نعم يصوم ولكن عن الخيرات. ويستقبل الفجور متلطخاً بنجاسة الفحشاء. فاجر يقتات بالكبائر. ويتَفكَّه بالصغائر. ويروح من مولاه شاكياً ولشيطانه شاكراً، فكأنه عاهد إبليس فلم يَخُن له عهداً، ووعده أن يجد عنده كل معصية فلم يُخلف له وعداً ». 


ورغم أن المقال مكتوب بالفصحى إلا أنه كُتب على طريقة كُتَّاب هذه المرحلة، كما أنه يتلاعب بالألفاظ وبترابطها بطريقة تُصعِّد حدة السخرية والفكاهة. 


ولكن عبقرية يعقوب صنوع الحقيقية تظهر في استخدامه العامية المصـرية للتعبير عن روحه الفكاهية فالخديوي هو « شيخ الحارة»، والخديوي توفيق هو «توقيف»، والفلاح المصري هو «أبو الغُلب » وهكذا، وقد أشرنا من قبل إلى افتتاحيات أبو زمارة والحاوي . وتظهر روح الدعابة المصرية في القصيدة الساخرة التي كتبها يعقوب صنوع بعد نشوب الثورة المهدية في السودان والتي يُشيد فيها بشجاعة السودانيين ويُشهِّر بالإنجليز: 


يا محلا لنجليزية 


أم عين زرقا وشعر أصفر 


ياخسارة دالصبية 


في جوزها العسكري الأحمر 


شفتها امبارح يااسيادي 


ماكنش حولها انجليز 


فقلت لها ياميليدي (My lady) (1) 


جيـف مي إي كيــس إيف يو بليز(Give me a kiss if you please) (2) 


أنا في عرضك وان كيس (One kiss)(3) 


قالت جودام بلادي فول (Goddam bloody fool) (4) 


بلا فول بلا شعير 


ماتتبغدديش علي 


أنا ابن المهدي الكبير 


احلمي علي شوية 


فشفنا المهدي منصور 


والجردون في الشق مكتوم 


تاني يوم جابوه أسير 


في مصيدة سودانية 


أمام المهدي الشهير 


مع ضباطه لنجليزية


 )ومعنى العبارات الإنجليزية على التوالي هو: 1) سيدتي ـ 2) أعطيني قبلة واحدة من فضلك ـ 3) قبلة واحدة ـ 4) لعنة الله عليك يا مجنون). والقصيدة كما نرى مصرية تماماً، تُعبِّر عن الروح الشعبية المصرية أحسن تعبير، في محاولتها استيعاب الآخر المعتدي داخل منظومتها وتحويله إلى مجرد هدف للسخرية. 
وحينما هُزمت الثورة المهدية بكَّت يعقوب صنوع المصريين على تَخاذُلهم وسخر من الإنجليز الذين مَثَّلوا بجثة المهدي بعد استرجاع السودان. 


والآن، هل يمكن ليهودي خالص، صاحب عبقرية يهودية خالصة أن يأخذ مثل هذه المواقف الفكرية والسياسية، وأن يستخدم الفصحى والعامية بهذه الطريقة، وأن يترجم مواقفه السياسية اللاذعة المعارضة إلى مجموعة من النكت اللاذعة؟ السؤال بطبيعة الحال خطابي غير حقيقي، فلا يمكن أن يفعل هذا إلا مصري عاش في صميم المجتمع المصري (لا في مسامه) وتَشرَّب خطابه الحضاري المصري العربي الإسلامي؛ مصري كتب له إمام المسجد الشعراني حجاباً ونذرته أمه لخدمة الإسلام والمسلمين فعاهد أمه على الوفاء بنذرها، فهو ثمرة رائعة للمجتمع المصري (العربي الإسلامي) بتركيبيته وعراقته وتَسامُحه! ومع هذا لابد أن نشير إلى أن البُعد اليهودي قد يُفسِّر حركية يعقوب صنوع الزائدة وقدرته الفائقة على التحرك داخل تشكيلات حضارية مختلفة واستيعابها وتَعلُّمه العديد من اللغات. ومع هذا يظل انتماؤه إلى مجتمعه المصري العربي المسلم هو العنصر الأكثر تفسيرية. 


ويثير أبو نظارة قضية الهوية اليهودية والثقافة اليهودية، إذ تصنفه المراجع الصهيونية باعتباره « مثقفاً يهودياً » وهو تصنيف لا يُفسِّر أياً من الجوانب المهمة من حياته، أدبية كانت أم سياسية، وهي حياة لا تُفهَم في كليتها إلا بالعودة إلى حركيات المجتمع المصري وتقاليد الفكاهة المصرية وحركة التحرر الوطني في مصر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.


هـاري هوديني (1874-1926(
Harry Houdini 
اسمه الأصلي إريك فايز. ساحر استعراضي أمريكي يهودي وُلد في الولايات المتحدة لعائلة يهودية من رجال الدين من أصل مجريّ. التحق في سن مبكرة بالسيرك لتقديم الاستعراضات البهلوانية، ثم انتقل مع عائلته إلى نيويورك حيث بدأ في تقديم الاستعراضات السحرية واتخذ اسم هاري هوديني. وتميَّزت استعراضاته بالإبهار وبالحيل السحرية الفذة وتَخصَّص في عملية الهرب من السلاسل أو الحبال والأماكن المُحكَمة الإغلاق. وقد أصبح هوديني من أكثر مقدمي الاستعراضات شهرة في عصره وأعلاهم أجراً، وقدَّم عروضه في العديد من الدول وأصبح يُشار إليه بلقب «أعظم ساحر في العالم»، كما ساهم في تأسيس نادي السحرة في لندن وفي تأسيس جمعية السحرة الأمريكيين. 
وقد اعتمد هوديني في تقديم عروضه على درايته بعلم الميكانيكا وعلى المؤثرات البارعة وعلى اللياقة البدنية الفائقة. كما اهتم بفضح الدجالين والمشعوذين وتحذير الجمهور ممن يدَّعون امتلاك قدرات خارقة للطبيعة أو اتصالهم بالأرواح. وقد ألَّف كتابين في هذا الشأن: تجار المعجزات وأساليبهم (1920)، و ساحر بين الأرواح (1924). 


ومن الصعب بمكان محاولة تفسير مقدرات هوديني بناءً على انتمائه اليهودي. والتفوق في مجال الرياضة التي تعتمد على القوة العضلية هو إحدى الطرق المفتوحة والسهلة التي يمكن لعضو الأقلية إثبات تَفوُّقه من خلالها، وهو أمر ليس مقصوراً على أعضاء الجماعات اليهودية وحدهم. فمجال الملاكمة في الولايات المتحدة شهد في بداية الأمر تفوق الملاكمين من أصل إيطالي ثم الملاكمين من أصل أفريقي (وأشهرهم محمد علي كلاي). وانتصار عضو الأقلية في حلبة المصارعة على ممثل الأغلبية يرفع معنويات أعضاء الأقلية بدرجة ملحوظة. 


ألبـرت أينشـتاين (1879-1955) 
Albert Einstein 
عالم طبيعة، ومكتشف نظرية النسبية وحائز على جائزة نوبل. وُلد في ألمانيا ونشأ وتَعلَّم فيها، وعمل بعد تَخرُّجه في مكتب براءات الاختراع بمدينة برن في سويسرا وأصبح مواطناً سويسرياً. تَمكَّن أثناء هذه الفترة من إنجاز عدة أبحاث. وفي عام 1905، نشر دراسات عن: النظرية الخاصة بالنسبية وعلم البصريات، وعُيِّن أستاذاً على أثر ذلك في عدة جامعات بألمانيا. وفي عام 1920، نشر دراسته عن: النسبية العامة والنسبية الخاصة، حيث بيَّن أن مبدأ النسبية ينطبق على الحركة وشرح فكرة البُعد الرابع وانثناء الفـراغ. 


ويُعَدُّ ألبرت أينشتاين أحد رواد الفيزياء الحديثة، فهو صاحب نظرية النسبية الخاصة التي نجحت في التوصل إلى أساس لعلاج التناقضات بين نظرية نيوتن للحركة ونظرية ماكسويل للحركة الكهرومغناطيسية. وكان من أهم نتائج النسبية الخاصة مفهوم تَداخُل الزمان والمكان وتَرادُف الطاقة والكتلة. وقد تبع ذلك بالنظرية النسبية العامة التي تُعتبَر تعميماً للنسبية الخاصة حيث تتضمن حركة الأجسام تحت تأثير الجاذبية. وبالإضافة إلى نظرية النسبية، ساهم أينشتاين في تطوير النظرية الكمِّية من خلال تفسير التأثير الكهروضوئي. وترتكز النظرية الكمية على مبدأ ازدواجية المادة، وهو أن الجسيم يأخذ أحياناً شكل الموجة وأن الموجة تأخذ أحياناً شكل الجسيم. 


وبعد أن فرغ من صياغة النظرية النسبية العامة، انشغل أينشتاين في مسألتين: المسألة الأولى تفنيد مبدأ اللايقين الذي يفترض استحالة دقة قياس نقطة ما وسرعة جسيم في آن واحد من حيث المبدأ (لا من حيث قصور آلات القياس)، أو بصياغة أخرى: مبدأ استحالة فصل التجربة عن المجرب. والمسألة الثانية هي وضع نظرية عامة واحدة تفسِّر أنواع القوى (التفاعلات) الأولية كافة، ولكنه لم يكن موفقاً في محاولاته هذه. 


وفي عام 1933، اضطر أينشتاين إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة بعد أن استولى هتلر على السلطة. وأصبح أينشتاين مواطناً أمريكياً، واستمر في بحوثه العلمية. ولكنه كان قد بدأ يدرك أن العلم أصبح مثل حدِّ موسي في يد طفل في الثالثة من عمره، إذ أدَّى امتلاك وسائل الإنتاج العجيبة في تَصوُّره، إلى تزايد القلق والجوع بدلاً من الحرية. 


وقد لعب أينشتاين دوراً مهماً في تطوير القنبلة الذرية أثناء الحرب، ولكنه عارض استخدامها بل وطالب بتحريم القنابل الذرية والهيدروجينية. وأثناء الحقبة المكارثية (الإرهابية) طالب أينشتاين العلماء بألا يدلوا بشهادتهم أمام لجان التحقيق. وقد استمر أينشتاين في أبحاثه العلمية حتى وفاته. 


وموقف أينشتاين من الإله والدين يستحق بعض التأمل، وهو موقف يشبه موقف كثير من المفكرين العلمانيين الذين فقدوا الإيمان الديني، ولنبدأ بموقفه من الإنسان. لقد أدرك أينشتاين أن الإنسان كيان غريب مليء بالأسرار، فقد صرح ذات مرة أن « قانون الجاذبية غير مسئول عن الحب »، أي أن القانون الطبيعي لا يُفسِّر الوجود الإنساني، ولكنه اتجه في بعض تصريحاته إلى ما يمكن تسميته «الديانة الإنسانية» فعبَّر عن إعجابه بمقدرة الإنسان على فهم ما حوله، ورأى أن هذه المقدرة شكل من أشكال التفوق اللانهائي على الطبيعة، ومن هنا فإن الإنسان يقع عليه عبء أخلاقي، ولكن مسئوليته الأخلاقية تكون تجاه نفسه وليس تجاه أي إله. 


بيد أن هذه ليست نهاية القصة، إذ يستمر تأرجحه دون تَوقُّف فيصرح بأن الإله لا يلعب بالعالم، أي أن العالم يتبع نظاماً واضحاً يتجلى من خلال الإرادة الإلهية. ولكن هذا الإله يشبه من بعض النواحي إله إسبينوزا. فهو ليس إلهاً ذا إرادة يحب البشر ويعطف عليهم، يُثيب الناس ويعاقبهم، وإنما هو مبدأ آلي عام. ولكن العَالم الكبير، صاحب نظرية النسبية، يجد أن هذا الموقف لا يُعبِّر عن الحقيقة كلها، ويؤكد أن العلم الحديث ألقى بظلال من الشك على السببية الآلية التي تشكل إطار الرؤية الإسبينوزية الساذجة. 


ولم يكن موقف أينشتاين، في بداية حياته على الأقل، رافضاً للصهيونية. فقد نشأ وتعلَّم في ألمانيا. ولذا، فإننا نجد أنه كان يؤمن بفكرة الشعب العضوي، وبأن السمات القومية سمات بيولوجية تُوَّرث وليست سمات ثقافية مكتسبة. وقد صرح أينشتاين بأن اليهودي يظل يهودياً حتى لو تخلى عن دينه، وهذه مقولة أساسية في معاداة اليهود على أساس عرْقي. وليوضح فكرته، شبَّه أينشتاين مثل ذلك اليهودي بالحلزون الذي يظل حلزوناً حتى بعد أن يُسقط محارته. وموقفه من معاداة اليهود، في هذه المرحلة، لا يختلف كثيراً عن موقف الصهيوني، فقد كان يرى أن معاداة اليهود مسألة ستظل موجودة مادام هناك احتكاك بين اليهود والأغيار، بل وأضاف أن اليهود مدينون لأعدائهم بأنهم استمروا عرْقاً مستقلاًّ. 


وقد أدلى أينشتاين بتصريح ذي مضمون صهيوني عرْقي، إذ صرح (قبل ظهور النازيين) بأنه ليس مواطناً ألمانياً، ولا حتى مواطناً ألمانياً من أتباع العقيدة اليهودية، وإنما يهودي ويسعده أن يظل يهودياً. وقد عبَّر أينشتاين في عدة مناسبات عن حماسه للمشروع الصهيوني وتأييده له، بل واشترك في عدة نشاطات صهيونية. 


ولكن موقف أينشتاين هذا لم يكن نهائياً، وربما كان تعبيراً عن عدم نضج سياسي، إذ عَدَل عن هذه المواقف فيما بعد، فقد صرح بأن القومية مرض طفولي، وبأن الطبيعة الأصلية لليهودية تتعارض مع فكرة إنشاء دولة يهودية ذات حدود وجيش وسلطة دنيوية. وأعرب عن مخاوفه من الضرر الداخلي الذي ستتكبده اليهودية، إذا تم تنفيذ البرنامج الصهيوني، فقال: « إن اليهود الحاليين ليسوا هم اليهود الذين عاشوا في فترة الحشمونيين »، وفي هذا رَفْض للفكر الصهيوني ولفكرة التاريخ اليهودي الواحد. ثم أشار إلى أن «العودة إلى فكرة الأمة، بالمعنى السياسي لهذه الكلمة، هي تَحوُّل عن الرسالة الحقيقية للرسل والأنبياء ». ولهذا السبب، وفي العام نفسه، فسَّر انتماءاته الصهيونية وفقاً لأسس ثقافية، فصرح بأن قيمة الصهيونية بالنسبة إليه تكمن أساساً في « تأثيرها التعليمي والتوحيدي على اليهود في مختلف الدول ». وهذا تصريح ينطوي على الإيمان بضرورة الحفاظ على الجماعات اليهودية المنتشرة في أرجاء العالم وعلى تراثها، كما يشير إلى إمكانية التعايش بين اليهود وغير اليهود في كل أرجاء العالم. وفي عام 1946، مَثل أمام اللجنة الأنجلو أمريكية وأعرب عن عدم رضاه عن فكرة الدولة اليهودية، وأضاف قائلاً: « كنت ضد هذه الفكرة دائماً ». وهذه مُبالَغة من جانبه حيث إنه، كما أشرنا من قبل، أدلى بتصريحات تحمل معنى التأييد الكامل لفكرة القومية اليهودية على أساس عرْقي. 


والشيء الذي أزعج أينشتاين وأقلقه أكثر من غيره هو مشكلة العرب. ففي رسالة بعث بها إلى وايزمان عام 1920، حذر أينشتاين من تجاهل المشكلة العربية، ونصح الصهاينة بأن يتجنبوا «الاعتماد بدرجة كبيرة على الإنجليز »، وأن يسعوا إلى التعاون مع العرب وإلى عَقْد مواثيق شرف معهم. وقد نبه أينشتاين إلى الخطر الكامن في الهجرة الصهيونية. ولم تتضاءل جهود أينشتاين أو اهتمامه بالعرب على مر السنين. ففي خطاب بتاريخ أبريل سنة 1948، أيَّد هو والحاخام ليو بايك موقف الحاخام يهودا ماجنيس الذي كان يروج فكرة إقامة دولة مشتركة (عربية ـ يهودية)، مضيفاً أنه كان يتحدث باسم المبادئ التي هي أهم إسهام قدَّمه الشعب اليهودي إلى البشرية. ومن المعروف أن أينشتاين رَفَض قبول منصب رئيس الدولة الصهيونية حينما عُرض عليه. 


وإسهامات أينشتاين في علم الطبيعة لا يمكن تفسيرها إلا باعتباره جزءاً من المنظومة العلمية الغربية. وقد يكون ليهوديته دور في تَوجُّهه نحو النسبية، ولكن المنظومة العلمية الغربية ككل تظل العنصر المحدد النهائي، إذ كان قد طُرح داخلها بضعة أسئلة تتطلب الإجابة، الأمر الذي جعل الجو مُهيَّئاً لتَغيُّر النموذج. 


مائيـر لانسـكي (1902 – 1983( 
Meyer Lansky 
مجرم أمريكي يهودي اسمه الأصلي مايير سوشو لانسكي. وُلد في بولندا وهاجر مع أسرته إلى الولايات المتحدة عام 1911. وقد بدأ حياته الإجرامية بسرقة السيارات ثم قام بتهريب الخمور والقتل بالأجر. ثم انتقل إلى ممارسة نشاطه في عالم القمار، وأصبح من كبار زعماء الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة. وقد كوَّن عصابة مع المجرم الأمريكي اليهودي بنجامين سيجل « بجزي » لحماية الملاهي الليلية نظير إتاوة منتظمة. وفي عام 1934، ساهم لانسكي في تأسيس الاتحاد القومي للجريمة الذي جمع في إطاره جميع العصابات وزعماء الإجرام في البلاد، وترأس مجلس إدارة هذا الاتحاد الذي عمل تحت قيادته على تحويل الجريمة في الولايات المتحدة إلى نشاط يتسم بقدر كبير من التنظيم والتنسيق والإدارة العلمية والترشيد، وأصبح يشرف على جملة من الأنشطة الإجرامية مثل القمار والدعارة والمخدرات والابتزاز والرشوة والفساد السياسي. وحينما حاولت السلطات الأمريكية القبض عليه بتهمة التَهرُّب الضريبي في عام 1970، تَمحَّك في أصله اليهودي وفرَّ إلى إسرائيل. ثم حاول الحصول على الجنسية بمقتضى قانون العودة، لكن طلبه رُفض. ومما يذكر، أن لانسكي كان من كبار المساهمين في المنظمات اليهودية، خصوصاً النداء اليهودي الموحَّد. وقد عاد إلى الولايات المتحدة عام 1972 حيث حوكم، ولكن تمت تبرئته من جميع التهم التي وُجِّهت إليه. 


ولا يمكن اكتشاف أية خصوصية يهودية في عبقرية لانسكي الإجرامية. فبروزه وتَميُّزه مرتبط بتَضخُّم قطاع اللذة في المجتمع مع تَصاعُد معدلات العلمنة فيه وانتشار الدعارة والقمار والمخدرات. وقد ظهرت مؤخراً دراسة تذهب إلى أن لانسكي لم يلعب هذا الدور المحوري والمركزي في الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة، وترى هذه الدراسة أنه في حين أن لانسكي كان بالفعل مجرماً وزعيم عصابة ذات صلة وثيقة بأهم رموز الإجرام في الولايات المتحدة وأخطرها، إلا أنه لم يَظْهر أبداً أي دليل يُثبت أو يؤكد بشكل قاطع أن لانسكي كان العقل المدبر والمحرك الرئيسي وراء الجريمة المنظمة، وأن هذه الادعاءات ليست سوى جزء من الأسطورة التي نُسجت من حوله. 


ليوبولد تريبر (1904-1982( 
Leopold Trepper 
عميل مخابرات سوفيتي سابق، ورئيس شبكة الجاسوسية التي عملت ضد ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية والتي عُرفت باسم «الأوركسترا الحمراء». وُلد في بولندا، وكان نشطاً في حركة الشبيبة الشيوعية البولندية، وسُجن عدة أشهر ثم انضم فيما بعد إلى المنظمة الصهيونية هاشومير هاتزعير، وذهب عام 1926 إلى فلسطين. وهناك، ارتبط بالحزب الشيوعي، واحتُجزَ عدة مرات بسبب نشاطه السري. ثم أصبح عضواً في الهستدروت، وترأس داخله جناح إيحود، أي الوحدة، والذي كان ينادي بوحدة الشيوعيين من اليهود والعرب. وبعد المؤتمر الأول لإيحود عام 1927، طُرد تريبر من فلسطين، فذهب إلى فرنسا ونشط هناك في القسم اليهودي للحزب الشيوعي الفرنسي. كما عمل أيضاً مع المخابرات السوفيتية، ولكنه اضطر مرة أخرى إلى الرحيل بعد أن كُشف النقاب في فرنسا عن شبكة تَجسُّس سوفيتية. 


وانتقل تريبر إلى الاتحاد السوفيتي حيث درس في الجامعة الشيوعية للعمال الغربيين في موسكو، ويبدو أنه تلقى إلى جانب ذلك تدريباً في الأعمال الاستخباراتية. وفي عام 1938 أُرسل إلى فرنسا وبلجيكا حيث لعب دوراً مهماً وحيوياً لصالح المخابرات العسكرية السوفيتية، ونجح في تأسيس وقيادة شبكة جاسوسية واسعة النطاق كان لها عملاء في مواقع مهمة داخل الجهاز العسكري الأمني في برلين. وقد أطلق جهاز مكافحة الجاسوسية الألماني على هذه الشبكة اسم «الأوركسترا الحمراء». ويبدو أن تريبر نجح إلى حدٍّ كبير في نشاطه، فقد حذر موسكو عام 1941 من الهجوم الألماني الوشيك وتنبأ بالتاريخ المحدد له، إلا أن ستالين تَجاهَل هذه التحذيرات حيث اعتبرها نوعاً من الإثارة البريطانية. 


وقد كان لشبكة التجسس دور حيوي في الإستراتيجية والتكتيكات السوفيتية خلال الحرب مع ألمانيا. إلا أن الألمان نجحوا في إلقاء القبض على تريبر عام1942 في باريس وحاولوا تجنيده ليعمل لصالح ألمانيا كعميل مزدوج. ويبدو أن تريبر تَظاهَر بقبول هذا العرض بناءً على أوامر سابقة لقيادته تَحسُّباً لمثل هذا الاحتمال واستطاع خلال سجنه تهريب تقرير مفصل حول ظروف اعتقاله ومدى الاختراق الألماني لشبكة التجسس. وقد نجح تريبر في الهروب بعد أقل من عام، وعاود مرة أخرى نشاطه الاستخباراتي. ولكن يبدو أن بعض الشكوك والشبهات قد أحاطت به، فعند عودته إلى موسكو عام 1945 تم إلقاء القبض عليه وسُجن لمدة عشرة أعوام تَعرَّض خلالها لعديد من الاستجوابات، وتم الإفراج عنه عام 1955 ورُد له اعتباره. وقد كرس تريبر مجهوداته بعد ذلك للشئون اليهودية. فقدَّم للقيادة السوفيتية خطة لإحياء المؤسسات والحياة الثقافية اليهودية في الاتحاد السوفيتي، إلا أن هذه الخطة رُفضت، فانتقل بعد ذلك إلى وارسو حيث ترأس، تحت اسم ليبا دومب، الجمعية الثقافية الاجتماعية اليهودية تحت رعاية الحكومة البولندية، كما ترأس دار النشر اليديشية التابعة لها. وفي عام 1968، قدم تريبر طلباً للهجرة إلى إسرائيل حيث كان بعض أفراد أسرته قد استقروا فيها، إلا أن السلطات البولندية رفضت طلبه. وقد أثارت الدوائر الصهيونية مسألة هجرته على المستوى العالمي، كما تم استغلال قضيته لإثارة الرأي العام العالمي ضد حكومة بولندا الاشتراكية وضد الاتحاد السوفيتي الذي كان يسود اعتقاد بأنه وراء موقف الحكومة البولندية. وفي تلك الآونة، قام عميل سابق للمخابرات الفرنسية هو جان روشيه باتهام تريبر على صفحات جريدة لوموند بأنه تعاون مع النازيين خلال الحرب، وبأنه خان رفاقه في المقاومة. ولكن تريبر أقام دعوى قذف ضد روشيه واستطاع أن يكسبها. 


وقد سمحت السلطات البولندية لتريبر في آخر الأمر، بالرحيل إلى إنجلترا لأسباب صحية، وفي عام 1974 استقر في إسرائيل. وفي عام 1975 نشر مذكراته بعنوان اللعبة الكبيرة والتي حاول فيها تأكيد دور شبكة «الأوركسترا الحمراء» في محاربة النازيين والدور البارز الذي لعبه اليهود في ذلك. وتُوفي تريبر عام 1982 ودُفن في القدس. 


وحيــاة تريبر المثيرة لا تختلف كثيراً عن حياة أمثاله من الجواسيس. أما هجرته لإسرائيل فهي لا تختلف عن هجرة المجرم لانسكي في دوافعها ولا علاقة لها بانتمائه اليهودي. 


آرثــر كوســـتلر (1905-1983( 
Arthur Koestler 
كاتب يهودي وُلد في المجر وتَعلَّم في النمسا وألمانيا. وغيَّر لغته من المجرية إلى الألمانية في سن السابعة عشرة، ثم من الألمانية إلى الإنجليزية في سن الخامسـة والثلاثين. وقد كان شيوعياً في الثلاثينيات، ولكنه رفض بعد ذلك المبادئ الشيوعية، ووصف تجربته (هو وآخرين) في كتاب الإله الذي هوى. وقد عبَّر كوستلر عن اشمئزازه من العصر الحديث في قصته الشهيرة الظلمة في وقت الظهيرة. وأظهر كوستلر أيضاً اهتماماً بالموضوعات اليهودية، خصوصاً أنه عمل مراسلاً في فلسطين لإحدى الجرائد الألمانية. وقصته اللصوص في الليل تصف الصراع بين العرب والمستوطنين الصهاينة. وقد لاحَظ كوستلر في هذه الرواية الخليط العجيب من التصوف والاشتراكية الذي يُميِّز العقل الصهيوني. ولكن الرواية، مع هذا، تبدي تعاطفاً مع المستوطنين. وقد كتب كوستلر أثناء حرب عام 1948 كتاب الوعد والإنجاز: فلسطين 1917-1949 يصف فيه فلسطين أثناء الانتداب وبعد إنشاء الدولة الصهيونية، ويُعلن أن يهود العالم أمامهم اختياران لا ثالث لهما: الهجرة إلى إسرائيل أو الانتماء الكامل إلى أوطانهم والولاء لها. وقد اختار هو نفسه البديل الثاني. وكوستلر له مؤلفات قصصية وفلسفية أخرى مثل: الشبح في الآلة، و نفاية الأرض، و اللوتس والقوميسار، و السائرون نياماً، و اللوتس والإنسان الآلي. 


وفي آخر سني حياته، انضم كوستلر إلى جمعية تُطلق على نفسها اسم «جمعية من أجل موت كريم» تدعو إلى الانتحار. وقد انتحر هو وزوجته بالفعل في مارس 1983. 


وقد نشر كوستلر عام 1955 كتاباً بعنوان قافلة الديناصور يضم دراسة بعنوان « يهودا في مفترق الطرق » والتي أشار فيها إلى عدم صحة القول بوجود تراث حضاري يهودي مشترك. وفي كتابه القبيلة الثالثـة عشرة: إمبراطورية الخزر وميراثها (1976) يناقش كوستلر ظهور إمبراطورية الخزر اليهودية وما يسميه «الشتات الخزري». وقد أثار الكتاب ضجة في الأوساط اليهودية والصهيونية عند صدوره. فالكتاب يذهب إلى أن يهود بولندا، الذين كانوا يشكلون أهم وأكبر تَجمُّع يهودي في العالم، هم من نسل الخزر وبالتالي فهم مختلفون عرْقياً وثقافياً عن بقية يهود العالم وعن العبرانيين القدامى. 


ومن ثم فإن كوستلر يهدم الاعتذاريات العرْقية والإثنية لنظرية الحقوق الصهيونية التي ترى أن فلسطين من حق اليهود بسبب أصولهم السامية، أو بسبب تماسكهم الثقافي عبر التاريخ والتفافهم حول فلسطين كمركز للهوية الثقافية اليهودية. 


ويرى بعض دارسي تاريخ الأفكار أن كوستلر من كبار الكُتَّاب والمفكرين وأنه نجح في أن يتناول في كتاباته بعض أهم القضايا الفكرية في القرن العشرين من خلال رؤيته الواسعة (البانورامية) والثاقبة، ويرى البعض الآخر أنه مجرد ناقل للأفكار ومروج لها. بل ويرى البعض أن كتابه الإله الذي هوى قد كُتب بإيعاز من المخابرات الأمريكية. ومهما كان تقييم المرء لعبقرية كوستلر، فمن الصعب القول بأن البُعد اليهودي هو أهم أبعادها أو أن له مقدرة تفسيرية عالية. 


جيكـوب كرايزر (1905-1969(Jacob Kreiser 
جنرال سوفيتي يُصنَّف أحياناً باعتباره يهودياً، وأحد أبطال الحرب العالمية الثانية في الاتحاد السوفيتي. كان والده جندياً يهودياً ممن جُنِّدوا في الخدمة العسكرية تجنيداً إجبارياً لفترة طويلة في سن مبكرة واعتنقوا المسيحية إبان فترة الخدمة. وقد انضم كرايزر في سن مبكرة إلى الجيش الأحمر وتدرَّج سريعاً في صفوفه ليصبح جنرالاً في سن الحادية والثلاثين. وخلال الحرب العالمية الثانية، تولى قيادة فرقة مشاة البروليتاريا التي تميَّزت في دفاعها عن موسكو، وهو ما أكسبه لقب «بطل الاتحاد السوفيتي». وقد خدم كرايزر بعد ذلك في عدد من المواقع المهمة خلال الحرب، وتولى قيادة الجيوش السوفيتية في عدد من الجبهات، وساهم في تدمير القوات الألمانية في غرب أوكرانيا، وفي تحرير شبه جزيرة القرم ودول البلطيق. وقد أدَّى قيام ضابط يهودي بتحرير القرم إلى تسليط الضوء على مسألة تأسيس جمهورية يهودية ذات حكم ذاتي في القرم والتي كانت تخطط لها الحكومة السوفيتية لتحل محل مشروع بيروبيجان الفاشل. وقد كانت اللجنة اليهودية المناهضة للفاشية، والتي كان كرايزر عضواً بها، من المؤيدين لهذا المشروع الذي لم يسفر عن أي شيء في نهاية الأمر. 


ومع انتهاء الحرب، كان كرايزر قد حصل على أعلى الرتب في الجيش السوفيتي واكتسب مكانة وسمعة واسعتين، ولكنه جُرِّدَ من منصبه خلال فترة الإرهاب الستاليني بعد أن رفض التوقيع على خطاب نُشر في صحيفـة البرافدا ينفي وجود معـاداة لليهـود في الاتحـاد السوفيتي. وبعد وفاة ستالين، أعيدت له قيادته، وعُيِّن عام 1962 نائباً في مجلس السوفييت الأعلى. ثم تولى كرايزر القيادة في منطقة الشرق الأقصى، وهي منطقة حدودية ذات أهمية خاصة، وظل يشغل منصبه حتى وفاته. 


ويمثل كرايزر نموذجاً متكرراً في أوساط العسكريين السوفييت اليهود، وإن لم ينتبه إليه الكثيرون، وهو نموذج يعود إلى أيام تروتسكي مؤسس الجيش الأحمر والذي فتح المجال أمام أعضاء الأقليات للانخراط في صفوف هذا الجيش الجديد، الذي كان يدعم نظاماً يدعو إلى تجريم أشكال التمييز العنصري والإثني (وضمن ذلك العداء لليهود). وقد انخرطت أعداد كبيرة من أعضاء الجماعات اليهودية بنسبة تزيد عن نسبتهم على المستوى القومي. وكانت هناك نسبة عالية من اليهود في القيادة العليا للجيش السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية. ولكن يُلاحَظ أنه جرى العمل على إحالة أعداد كبيرة منهم إلى التقاعد. 


روبـرت ماكسـويل (1923 – 1991(
Robert Maxwell 
ناشر بريطاني، وُلد في تشيكوسلوفاكيا، وكان اسمه الحقيقي يان لودفيج هوخ. وُلد لعائلة يهودية ريفية يُقال إنه قُضي على معظم أعضائها خلال الحرب العالمية الثانية، وانضم إلى الجيش التشيكي عام 1939، ثم فرّ إلى بريطانيا مع الاحتلال النازي، حيث انضم إلى صفوف الجيش البريطاني. وحاز في عام 1945 ميدالية الصليب العسكرية. وقد بدَّل اسمه عدة مرات، ثم استقر في عام 1945 على الاسم الإسكتلندي الحالي إيان روبرت ماكسويل. عمل ماكسويل لحساب الاستخبارات البريطانية، وترأس القسم الصحفي للقوات البريطانية المتمركزة في ألمانيا في الفترة بين عامي 1945 و1947. وخلال وجوده في ألمانيا، التقى بناشر ألماني كان تحت يده عدد ضخم من الوثائق والنشرات العلمية التي خَلَّفها الحكم النازي، وبالتالي لاحت أمام ماكسويل فرصة ذهبية للعمل في مجال النشر العلمي. وبالفعل، أسس في عام 1949 شركة برجامون برس التي جعلها من أكبر دور النشر المتخصصة في المطبوعات العلمية، والتي شملت أعمالها برنامجاً واسعاً لترجمة الكتب والمجلات العلمية السوفيتية. وقد كانت دار نشر برجامون اللبنة الأساسية في إمبراطوريته الصحفية والإعلامية التي احتلت المرتبة التاسعة أو العاشرة في العالم على حد تقدير ماكسويل نفسه. وكانت إمبراطورية ماكسويل تضم عدداً كبيراً من الشركات القابضة والمؤسسات العائلية والهيئات الخيرية التي توزعت مقارها الرئيسية في بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل وأوربا الشرقية وجبل طارق وليختنشتاين. 


وقد امتلك ماكسويل حصصاً متفاوتة في عدد كبير من الصحف في ثلاث عشرة دولة. فمجموعة ميرورنيوز (التي امتلكها ماكسويل عام 1984) تنشر عدداً من الصحف البريطانية المهمة مثل ديلي ميرور وصاندي ميرور. كما امتلك ماكسويل نسبة ستة في المائة من أسهم صحيفة ذي إندبندنت اليومية البريطانية. كما سيطر في عام 1991 على صحيفة ديلي نيوز الصادرة في نيويورك. وفي المجر، امتلك حصة كبيرة في صحيفة ماجيار هيرلاب اليومية. وفي عام 1986، أصدر صحيفة الصين اليومية تشاينا ديلي التي كانت تَصدُر بالإنجليزية في بكين ولندن، إلا أنه تَوقَّف عن نشرها بعد أحداث الصين عام 1989. كما أصدر عام 1988 الصحيفة الأوربية الأسبوعية ذي يوروبيان. واشترى ماكسويل في العام نفسه دارين للنشر في الولايات المتحدة هما: دار ماكميلان التي كانت ثاني أكبر دار نشر أمريكية، والدار التي تَنشُر الدليل الرسمي لشركات الطيران. وقد وضعت هذه الممتلكات الجديدة عبئاً كبيراً من الديون على كاهل ماكسويل تجاوزت عند وفاته ثلاثة مليارات جنيه إسترليني، الأمر الذي دفعه إلى بيع بعض ممتلكاته، ومن أهمها دار نشر برجامون لسداد ديونه. كما كان ماكسويل يمتلك، منذ عام 1981، شركة للاتصالات هي ماكسويل كوميونيكيشن كوربوريشن. 


وقد كان لماكسويل اهتمام خاص بأوربا الشرقية، وكانت له علاقات مع عدد من رؤساء الكتلة الشرقية. وقد أسس عام 1990، بالتعاون مع مؤسسة مريل لينش، شركة للاستثمار في أوربا الشرقية رأسمالها 250 مليون دولار. وكان ماكسويل قد أسس قبل ذلك ببضع سنوات شركة للاستثمار في الصين بالمشاركة مع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر، لكن أعمال الشركة توقفت بعد أحداث عام 1989 في الصين. كما دخل ماكسويل حلبة السياسة البريطانية حيث تولى منصب نائب في البرلمان عن حزب العمال البريطاني في الفترة بين عامي 1964 و1970. 


ومن جهة أخرى كان لماكسويل اهتمام كبير وارتباط خاص بإسرائيل. ومما يُذكَر أنه لم يكن يعلن عن أصله اليهودي في البداية، كما كان يذهب إلى الكنيسة مع زوجته الفرنسية البروتستانتية (أي أنه كان يهودياً متخفياً مثل عشرات الألوف الآخرين). ولكنه حين عُرف أصله، لم يستمر في إنكاره. وفي السنوات الأخيرة، أصبح واحداً من أهم المستثمرين الكبار في إسرائيل وأحد كبار مؤيديها. ويُعتقَد أنه كان أكبر المستثمرين فيها على الإطلاق. فكان يمتلك ثلث حصص صحيفة معاريف الإسرائيلية التي تحتل المرتبة الثانية بين الصحف الإسرائيلية من ناحية التوزيع. واشترى عام 1990 خمسين في المائة من حصص دار كيتر للنشر بمبلغ خمسة ملايين دولار وهي الشركة التي تُصدر الموسوعة اليهودية (جودايكا). كما امتلك ماكسويل حصصاً في شركتين إسرائيليتين هما: شركة سايتكس وهي من الشركات الرائدة في مجال الرسوم البيانية بالكومبيوتر والطباعة بالألوان، وشركة تيفا فارماسوتيكال للمنتجات الطبية. وقد ترددت أنباء عن أن ماكسويل كان ينوي استثمار مائة مليون دولار في تأسيس شركة قابضة في إسرائيل تجمع استثماراته القائمة والمتوقعة هناك. 


وفي نهاية عام 1988، أصبح ماكسويل رئيس شركة سندات إسرائيل في بريطانيا، إذ اشترى سندات بملايين الجنيهات الإسترلينية أصبح بعدها أكبر مشترٍ للسندات الإسرائيلية في بريطانيا. وكانت الشركة تأمل في أن يساهم تعيين رئيس للشركة ذي شهرة واسعة في جذب أعداد كبيرة من المستثمرين لشراء السندات الإسرائيلية. 


وقد كان ماكسويل من مؤيدي سياسات حكومة الليكود الإسرائيلية، وصرح قبل وفاته ببضعة أسابيع بأن آراءه تتطابق تماماً مع آراء رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير. وأيَّد ماكسويل مبدأ إبعاد الفلسطينيين عن أرضهم وتوطينهم في البلدان العربية، كما كان يصرح دائماً بأن الأردن هي الدولة الفلسطينية (كما يفعل الإسرائيليون والصهاينة). وفي عام 1989، وبَّخ ماكسويل رئيس تحرير جريدة معاريف لنشره مقالاً عرض فيه تقرير الاستخبارات الإسرائيلية ومؤداه أنه ليس هناك بديل عن الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية. كما بيَّن ماكسويل أن الدافع وراء محاولته الفاشلة شراء صحيفة جيروساليم بوست في عام 1989 كان وقف النقد الذي كانت توجهه الصحيفة للحكومة الإسرائيلية. 


وقد تَورَّط ماكسويل قبل وفاته بقليل في قضية تَجسُّس وتجارة سلاح. فقد ذكر الصحفي الأمريكي سيمور هيرش في كتابه الخيار شمشون أن لماكسويل علاقات بالمخابرات الإسرائيلية (الموساد)، وأنه تَورَّط مع محرر الشئون الخارجية لجريدته الديلي ميرور في تسهيل عقد صفقات سلاح سرية لإسرائيل وفي تسهيل اختطاف موردخاي فانونو، وهو أحد العاملين في مفاعل ديمونة والذي كشف عن وجود مائتي قنبلة نووية لدى إسرائيل. كما ادعى ضابط في المخابرات الإسرائيلية، وهو آرييه منَسَّى، أن ماكسويل كان متورطاً في مبيعات الأسلحة إلى إيران (أثناء حربها مع العراق) وهي مبيعات تمت بموافقة رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق شامير ونائب الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش، فكان ماكسويل يتلقى عمولات عن هذه الصفقات ثم يُجري عملية «غسل» للأموال المتحصَلة بهذه الطريقة غير النظيفة لتبدو كما لو كانت نظيفة وشرعية (وتتم عملية الغسل هذه بطرق عديدة مثل وضع النقود في المصارف من خلال منافذ عديدة أو استثمارها في مشاريع تجارية خاسرة ثم إعلان أنها حققت أرباحاً خيالية، وتُودَع الأموال في المصارف بعد ذلك(. 


وقد نفى ماكسويل أية علاقة له بالموساد أو بصفقات السلاح، وأقام دعوى ضد هيرش يُوجِّه فيها إليه تهمة السب العلني. وبعد أقل من شهر من إثارته هذه الفضيحة، لقي ماكسويل حتفه، وقيل أنه سقط ميتاً وهو على ظهر يخته في البحر قرب جزر الكناري. وتراوحت الآراء حول ظروف موته بين التلميح إلى اتهام الموساد بقتله، أو ترجيح انتحاره بسبب متاعبه المالية الكبيرة أو اتهامه بالعمالة لإسرائيل، أو القول بأن موته كان مجرد حادث عادي. وقد دُفن ماكسويل في إسرائيل وفقاً لرغبته.


وقد تفجرت فضيحة مالية كبرى في أعقاب وفاة ماكسويل، حيث تبيَّن أنه حوَّل أكثر من 700 مليون جنيه إسترليني (1.27مليار دولار) من صناديق المعاش في مجموعة الشركات العامة ميرور جروب التي كان يديرها، وذلك لتغطية خسائر شركاته الخاصة ولمساعدة إمبراطوريته الإعلامية التي كانت تنوء تحت ثقل الديون. وتبيَّن أيضاً أنه احتال على مؤسسة مالية سويسرية للحصول على قرض قيمته 100 مليون دولار، وأنه استخدم الأصول نفسها لضمان أكثر من قرض. وكان ماكسويل قد تَعرَّض من قبل للمساءلة حول سلامة ممارساته، حيث أجرى مجلس التجارة البريطاني تحقيقاً عام 1969 حول أوضاع شركة برجامون برس وكشف بالفعل عن بعض المخالفات. وقد تَضمَّن التقرير الذي انتهى إليه المجلس أن ماكسويل « شخص لا يُعوَّل عليه في إدارة شركة مساهمة عامة ». وقد عمل ماكسويل منذ ذلك الحين على إسكات منتقديه وردعهم عن طريق مقاضاتهم وتوجيه تهمة التشهير به إليهم. وقد وُصف ماكسويل عقب تَفجُّر هذه الفضيحة بأنه «محتال القرن»، الأمر الذي زاد التكهنات القائلة بأنه مات منتحراً. كما قُبض على ابنيه، اللذين توليا أمور بعض شـركات والدهما بعد وفاته، بتهمة التورط في الغـش التجاري. ولكن لم يثبت ضدهما أي شيء، فحُكم ببراءتهما. 


ومن الواضح أن ماكسويل عبقرية حقيقية بالمعنى المحايد (أو النيتشوي) للكلمة، أي أنه عبقرية لا تهتم كثيراً بالمعايير الأخلاقية أو الإنسـانية، فهو مثل الإنسـان الأعظم (السـوبرمان) يُسخِّر الآخرين لحسابه، ولذا كان عبقرياً في عمليات التنظيم الإداري وتحقيق الأرباح وتعظيمها وعقد الصفقات الرابحة، ولكنه كان عبقرياً أيضاً في نهب الآخرين والتجسس واستخدام النفوذ. وتحدثت كثير من الصحف عن ماكسويل باعتباره يهودياً مع أن هذه مسألة خلافية، فقد أخفى يهوديته بعض الوقت، وحين اكتُشفت اعترف بها بل ووظفها، ولكن توظيفه مسألة هويته اليهودية لا يجعل منه يهودياً، ولا يمكن تفسير عبقريته في إطار يهوديته، وإنما في إطار النيتشوية الداروينية، التي يشترك فيها مع مئات المموِّلين والمستثمرين الآخرين في القرن العشرين.






الباب الرابع: إشكالية العزلة والخـصوصية اليهودية




العزلـــة اليهوديــة 
Jewish Isolationism 
«الانعزالية اليهودية» عبارة تفترض أن اليهود يعيشون في حالة عزلة عن الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها. وتُفسَّر هذه الانعزالية في الأدبيات الصهيونية على أساس أنها فُرضت فرضاً على اليهود وأنهم غير مسئولين عنها. كما تُفسَّر أيضاً بأن اليهود لا يمكنهم الاندماج في مجتمعات الأغيار بسبب هويتهم أو شخصيتهم أو طبيعتهم أو تاريخهم أو جوهرهم اليهودي. ولا يختلف تفسير معاديي اليهود لهذه الظاهرة عن تفسير الصهاينة، فاليهود بحسب تصورهم يعزلون أنفسهم عن الأغيار لأن هذه هي طبيعتهم وشخـصيتهم وهوـيتهم، وتنعكـس هذه السمة في سلوكهم وتاريخهم. يتفق الصهاينة والمعادون لليهود، إذن، على أن الانعزالية سمة أساسية وأنها لا علاقة لها بالحركيات الاجتماعية التي يوجد فيها اليهود، وإنما يُسبِّبها شيء ما داخلهم. 


ولا يمكن، بطبيعة الحال، إنكار أهمية بعض جـوانب النسـق الديني اليهودي مثل عقيدة الشــعب المختـار، وكذلك كثرة الشـعائر الدينية، في تشجيع اليهود على العزلة. وقد وصل هذا الاتجاه في النسق الديني اليهودي إلى ذروته في القبَّالاه اللوريانية الدينية، حيث تُطرح فكرة أن اليهود خُلقوا من طينة مغايرة للطينة التي خُلق منها البشر. ولكن علاقة الأفكار الدينية، وأية أفكار، بسلوك الإنسان ليست علاقة سببية بسيطة. فالأفكار لا تحدد سلوك الإنسان أبداً ولكنها تخلق لديه استعداداً كامناً أو قابلية ليسلك سلوكاً معيَّناً ويبتعد عن أنماط معينة من السلوك. كما أن من الصعب بمكان تحديد ما إذا كانت فكرة مثل فكرة الشعب المختار هي التي أدَّت إلى عزلة اليهود أو أن الفكـرة هي نتيجة هذه العزلة، أو أن العلاقة هي علاقة تأثير وتأثر، وما مدى التأثير وما عمق التأثر. 


وعلى أية حال، لا يكمن الخلل الأساسي في النموذج التفسيري الصهيوني والمعادي لليهود في سببيته البسيطة وحسب وإنما في مستواه التعميمي المرتفع وفي تجريديته الزائدة، إذ أن كلا الفريقين يتحدث عن « اليهود ككل » وبشكلٍّ عام ويُفسِّر الظاهرة داخل هذا الإطار. ولو أننا تحركنا في إطار الجماعات اليهودية لأمكننا اكتشاف التنوع وعدم التجانس، وأن أعضاء الجماعات اليهودية انعزلوا عن بعض المجتمعات واندمجوا في البعض الآخر، وأنهم انصهروا في بعض المجتمعات وطُردوا من البعض الآخر، وأن هذه الظواهر يمكن تفسيرها من خلال مُركَّب من الأسباب الحضارية والاقتصادية الخارجيــة التي تختـص بمجتمع الأغلبية، والأسباب الداخلية التي تختص بأعضاء الجماعة. ومن أهم هذه الأسباب، في تَصوُّرنا، اضطلاع أعضاء الجماعات اليهودية بدور الجماعة الوظيفية الوسيطة في كثير من المجتمعات، خصوصاً المجتمع الأوربي ابتداءً من العصور الوسطى. والجماعة الوظيفية الوسيطة لا يمكنها أن تقوم بدورها إلا في حالة عزلة، إذ أنها تضطلع بوظائف مشينة أو بوظائف تتطلب الحياد والموضوعية مثل البغاء أو التجارة. 


ومن أشهر حالات عزلة اليهود، وجودهم داخل الجيتوات القسرية في أوربا ابتداءً من أواخر عصر النهضة. ولكن العزلة وصلت قمتها في أوكرانيا، حيث كان اليهود يشكلون جماعة وسيطة تمثل طبقة النبلاء (شلاختا) الحاكمة في بولندا. وكانت عزلة اليهود على عدة مستويات: 


1 ـ طبقية: جماعة تجارية مالية تمثل النخبة الحاكمة في وسط زراعي فلاحي وتساندها القوة العسكرية البولندية. 


2 ـ لغوية: جماعة تتحدث اليديشية في وسط يتحدث الأوكرانية. 


3 ـ ثقافية: جماعة ترتدي أزياءً وتأكل طعاماً يختلفان عن أزياء وطعام الفلاحين. 


4 ـ دينية:جماعة يهودية تمثل النبلاء الكاثوليك في وسط أرثوذكسي. 


وحينما تصبح العزلة على كل هذه المستويات، فإنها عادةً ما تكون متطرفة، إذ إن العزلة على مستوى ما تدعم العزلة على مستوى آخر. ولكن، ورغم هذه العزلة، فإن من المعروف أن الجماعة اليهودية تأثرت بوسطها الفلاحي السلافي، وظهر هذا التأثر في انتشار الحسيدية التي نبعت من الفلكلور الديني المسيحي السلافي، أي أنه لا يمكن أن تُوجَد عزلة مطلقة إلا في كتابات العنصريين الاختزاليين من الصهاينة والمعادين لليهود. 


اليـهــــودي الخالـــــــص 
Quintessential or Pure Jew 
«اليهودي الخالص» عبارة تفترض وجود هوية يهودية خالصة لا تشوبها أية شوائب حضارية، فهذه الهوية تتمتع بنقاء عرْقي وحضاري إثني. لكن هذا المصطلح لا يرد إلا نادراً في الكتابات الصهيونية، مثل إشارة المفكر الصهيوني كلاتزكين إلى « النمط القومي الخالص » وإشارة بن جوريون إلى « اليهودي الذي هو يهودي مائة في المائة ». ومع هذا، فإن هذا المفهوم كامن في كل الكتابات الصهيونية، بل يمكن القول بأن اليهودي الخالص هو اليهودي المثالي الذي يحاول المشروع الصهيوني تحقيقه، فباسم هذا «اليهودي الخالص» ترفض الصهيونية الموروث الثقافي لأعضاء الجماعات اليهودية بل وترفض وجودهم ذاته، وباسمه تحاول تأسـيس الدولة اليهـودية حتى يتحقق هذا الجوهر. واليهودي الخالص، بكل ما فيه من حيوية وإبداع وولاء يهودي مطلق، هو نقيض اليهودي المنفي بكل ما فيه من هامشية وتَمزُّق وازدواج في الولاء. ويحاول الصهاينة تطبيع يهود المنفى لإعادة صياغتهم في صورة «اليهودي الخالص». 


نقـــاء اليهـــود عرْقيــــاً 
Racial Purity of the Jews 
«نقاء اليهود عرْقياً» عبارة تفترض أن أعضاء الجماعات اليهودية قد حافظوا، عبر التاريخ وفي كل زمان ومكان، على نقائهم العرْقي، فلم يختلطوا بالأجناس والشعوب الأخرى، وهذه فكرة يروِّج لها المعادون لليهود ويسوقونها دليلاً على رغبة اليهود في عزل أنفسهم وعلى خطورة العرْق اليهودي. فهوستون تشامبرلين يزعم أن ذلك النقاء العرْقي هـو سـر قـوة اليهـود، وأنه هو أيضاً ما يجعلهم «غرباء بين الأمم». 


وكان الصهاينة كذلك يروجون هذه الفكرة ويؤسسون عليها ادعاءهم حتمية إنشاء دولة يهودية مستقلة تكون يهودية مثلما أن إنجلترا إنجليزية وفرنسا فرنسية؛ دولة يعيش فيها الشعب اليهودي المنفصل عرْقياً عن بقية شعوب الأرض من الأغيار. ولذا، بذل كثير من « العلماء » الصهاينة كثيراً من المحاولات التي ترمي إلى إثبات نقاء اليهود عرْقياً. ومن أهم المحاولات في هذا المضمار محاولات عالِم الاجتماع الصهيوني آرثر روبين في كتابه اليهود في الوقت الحاضر حيث أورد أسماء كثير من المراجع في الموضوع من بينها اسم إغناتز زولتشان (1877 ـ 1944) الذي وصف اليهود بأنهم « أمة من الدم الخالص لا تشوبها أمراض التطرف أو الانحلال الخلقي الناجمة عن عدم النقاء ». وقد أكد زولتشان أن « حظر الزواج المُختلَط في اليهودية قد أدَّى إلى عدم اختلاط اليهود بأجناس لم تحافظ على نقائها بالدرجة نفسها ». وقد قدَّم روبين نفسه تعريفاً عرْقياً لليهود فبيَّن أنهم « اسـتوعبوا عناصر عرْقية أجنبية بدرجـة محـدودة، ولكنهم في أغلبيتهم يمثلون جنساً متميِّزاً، على خلاف الحال في دول وسط أوربا ». وأضاف أن من الواجب الحفاظ بشكل واع على الاستمرار العرْقي اليهودي الذي تحقق بشكل تلقائي عبر التاريخ، وأكد أن أي جنس راق يتدهور بسرعة إذا ما تزاوج بجنس أقل رقياً، ذلك لأن التزاوج بالأجناس الأخرى يضرُّ بمحاولات المحافظة على الصفات الممتازة للجنس، ومن ثم فـ « لابد من محاولة منع التزاوج للمحافظة على انفصالية اليهود ». 


ومن الواضح أن روبين وزولتشان حينما يتحدثان عن اليهود فهما يتحدثان عن اليهود الإشكناز وحسب أو يهـود العالم الغربي ويستبعدان أعضاء الجماعات اليهودية الأخرى ويُروِّج المعادون لليهود المقولة نفسها. وما يُسمَّى «الصفات العرْقية الشائعة عن اليهود» هو في واقع الأمر «الصفات العرْقية الشائعة عن اليهود الإشكناز أو يهود العالم الغربي». وفي كتاب المفكر المصري الدكتور جمال حمدان اليهود دراسة مستفيضة لبعض هذه الصفات مثل قصر القامة وضيق الصدر والسمنة والأنف المعقوف وشكل الرأس. ويشير الدكتور جمال حمدان إلى أن الدراسات المترية تُظهر اليهودي في أغلب الحالات أقصر من غيره بضع بوصات. ولكنه يبيِّن أن طول القامة لا يمكن اعتباره صفة جسمية أصيلة، فمن الثابت علمياً أنها صفة مطاطة تتكيف بالبيئة الطبيعية والاجتماعية، كما يُعَدُّ ضيق الصدر من هذه الصفات الشائعة، الأمر الذي تؤكده الأدلة العلمية، فمحيط صدر اليهودي (الإشكنازي) أقل كثيراً منه عند « الأغيار ». ولكن هذه الصفة ـ كما يبيِّن الدكتور جمال حمدان ـ نتيجة طبيعية للبيئة والحرفة، فالحرف التقليدية لليهود الإشكناز (خياطة ـ صباغة ـ صناعة أحذية) ترتبط بتلك الظاهرة. وتُعَدُّ صفـة « السحنة » اليهودية أكثر هذه الصفات شيوعاً، والمُحقَّق علمياً أنها لا تُوجَد عند كل اليهود ولا تكاد تُعرَف في أشـكناز أمريكا كما أنها معروفة بين غير اليهـود. وسحنة الوجه تعبير اجتماعي مُكتسَب من البيئة أكثر من كونها صفة جسمية، حتى سماها البعض «تعبير الجيتو»، فهي من فعل الانتخاب الصناعي لا الوراثة. 


أما مسألة الأنف المعقوف،كصفة مميِّزة لليهودي في المخيلة الشعبية، فهي أسطورة أخرى. فلقد أثبتت الدراسات الأنثروبولوجية أن هذه الصفة غير موجودة إطلاقاً بين أنقى عنصر سامي وهم البدو،ولكنها صفة غالبة بين القبائل القوقازية المختلفة، وكذلك في آسيا الصغرى،وتشمل العناصر المحلية في المنطقة مثل الأرمن والجورجيين.ونجده بين شـعوب البحر المتوسـط أكثر مما نجده بين يهود أوربا الشـرقية،ويَكثُر انتشارها بين الهنود الحمر في أمريكا الشمالية! 


ومن أهم المقاييس الأنثروبولوجية، لتحديد الانتماء العرْقي، شكل الرأس. وقد بيَّن الدكتور جمال حمدان في كتابه اليهود أنثروبولوجياً أن من بين المجموعات الرئيسية الثلاث (الإشكناز والسفارد والشرقيين) يقع الإشكناز بين عراض الرؤوس وأحياناً عراض الرؤوس جداً، هكذا هم في كل أوربا والعالم الجديد ابتداءً من الفولجا حتى كاليفورنيا. ولكن الأهم من هذا أنهم يشبهون السكان المحيطين محلياً ويقتربون جداً من شكل ونسبة رأسهم، فمثلاً ليس ثمة فارق في شكل الرأس بين اليهود والمسيحيين في كل من روسيا وبولندا، بينما في منطقة القوقاز تتحول رؤوسهم لشكل «قمع السكر » الشهير عند الأرمن والقفقاز بل ونجده حتى بين يهود التركستان. 


وكان من الشائع أن السفارد على النقيض من ذلك تماماً، أي أنهم طوال الرؤوس جميعاً. ولكن هذه المقابلة تبسيطية أكثر مما ينبغي، فرغم أن طول الرأس يَغلُب بين السفارد فإن منهم جماعات استعرَضَت رؤوسهم كما في شمال إيطاليا وربما كانت بينهم جماعات أخرى من سفارد البلقان. ويُلاحَظ أن السفارد يعيشون جملة بين شعوب طويلة الرأس كالبربر والعرب بحيث لا يمكن أن يغيِّر التزاوج شكل رؤوسهم بل على العكس يؤكده. 


ويأتي اليهود الشرقيون في حدود التصنيف، فجزء منهم طوال الرؤوس كالسفارد ويشمل يهود مصر والشام واليمن والعراق وجنوب إيران (والسكان المحيطون بهم طوال الرؤوس، إلا أن حجم الرأس عندهم أطول بدرجة أو أخرى من حجم الرأس عند اليهود). أما الجزء الآخر منهم، كالإشكناز، فقد استعرضت رؤوسهم كما في شمال العراق ومنطقة جبال القوقاز وشمال إيران ويهود التركستان الروسية بكل شظاياها، وأخيراً هناك اليهود القرّاءون في القرم وليتوانيا. ففي كل هذه الحالات يعيش اليهود في محيط واسع من العرض الشديد للرأس، وقد استعرضت رؤوسهم بشدة فأصبحوا لا يختلفون عنه أبداً. 


ويحاول بعض العلماء أن يجعلوا من اليهود طوال الرأس من السفارد وبعض الشرقيين وحدة إثنولوجية قائمة بذاتها، قد تتباين فيما بينها من منطقـة إلى منطقـة ولكنهـا بعامة تتباين أكثر مع السـكان المحيطين. ولذا فهم يصورون اليهود الإشكناز ومعهم بقية الشرقيين وحدة إثنولوجية أخرى. ومع هذا يعترف هؤلاء العلماء بأن كل نوع أو سلالة جنسية معروفة في أوربا يمكن بسهولة أن تُلتَقط من بين يهود القارة، وأن أغلب اليهود يمثلون بطريقة أو بأخرى خليطاً من عديد من تلك السلالات والأنواع، ولذا من السهل جداً أن نلتقط من بين يهود الروسيا أفراداً يتميَّزون بالصدغ الواسع والأنف العريض القصير وعظام الوجنة البارزة بدرجة لا تفرق بينهم وبين جماعات الفن المغولية التي تَسكُن منطقة الفولجا، بينما يُوجَد بين اليهود الألمان أفراد هم بكل معنى الكلمة نورديون مثاليون.




ويمكن من ناحيتنا (والكلام لا يزال للدكتور جمال حمدان) أن نضيف على مستوى العالم متناقضات كالموزايك [الفسيفاء] تكاد تغطي كل ما نعرف بين البشر من اختلافات في الصفات الجنسية، فهناك اليهود السود في الحبشة وجنوب الصحراء الكبرى، وهناك اليهود المُلوَنون في الهند، بل والصفر أحياناً في التركستان، وأخيراً اليهود الشقر في أوربا. وكما لاحظ دالبي في أواخر القرن الماضي، هناك كل الأنواع والألوان بين اليهود البيض والسمر، فهناك اليهودي الربعة غليظ الملامح عريض الرأس من الإشكناز واليهودي النحيف دقيق الملامح طويل الرأس من السفارد، وهناك الأنف اليهودي المُحدَّب والأنف المُقعَّر بين كثير من يهود روسيا. وهناك العيون اللوزية في السفارد، والمكتنزة الضخمة في الأشـكناز، والعيون المغولية المسـحوبة في بعض يهود وسـط آسـيا. وبعامة، فإن السفارد أشبه بعنصر البحر المتوسط والإشكناز أشبه بالصقالبة الشماليين، وفضلاً عن هذا فإن الدراسات السيرولوجية أثبتت تماماً أن هناك بين اليهود معدل تَفاوُت كبير جداً في فئات الدم وهو ما ينفي تَجانُس الأصل. وأكثر من ذلك، لا تُبدي تلك الفئات أية علاقة بفئات الدم عند اليهود السامريين الأمر الذي يؤكد عمق انفصالهم جنسياً عن الأصل القديم (إن كان هذا الأصل واحداً). 


فالحديث عن الوحدة العرْقية بين اليهود (كما بيَّن الدكتور جمال حمدان وغيره من العلماء) لا محل له من حقيقة أو علم على الإطلاق. واليهود لا يعرفون الوحدة العرْقية أكثر مما يعرفون الوحدة الجغرافية، وثمة اتفاق بين الدارسين في الوقت الحاضر على أن نقط التشابه بين أعضاء الجماعات اليهودية وبين أبناء المجتمعات التي يعيشون فيها يفوق كثيراً أي تَشابُه قد يُوجَد بين أية جماعة يهودية وأية جماعة يهودية أخرى في مجتمع آخر. 


وهذا أمر مُتوقَّع تماماً، ورغم التشريعات اليهودية الخاصة بتحريم الزواج المختلط، فمن المعروف أن اليهود تزاوجوا بغيرهم من الشعوب. بل وكان من الصعب علىهم أن يفعلوا غير ذلك لأنهم كانوا شعباً من البدو الرحل الذين يتنقلون من مكان إلى آخر. لقد جاء الآباء، أسلاف العبرانيين، من بابل، فهم إذن من أصل سامي عربي. وحينما وصلوا إلى كنعان، تزاوجوا مع الحيثيين الذين هم من أصل أرمني. ولا شك في أن العبرانيين تأثروا حضارياً وعرْقياً بالمصريين أثناء إقامتهم في مصر بعد هجرة يوسف ويعقوب. وقد خرجوا من مصر ومعهم « اللفيف العرْقي » الذي يشير إلىه العهد القديم. وقد تزوج موسى أثناء الخروج أو الهجرة من مصر من امرأة مدينية (من مدين) ثم من كوشية. وتزاوج العبرانيون بالكنعانيين بعد تسللهم إلى أرض كنعان وبغيرهم من الأقوام السامية التي كانت تقيم هناك. ومن الطريف أن أم داود (الذي سيأتي من نسله الماشيَّح ملك اليهود) لم تكن، حسبما ورد، يهودية. أي أنه هو نفسه مشكوك في انتمائه إلى الشعب اليهودي. وفي العصر الهيليني، كانت نسبة التزاوج بالأجانب مرتفعة إلى حدٍّ كبير. 


ورغم أن اليهودية ليست ديانة تبشيرية، فإن كثيراً من الشعوب قد تَهوَّدت. فقد فرض الحشمونيون اليهودية قسراً على بعض الشعوب المجاورة لهم، مثل الأدوميين والإيطوريين. كما تَهوَّدت قبائل الخزر (أو نخبتها القائدة) في ظروف لا تزال غامضة. ويُلاحَظ أن الكنيسة، في العصور الوسطى، كانت تكرِّر من آونة لأخرى تحريم الزواج بين اليهود والمسيحيين، وهو أمر يدل على استمرار الظاهرة. أما في العصر الحديث، فإن معدلات الزواج المُختلَط في ألمانيا في الثلاثينيات، في روسيا السوفيتية (سابقاً) وفي الولايات المتحدة وفي معظم البلاد التي تزايدت فيها معدلات العلمنة، تصل إلى نحو 50% في كثير من الأحيان. وكانت نتيجة الزواج المختلط هي عدم النقاء العرْقي. 


وقد اتضحت الخلافات العرْقية بين اليهود في الدولة اليهودية بشكل مثير لا يمكن الجدل بشأنه: فاليهود الإشكناز الشقر ويهود الفلاشاه السود ويهود بني إسرائيل الداكنو اللون (الذين جاءوا من الهند) لا يمكن أن ينتموا إلى عرْق واحد مهما بلغت الادعاءات العنصرية (الصهيونية أو المعادية لليهود) من حنكة وموضوعية! 


ولو كانت هناك سمات يهودية عرْقية واضحة لما ادعى بعض اليهود (أيام هيمنة النازية) أنهم ينتمون للجنس النوردي وأنهم لا علاقة لهم بالجنس السامي، ولما طلب النازيون من أعضاء الجماعات اليهـودية أن يُعلِّقـوا نجمـة داود، حتى يسـتطيع الآريـون التعرف عليهم. ولكن التفكير العنصري الاختزالي يمكنه التعايش ببساطة مع مثل هذه التناقضات، فهو لا يشعر بالأمن أو الاستقرار إلا في عالم واحدي مادي كل الأمور فيه بسيطة ويمكن ردها لعنصر مادي واحد يُدرَك بالحواس الخمس، مثل العرْق وشكل الأنف وحجم الرأس.


الأمـراض اليهودية (الخصوصية اليهودية الطبية) 
(Jewish Diseases )Jewish Medical Specificity 
«الأمراض اليهودية»، هي تلك الأمراض التي يُفترض أنها تصيب اليهود وحدهم. وتذخر الكتابات الطبية المعنية بالمسألة الوراثية بالحديث عن إشارات إلى مناعة اليهود ضد أمراض مُعْدية معينة كالسل أو الطاعون. وتصل هذه الدراسات إلى حد الشطط حين تتحدث عن التفوق المعرفي والعلمي والعقلي لليهود وعن ارتفاع معدلات الذكاء الوراثي بينهم. والواقع أن مثل هذه الأفكار تفترض أن ثمة خصوصية بيولوجية وراثية يهودية، أي خصوصية طبية ونفسية وعرْقية تسم اليهود كافة في كل زمان ومكان. 


ولكن دراسة ظاهرة الأمراض اليهودية (أو الأمراض التي يُصاب بها أعضاء الجماعات اليهودية) بتعمق، ومن خلال استخدام نموذج تفسيري أكثر تركيباً وثراءً من ذلك النموذج التبسيطي الاختزالي السائد في بعض الكتابات الغربية، تبين لنا وبشكل قاطع عدم صحة هذا الافتراض. كما تبين لنا الدراسة المتأنية مدى التنوع والاختلاف في الأمراض التي تصيب الجماعات اليهودية المختلفة. 


ويمكن تصنيف الأمراض التي تُصيب أعضاء الجماعات اليهودية المختلفة إلى قسمين من منظور الخصوصية أو انعدامها: 


1 ـ أمراض تصيب أعضاء الجماعات اليهودية دون غيرهم من سكان المجتمعات التي يعيشون بينها (ويندرج تحت هذا التصنيف زيادة مناعة أعضاء الجماعات اليهودية ضد بعض الأمراض بمعدل يفوق المعدل السائد بين أعضاء الأغلبية). وهذه الخصائص الطبية يمكن تفسيرها من خلال نموذج تفسيري يؤكد أهمية العناصر الثقافية (بالمعنى العام للكلمة) المقصورة على أعضاء الجماعات اليهودية. ومع هذا يبيِّن هذا النموذج أن الخصوصية الطبية التي تسم جماعة يهودية ما ليست خصوصية طبية يهودية عالمية عامة، أي أنها لا تشمل كل يهود العالم وإنما تقتصر على جماعة يهودية دون غيرها من الجماعات. ومن ثم لا يمكن الحديث عن خصوصية طبية أو بيولوجية عالمية عامة. ويُلاحَظ أن هذا التنوع وذلك الاختلاف نابعان أساساً من مُركَّب من العوامل البيئية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية التي نتج عنها ظهور بعض الأمراض الوراثية التي اختلفت من جماعة إلى أخرى ونتج عنها ارتفاع نسبة الإصابة ببعض الأمراض بين جماعة دون أخرى. 


ثمة أمراض بعينها تكثر بين أعضاء الجماعة اليهودية في الولايات المتحدة من أصل يديشي أو إشكنازي، وثمة أمراض وراثية تنتشر بينهم دون غيرهم من السكان. ومن بين هذه الأمراض مرض «جاوشر»، وهو مرض وراثي يَنجُم عن صفة متنحية (والصفة المتنحية هي الصفة التي لا تظهر إلا عندما يكون الوالدان حاملين للصفة الوراثية نفسها). ومن أهم أعراض مرض جاوشر، انخفاض نسبة خميرة (إنزيم) تدخل في أيض نوع من أنواع الدهون في الدم، وهو ما يتسبب عنه تراكم هذه المادة في كلٍّ من الكبد والطحال والجهاز العصبي، مؤدياً إلى أعراض مرضية متلازمة في النمط المزمن الذي يظهر في البالغين، أو إلى الوفاة في غضون عامين أو ثلاثة أعوام في النمط الحاد الذي يظهر بين الأطفال. وتبلغ نسبة حاملي هذه الصفة الوراثية بين يهود الولايات المتحدة من أصل يديشي حوالي واحد بين كل ستين بينما تبلغ هذه النسبة بين غير اليهود حوالي واحد بين كل ستمائة. 


وهناك أيضاً مرض «تاي ـ ساكس»، وهو مرض يَنجُم عن غياب خميرة تدخل في أيض الدهون أيضاً، ويؤدي هذا المرض إلى موت الأطفال المصابين به في غضون عامين أو ثلاثة أعوام. وتبلغ نسبة حاملي الصفة المتنحية المسببة لهذا المرض بين يهود الولايات المتحدة من أصل يديشي نحو واحد بين كل ثلاثين، بينما تصل هذه النسبة في غير اليهود إلى واحد بين كل ثلاثمائة، ونسبة احتمال ولادة طفل مصاب بهذا المرض تصل إلى واحد بين كل ثلاثة آلاف وستمائة من اليهود من أصل يديشي بينما تنخفض إلى واحد بين كل ثلاثة ملايين وستمائة ألف بين غير اليهود. 


وهناك أيضاً مرض «نيمان بيك»، وهو مرض ينجم عن تطفُّر جيني له علاقة بغياب خميرة تدخل أيضاً في أيض الدهون، ونسبة حاملي هذه الصـفة عـالية بين يهـود الولايات المتحـدة من أصـل يديشي. وهناك بالمثل ما يُسمَّى «متلازمة بلوم» (و«المتلازمة»، هي مجموعة من الأعراض المرضية المتلازمة، والتي يُقال لها بالإنجليزية «سندروم syndrome». وتتمثل متلازمة بلوم في انخفاض وزن المولود وضعف نموه وحساسية جلده للشمس وتَراكُم اللمف وظهور شكل الفراشة على الوجه. 


ويُلاحَظ أيضاً ارتفاع نسبة إصابة يهود الولايات المتحدة من أصل يديشـي بنقص غير عـادي في الخميرة 21 - هيدروكسـيليز غير التقليدي. ويؤدي هذا النقص إلى تَراكُم مواد دهنية في الأنسجة العصبية والكبد والطحال. 


ومما يلفت النظر في هذه المجموعة من الأمراض الوراثية، والتي تزيد نسبة تواترها بين يهود الولايات المتحدة من أصل يديشي، أنها تتعلق أساساً بنقص خمائر أيض الدهون! والواقع أن ثمة ظاهرة مماثلة تتعلق بقبائل الهوي في أمريكا الشمالية حيث يزداد عدد الأفراد من «أعداء الشمس»، أو الألبينو، ونظراً لارتفاع قيمة هذا الشكل بين قبائل الهوي، يحدث ما يُسمَّى «الانتقاء الثقافي»، أي أن الثقافة تفرض على المجتمع أو الجماعة نوعاً من الانتقائية الوراثية نظراً لأهمية عنصـر معيَّن. وهذا العنصـر، في حالة اليهـود، هو الوصية التي تقول «لا تطبخ العجل بلبن أمه »، والتي تتضمن تحريماً ضمنياً على استخدام الدهون. ويمكننا بالمثل رؤية الأمراض الوراثية التي تزداد نسبتها بين يهود الولايات المتحدة، المهاجرين من مناطق اليديشية، كنوع من الانتقاء الثقافي وأيضاً الطبقي، ذلك أن معظم هؤلاء المهاجرين من أصول فقيرة، ويصبح الامتناع عن تناول الدهون نوعاً من الالتزام الديني والذي قد يكون أيضاً بسبب عجز القدرة المادية. 


ومن الأمراض العصبية التي ترتفع نسبة الإصابة بها بين يهود اليديشية في العصر الحديث (بخاصة بين المهاجرين) مرض ذهان الهوس والاكتئاب أو المرض الدوري، وهو المرض الذي تنتاب المريض فيه حالات متعاقبة من الهوس ثم الاكتئاب، وأحياناً تكون الحالات اكتئابية فقط أو هوسية فقط. ويُذكَر أن هذا المرض يكون مقترناً (لدى بعض اليهود غير اليديشيين المصابين به) بعمى الألوان وبنقص في الخميرة المسؤولة عن انتزاع هيدروجين الجلوكوز 6 فوسفات من على الصبغية س، ومن ثم يُفترض أن يكون لهذا أصل وراثي. 


ومرة أخرى، يُفسِّر نموذج الانتقاء الثقافي سبب تَفشِّي هذا المرض بين اليهود من أصل يديشي أو إشكنازي. وكما يقول رفائيل باتاي في كتابه العقل اليهودي، تزداد نسبة إصابة فقراء اليهود والطبقة العاملة اليهودية التي تمثل نسبة ضئيلة من إجمالي الطائفة بهذا المرض، فذهان الهوس والاكتئاب هو من أمراض عدم التَكيُّف ويزداد بشدة عندما تزداد الهوة الاجتماعية بين أفراد الطبقة الواحدة. واليهودي الفقير يزداد إحساسه بالغربة وعدم التكيف لإحساسه بأن اليهود الآخرين أكثر غنى منه، ومن ثم تبدأ نوبات السخرية من الذات التي تتلوها نوبات الاكتئاب والإحباط.


وكذلك يُفسِّر لنا هذا النموذج انخفاض معدلات الخصوبة بين اليهود من أصل يديشي في الولايات المتحدة حتى أصبحت تساوي النسبة العامة للمواطن الأمريكي من الطبقة الوسطى. فالحراك الطبقي الذي حققه يهود اليديشية في الولايات المتحدة غيَّر نمط حياتهم وجعلهم أقرب إلى التمسك بقيم الطبقة الوسطى أكثر من المواطن الأمريكي العادي. فاليهودي اليديشي المنتمي إلى الطبقة الوسطى الأمريكية لن يَقبَل أن يحرمه الإنجاب من كل المزايا الفردية التي يتمتع بها، وذلك على العكس من جده الفقير في بولندا الذي كان ينجب كثيراً لأن الأولاد يشكلون مصدراً للدخل (كقوة عمل)، ولأن الثقافة السائدة لا تأبه كثيراً بالانتماء الفردي بقدر ما تحرص على الانتماء الجماعي. 


أما اليهود القرّاؤن، فيُلاحَظ أن من بين الأمراض الوراثية التي ترتفع نسبة ظهورها بينهم مرض فردبخ هوفمان، وهو مرض أيضي يؤدي إلى تَحلُّل خلايا الدماغ ويؤدي إلى موت الأطفال المصابين به. وتبلغ نسبة الأشخاص حاملي المرض بين القرّائين نحو واحد بين كل ثلاثين. 


ويُفترَض أن ليهود الولايات المتحدة من أصل يديشي مناعة خاصة ضد الإصابة بالسل. وقد ذكرت بعض المراجع التاريخية أنه إبَّان تَفشِّي وباء الطاعون في أوربا في القرون الوسطى وما بعدها، كانت نسبة إصابة اليهود به أقل بكثير من نسبة إصابة الآخرين. والواضح أن المناعة النسبية ليهود الولايات المتحدة من أصل يديشي ضد السل يمكن فهمها في ضوء نموذج الانتقاء الثقافي، فمعظم هؤلاء من أصول فقيرة عاشت في مناطق فُرضت عليها العزلة، وبذلك تَفشَّى السل في أجدادهم، والناجون هم أولئك الذي استطاعوا اجتياز المرض واكتسبوا مناعة نسبية ورَّثوها للأجيال التالية التي هاجرت إلى الولايات المتحدة وارتقت في السلم الاجتماعي إلى مستوى الطبقة الوسطى. أما بالنسبة إلى وباء الطاعون، فقد استطاع كثير من يهود أوربا خلال العصور الوسطى تَجنُّب هذا المرض، مثلهم مثل سائر الأثرياء، لمقدرتهم على الابتعـاد عن المناطق الموبوءة، وكذلك لنظافتهم والطبيعة الخاصة لطعامهم. 


وفيما يختص بيهود المشرق، نجد أن نسبة الإصابة بأمراض نزف الدم (الهيموفيليا) تقل قياساً بغيرهم. ويمكننا في ضوء نموذج الانتقاء الثقافي أيضاً أن نرى انخفاض نسبة أمراض الدم بين اليهود الشرقيين، حيث أن اتباع تعاليم التلمود يخلق هذا النوع من الانتقائية. فقد ورد في التلمود فقرة تدعو إلى عدم ختان الطفل المولود لامرأة مات لها طفل من النزيف بعد ختانه، وإلى عدم تحبيذ زواج تلك المرأة من رجل من العائلة نفسها. 
ومن المعروف أن ختان الذكور تقليد مصري اعتاد عليه اليهود وأخذوا معه جميع التعاليم المرتبطة به. وبذا، يمكننا أن نقول إن هذا أدَّى إلى عملية انتقائية خاصة تؤدي إلى عزل جيني معيَّن يقلل من الإصابة بهذا المرض. 
2 ـ أمراض تصيب أعضاء الجماعات اليهودية بنسبة لا تختلف عن أعضاء الأغلبية: 


يُلاحَظ أن هناك تشابهاً في النمط الوراثي أو في مسألة الإصابة بالمرض بين أعضاء الجماعات اليهودية وبين الشعوب التي يتواجدون بينها. فهم ينتمون إلى ثقافة هذه الشعوب ويعيشون ظروفها. وفي دراسة أجريت في إسرائيل أعوام 1964 ـ 1966، يُلاحظ الباحث أن نسبة الإصابة بمرض ارتفاع ضغط الدم المصاحب للحمل ترتفع بين النساء اليهوديات من أصل إيراني. وكذا بين المسلمات العرب، عنها بين النساء اليهوديات من أصل يديشي أو سفاردي. وهو يحاول أن يربط بين المرض وبين ما دعاه بـ «الأصل العرْقي»، ولكنه يعود في فقرة أخرى ليتحدث عن العوامل الاقتصادية الاجتماعية، وليس عن الأصل العرْقي، دون أن يُلاحظ ما في قوله من تَناقُض، فيقول: إن المرض أكثر انتشاراً بين الأمهات الفقراء وغير المتعلمات! 


في هذا الصدد، تَذكُر دراسة أجريت في إسرائيل بين عامي 1952 و1953 أن معظم حالات أمراض الجهاز الهضمي بين يهود اليديشية هي حالات قرحة المعدة والقولون العصبي، وهي حالات عصبية جسمية. وعلى العكس من ذلك، تزداد الأمراض المعدية بين اليهود الشرقيين. فيهود اليديشية القادمون من أوربا يعانون أساساً من أمراض الحضارة الغربية، أما اليهود الشرقيون فيعانون من أمراض المنطقة العربية. 


ونحن نلاحظ أيضاً أن غالبية الأمراض الوراثية، التي تُعزَى إلى اليهود بشكل أو آخر، ما هي إلا أمراض تزيد نسبتها بين صفوف يهود الولايات المتحدة من أصل يديشي. ويرجع هذا أولاً وقبل كل شيء إلى ارتفاع مستواهم المادي مقارنةً بغيرهم من البشر في الولايات المتحدة حيث يحتلون مراكز قوية داخل صفوف الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة، الأمر الذي يتيح لهم قدراً عالياً من التعليم، وبالتالي يمكنهم الاستفادة من عملية فحص الأبوين وفحوص ما قبل الزواج التي تتطلب تكاليف باهظة لا يقدر عليها المواطنون من أصل أفريقي مثلاً. 


وعلى أية حال، فإن هذه الدراسات لا تتطرق إلى الأمراض الوراثية العائلية التي تصيب العائلات اليهودية الثرية كعائلة روتشيلد على سبيل المثال. والملاحَظ أن النمط الوراثي هنا يختلف عن النمط العام لأمراض يهود اليديشية ويقترب من النمط الوراثي للعائلات الأرستقراطية الأوربية كآل رومانوف الروس مثلاً، حيث تنتشر بينهم أمراض الدم مثل الهيموفيليا، وهي أمراض تعني شدة انغلاق العائلة على نفسها، وهو ما يؤدي إلى العزل الجيني أو التثبيت الوراثي لصفة مُتنحية. 


لكن الحديث عن الأمراض اليهودية، دون مقارنة هذه الظاهرة بالظواهر المماثلة في المجتمع، يؤدي إلى نزع الظاهرة من سياقها ويفتح الباب على مصراعيه للنظريات العنصرية، والمنطق نفسه الذي يحاول إثبات التفوق الوراثي لليهود يمكن أن يحاول أيضاً إثبات خطورتهم الوراثية وضرورة اتخاذ الإجراءات لوضع حد لهذا الخطر.


نقـــاء اليهـــود حضـــارياً (إثنـــياً) 
Cultural (Ethnic) Purity of the Jews 
«نقاء اليهود حضارياً (إثنياً)» هي عبارة تعني أن ثمة شعب يهودي ذو تقاليد حضارية يهودية خالصة، احتفظت باسـتقلالها ووحـدتها ونقائها. 


والنقاء الحضاري هو المفهوم الأساسي الكامن في الكتابات الصهيونية عن اليهود. ومن ثم، فهم يتحدثون عن «الخصوصية اليهودية» أو «التراث اليهودي» أو «الثقافة اليهودية» وعن «التاريخ اليهودي» وكأن هناك بنية تاريخية مستقلة يدور اليهود في إطارها بمعزل عن الأغيار، وذلك برغم انتشارهم في كل أنحاء الأرض، بل ويتحدثون عن «النظام السياسي اليهودي» و«الاقتصاد اليهودي»، وهكذا، باعتبارها كلها ناتجة عن هذا النقاء الحضاري اليهودي، وباعتـبارها الأطــر التي احتفـظ اليهود من خلالها بنقائهم. 


ويُلاحَظ أن النقاء الثقافي غير منفصل عن النقاء العرْقي، فاستناداً إلى فكرة الشعب العضوي (فولك)، ترتبط حضارة أي شعب بالدماء التي تجري في عروقه. ومن ثم، فإن هناك وحدة لا تنفصم عراها بين الحضارة والعرْق. وقد سادت هذه الفكرة أوربا في القرن التاسع عشر، وكانت من أكثر الأفكار شيوعاً، وأثَّرت في الفكر القومي الغربي وفي الفكر النازي والصهيوني وفي النظرية الإمبريالية الغربية. 


ونحن نذهب إلى أن هناك ثقافات يهودية مختلفة باختلاف التشكيلات الحضارية التي يوجد داخلها اليهود - ومن هنا عدم نقاء الظواهر الحضارية اليهودية ابتداءًً باللغة العبرية ذاتها، وانتهاءً بالنشيد الوطني الإسرائيلي «الهاتيكفاه» (أي الأمل) - (انظر الباب المعنون «ثقافات أعضاء الجماعات اليهودية [تعريف وإشكالية]»). 


والواقع أن الامتزاج مع الحضارات والشعوب الأخرى ليس أمراً معيباً أو مشيناً، فهو قانون الوجود الإنساني. ولكن الصهاينة، شأنهم شأن المعادين لليهود، يحاولون خلع صفة النقاء الحضاري وأحياناً العرْقي على اليهود، وفي هذا إنكار لإنسانيتهم لأنهم حين ينتزعون اليهود من سياقهم التاريخي المتعيِّن إنما ينتزعونهم من سياقهم الإنساني الوحيد. 


الخصوصية اليهودية 
Jewish Specifcity 
«الخصوصية اليهودية» تعبير ينطلق من أن هناك سمات وخصائص ثابتة يُفتَرض أنها مقصورة على أعضاء الجماعات اليهودية ومن ثم تمنحهم خصوصيتهم. وهذه الفكرة كامنة في جميع الأدبيات الصهيونية والأدبيات المعادية لليهود، إذ أن كلاًّ منهما يرى أن ثمة طبيعة بشرية يهودية أو تاريخاً يهودياً خاصاً مقصوراً على اليهود. ولكن دارس الجماعات اليهودية في العالم سيرى أن مفهوم الخصوصية اليهودية ليس له ما يسنده في الواقع، إذ يتسم أعضاء الجماعات اليهودية، بل والنسق اليهودي الديني ذاته، بعدم التجانس. ولذا، فقد يكون من الأدق الحديث عن خصوصيات الجماعات اليهودية، وهي خصوصيات أدَّت العناصر التالية إلى ظهورها: 


1 ـ اضطلعت أعداد كبيرة من الجماعات اليهودية بدور الجماعات الوظيفية الأمر الذي أدَّى إلى عزلها عن المجتمع، ومن ثم كان لهذه الجماعات لون خاص بها وشخصية شبه مستقلة. لكن هذه الخصوصية وظيفية أكثر منها حضارية، أي مرتبطة بالوظيفة لا بالتراث المشترك. 


2 ـ ما يضفي على أعضاء الجماعات اليهودية، (في معظم الأحوال) طابع الاستقلال النسبي الإثني هو ميراثهم من تشكيل حضاري سابق كانوا يتواجدون فيه، وحملوا بعض عناصره وسماته معهم إلى التشكيل الحضاري الجديد الذي انتقلوا إليه، وتمسكوا بها وحافظوا عليها دون أن تكون هذه العناصر والسمات يهودية بالضرورة. 


3 ـ الخصوصية اليهودية التي تتمتع بها الجماعات اليهودية الوظيفية هـي أقـرب إلى الحـالة الذهنية الافتراضية منها إلى الحالة الواقعية الفعلية، فرغم العزلة التي يفرضها المجتمع على الجماعة الوظيفية فإن أعضاء الجماعة اليهودية يكتسبون كثيراً من خصائص هذا المجتمع ويندمجون فيه. 


لكل هذا، لا يمكن الحديث عن خصوصية يهودية واحدة عالمية مُستمَدة من معجم حضاري واحد، بل يمكننا أن نقول إن هناك خصوصيات يهودية شتى اكتسبها أعضاء الجماعات اليهودية لا من تراث يهودي عالمي أو من خلال حركيات حضارية يهودية عامة، وإنما من خلال التفاعل مع عدة تشكيلات حضارية، ومن خلال التكيف معها بطرق مختلفة، ومن خلال الاندماج فيها في نهاية الأمر. ومن ثم أصبح أعضاء الجماعة اليهودية في الصين يهوداً صينيين (أو صينيين يهوداً) تحددت خصوصيتهم داخل التشكيل الحضاري الصيني وبسببه، لا خارجه وبالرغم منه. ولذا، انضمت قيادة الجماعة اليهودية في الصين إلى طبقة كبار الموظفين العلماء (ماندرين)، وتطبَّع أعضاء الجماعة اليهودية بطبائع الصينيين في كثير من النواحي. ويُقال الشيء نفسه عن يهود الهند ويهود إثيوبيا ويهود العالم العربي. بل ونجد، داخل التشكيل الحضاري الواحد، كالتشكيل الحضاري العربي، أن يهود العراق يختلفون عن يهود اليمن بمقدار اختلاف العراق عن اليمن. وفي اليمن، يختلف يهود صنعاء عن يهود الجبال (صعدا وغيرها) بمقدار اختلاف أهل صنعاء عن أهل الجبال. 


وتختلف الأزياء التي يرتديها أعضاء الجماعات اليهودية باختلاف التشكيل الحضاري الذي ينتمون إليه. فالبنطلون الجينز أو الميني جيب (زي الفتاة اليهودية الأمريكية الحديثة) يختلف عن زي الفتاة اليهودية الأمريكية في الجنوب الأمريكي قبل الحرب الأهلية حيث كانت تلبس أزياء الأرستقراطية الإنجليزية. وزي كلتيهما لا علاقة له بالزي الذي ترتديه الفتاة اليهودية من قبائل البربر في المغرب وتونس. وكل هذه الأزياء لا علاقة لها بما ترتديه الفتاة اليهودية المحجبة في بخارى أو نساء السفارد الأرستقراطيات في شبه جزيرة أيبريا اللائي كـن يرتدين ملابــس الأرسـتقراطية الإسـبانية (أو العربية). ويُقال الشيء نفسه عن فلكلور المجتمعات اليهودية الذي هو في واقع الأمر فلكلورات الجماعات المختلفة التي ينتمون إلىها، فطاسة الخضة التي يستخدمها يهود مصر أمر غير معروف ليهود بولندا الذين تأثروا بالتراث الشعبي السلافي، وكلاهما سيُصدَم حينما يعرف بعض العادات التي يمارسها يهود إثيوبيا مثل ختان الإناث وعزل المرأة في كوخ مستقل أثناء الحيض. والشيء نفسه ينطبق على الفنون الجميلة، فرسوم شاجال تختلف اختلافاً جوهرياً عن الزخارف الهندسية التي تظهر على النحاسيات المملوكية التي لا يزال الحرفيون اليهود يصنعونها في دمشق، وكلاهما يختلف عن الحلي الفضية التي يصنعها الصاغة اليهود في اليمن أو تونس. 


وقد يُقال إن اللغة العبرية تشكل عنصراً مشتركاً بين أعضاء الجماعات اليهودية، لكن من المعروف أن العبرية ظلت في معظم الأحيان لغة الصلاة التي كُتبت بها بعض الكتابات الفقهية، ولم يكن يجيدها سوى أعضاء الأرستقراطية الدينية. وبعبارة أخرى، كانت اللغة العبر�
على الفصل بين الطبقات والأقليات والجماعات لتسهيل عملية إدارة المجتمع في غياب مؤسسات الدولة المركزية القومية. ولكن، بَتفسُّخ النظام الإقطاعي في أواخر القرن الثامن عشر، ظهرت الدولة العلمانية القومية المركزية، وهي دولة تستمد شرعيتها من التاريخ المشترك ومن مقدرتها على إدارة المجتمع بكفاءة. كما أن هذه الشرعية تستند أيضاً إلى مدى تعبيرها عن روح الشعب وإرادته. وقد كانت الدولة القومية العلمانية دولة رأسمالية، في العادة، تحاول أن تخلق السوق القومية الموحـدة التي لم تَعُد بحـاجة إلى الجــماعات الوظيفية الوسيطة، إذ أنها تضطلع بمعظم مهامها. ولكل هذا، تساقط النظام القائم على الفصل بين طبقات الشعب وفئاته، وحل محله نظام يحاول دمج كل المواطنين الذين يدينون له وحده بالولاء، على عكس النظام الإقطاعي حيث تستند الدولة إلى شرعية دينية أو شرعية تقليدية، ولذا يدين الفرد بالولاء إما للكنيسة أو للنبيل أو للملك، وهكذا. 


وتكتسب الدولة القومية العلمانية قدراً كبيراً من شرعيتها من التاريخ والتراث المشترك (الحقيقي أو الوهمي) لمجموعة البشر التي تعيش داخل حدودها، ولذا طالبت الثورة الليبرالية البورجوازية، والدولة القومية، أعضاء الجماعات اليهودية، وغيرهم من الجماعات، بأن يتخلوا عن خصوصيتهم الإقطاعية شبه القومية وأن يكتسبوا هوية عصرية متجانسة تعبِّر عن هذا التراث المشترك بين أعضاء المجتمع. وقد قال أحد خطباء الثورة الفرنسية في ديسمبر سنة 1789: " نحن نرفض أن نمنح اليهود كأمة أي شيء، أما اليهـود كأفراد فإننا نمنحهم كل شـيء ". وتم إعتاق أعضاء الجماعات اليهودية في معظم أنحاء أوربا، وبدأت عملية تحديثهم بحيث تم القضاء على تميزهم وتمايزهم الوظيفي والاقتصادي. وقد استجاب أعضاء الجماعات اليهودية لهذا النداء الذي شكَّل تياراً تاريخياً أفرز تحولاته الاجتماعية، خصوصاً وأن اليهودية الحاخامية (وهي الإطار الفكري ليهود أوربا) كانت في حالة أزمة حادة منذ دعوة شبتاي تسفي المشيحانية وظهور الحسيدية، فقامت بينهم حركة التنوير اليهودية الداعية إلى الاندماج. كما ظهرت اليهودية الإصلاحية التي حاولت تخليص اليهودية من الجوانب القومية فيها، وهي الجوانب التي تدعم ما يُسمَّى «الخصوصية اليهودية»، وتأكيد الجوانب الدينية الروحية حتى يتحقق للمواطن اليهودي الانتماء القومي الكامل والاندماج السوي. وقد حقق أعضاء الجماعات اليهودية بالفعل قسطاً كبيراً من الاندماج في فرنسا وإنجلترا. 


وقد اتسمت محاولات الاندماج في بلدان شرق أوربا ووسطها بالبطء والتعثر بسبب ظهور القوميات العضوية فيها وبسبب سرعة معدل تَطوُّر الرأسمالية المحلية، الأمر الذي لم يتح لأعضاء الجماعات اليهودية الذين كانوا يلعبون دور الجماعة الوظيفية الوسيطة فرصة للتَأقلُم والتَكيُّف. 


وإلى جانب هذا، كان يهود شرق أوربا من أكثر القطاعات الإنسانية تَخلُّفاً، كما أن قيادتهم لم تُدرك أبعاد التحدي القومي العلماني الجديد ومدى جاذبيته بالنسبة لجماهيرهم، الأمر الذي أعاق أعضاء الجماعة اليهودية عن الاستجابة الخلاقة للوضع الجديد في معظم الأحيان. ومن المفارقات أن هذا التخلف نفسه أدَّى إلى نتائج عكسية تماماً بالنسبة للشباب، إذ كانوا يهرعون إلى عالم الأغيار وينصهرون فيه، هرباً من الجو الخانق للجيتو. 


ويركز الصهاينة على تَعثُّر محاولات التحديث والاندماج لتأكيد حتمية المشروع الصهيوني. ورغم كل الادعاءات عن فشل الاندماج، فإن الوضع الثقافي لليهود يثبت أن هذا الواقع هو الحقيقة الأساسية في حياة معظم الجماعات اليهودية إن لم يكن الحقيقة الأساسية في حياتها جميعاً. فنسبة الزواج المُختلَط في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي (سابقاً)، اللذين يضمان أغلبية اليهود في العالم، مرتفع للغاية (تبلغ في المتوسط 50% وتصل في بعض المناطق إلى حوالي 80%). والاندماج وحده هو الذي يفسر سلوك أعضاء الجماعات اليهودية المتعيِّن، فهم يرفضون الهجرة إلى إسرائيل رغم تلويح الحركة الصهيونية لهم بخطر معاداة اليهود بل وبالإبادة. وفضلاً عن ذلك، فإنهم يرفضون زيارة الدولة الصهيونية للسياحة حيث لم يزرها سوى 15% من يهـود أمريكا الذين يفضـلون قضـاء إجـازاتهم في جزر الكاريبي. 


وفي نهاية الأمر، لا تزال الغالبية العظمى من يهود العالم (75%) منتشرة في أنحاء العالم فيما يُسمَّى «المَهْجَر» أو «المَنْفَى» أو «الشتات»، وهو في واقع الأمر ليس بمَهْجَر ولا مَنْفَى ولا شتات، فهم موجودون في أوطانهم بشكل دائم لا مؤقت، وهم يعيشون هناك بحُرِّ إرادتهم دون قسر أو إكراه. والغالبية الساحقة من أبنائهم (90%) لا تتلقى أي تعليم يهودي ولا علاقة لها بما يُسمَّى «الثقافة اليهودية». وهذا الوضع ينهض دليلاً على اندماجهم وتَقبُّلهم مجتمعاتهم بكل محاسنها ومثالبها وتَبنِّيهم قيمها الحضارية والأخلاقية بشكل كامل. ويذهب بعض الدارسين إلى أن الدولة العلمانية (القومية الرأسمالية أو الأممية الاشتراكية) هي دولة تُعبِّر عن قوانين العقل، ومن ثم فهي لا تتعامل إلا مع الإنسان العام (الطبيعي أو العقلاني أو الأممي). ولذا، لابد من القضاء على أية خصوصية. والواقع أن اندماج يهود العالم الغربي، هذا الاندماج الكامل في مجتمعاتهم المتقدمة، تعبير عن هذا الاتجاه. 

0 مشاركات:

إرسال تعليق