موسوعة الىهود واليهودية عبد الوهاب المسيرى ج 1 lمقطع 4


النموذج المركب


«النموذج المركب» (ويمكن أن نطلق عليه أيضاً «النموذج المنفتح» أو «النموذج التعددي» أو «النموذج الفضفاض» أو «نموذج التكامل غير العضوي»). وهو النموذج الذي يحوي عناصر متداخلة مركبة (أهمها الفاعل الإنساني ودوافعه) بحيث يعطي الإنسان صورة مركبة عن الواقع ولا يختزل أياً من عناصره أو مستوياته المتعددة أو تناقضاته أو العوامل المادية والروحية، المحدودة واللامحدودة والمعلومة والمجهولة، التي تعتمل فيه. وهو النموذج الذي لا يمكنه أن يطرح نهاية للأشياء بسبب تركيبيته، فهو نموذج تفسيري اجتهادي منفتح وليس نموذجاً موضوعياً متلقياً مادياً. 


والنموذج المركب يدور في إطار المرجعية المتجاوزة. وهو يتسم بالتماسك والوحدة ولكن تماسكه ليس عضوياً أو صلباً، وثمة وحدة في الوجود ولكنها وحدة غير عضوية وغير مصمتة لأن مصدر الوحدة ومركز الكون غير المنظور ليس كامناً أو حالاًّ في العالم (فهو الإله الواحد المفارق المنزَّه في النظم التوحيدية وهو الإنسان المتميِّز عـن الطبيعة في النظم الهيومانية الإنسـانية). والمركز مفارق للعالم لا يتجسد فيه رغم تجليه وتبديه من خلاله، ولذا فإن النموذج المركب لا يسقط في الكمونية الواحدية ويظل محتفظاً دائماً بمسافة بين الخالق والمخلوق وبين الإنسان والطبيعة لا يمكن اختزالها ولا إلغاؤها إذ لا يمكن توحيد قطبي الثنائية. ولكن هذه الثنائية الأولية ليست ثنائيةصلبة (ثنائية غير تكاملية) وإنما ثنائية فضفاضة، فثمة تفاعل بين عنصري الثنائية، فالإله خلق العالم ونفخ فيه من روحه ولم يهجره بل دخل في علاقة معه فهو يرعاه. وقد منح الله الإنسان بعض الصفات الربانية التي تميزه عن الطبيعة ثم استخلفه في الأرض. وهو لم يضعه في الأرض ليكون في علاقة صراع مع الطبيعة أو ليوظفها وإنما استخلفه فيها واستأمنه عليها ليستخدمها ويعمرها، وهو يكتسب مركزيته من عملية الاستخلاف هذه. ولذا، فإن العلاقة بين الإنسان والطبيعة أو بين الإنسان والإله ليست علاقة وحدة وإنما علاقة تكامل. 


والإنسان الذي يحوي داخله القبس الإلهي (في المنظومة التوحيدية) أو المتميِّز عن الطبيعة (في المنظومة الإنسانية) قد يشارك في بعض سمات النظام الطبيعي وقد تسري القوانين الطبيعية وقوانين الأشياء على بعض جوانب وجوده (فهو يولد ويأكل ويمشي ويضاجع النساء ويمرض ويموت) ولكنه لا يُردّ في كليته إليها. وقد نعرف هذا الجانب أو ذاك من وجوده، ولكن تظل هناك جوانب (ربانية) مجهولة لا يمكن معرفتها أو إخضاعها للقانون المادي العام الواحد. ولذا، يظل هناك قانونان: واحد للإنسان والآخر للأشياء. وتنبع بعض جوانب فكر الإنسان من واقعه (المادي الطبيعي أو الإنساني)، ولكنه لا يمكن أن يُردَّ في كليته إليه لأن بعض هذا الفكر نابع من ذاته (الربانية الإنسانية غير الطبيعية) المتجاوزة لذاته المادية والطبيعية، أي أن الإنسان جزء يتجزأ من الطبيعة متجاوز لها. ولكل هذا، يشكل الإنسان ثغرة في النظام الطبيعي/المادي، فهو كائن قادر على تجاوز الجوانب الطبيعية/المادية في ذاته وقادر على تجاوز الطبيعة/ المادة ذاتها. وهي مسافة لا يمكن أن تُسد تماماً (مثل المسافة التي تفصل الخالق عن المخلوق)، فالجانب الرباني في الإنسان لصيق تماماً بإنسانيته. 


ووجود الإنسان كثغرة في النظام الطبيعي هو الذي يؤدي إلى ظهور كل الثنائيات الفضفاضة الأخرى (كل/جزء ـ عام/خـاص ـ ذات/موضـوع ـ سـبب/نتيجة ـ محدود/لا محدود ـ معروف/مجهول ـ ذكر/أنثى ـ سماء/أرض). وكلها ثنائيات لا يمكن القضاء عليها، فهي صدى للثنائية الكبرى الكلية والنهائية (خالق/ مخلوق). ولذا، فإن وجود مسافات داخل النموذج المركب هي من صميم بنيته، ومن ثم فهو غير قابل للانغلاق ولا يمكن إخضاعه للقوانين الواحدية. وكما يتفاعل الإله مع الإنسان تتفاعل وتتكامل الثنائيات كافة لذا فالنماذج المركبة تتسم بالتكامل غير العضوى. 


والنماذج المادية تتأرجح بين التماسك العضوي الكامل (الصلابة) والتجانس المطلق (الذي يُفقد الأجزاء شخصيتها واستقلالها وهويتها) والاستمرارية الكاملة من جهة ومن جهـة أخرى عدم التماسك (السيولة) وعدم التجانس (الذي يجعل لها هوية لا يمكن القضاء عليهـا) والانقطاع الكامل. أما نموذج التكامل غير العضـوي، فهو يفترض أن العالم كل متماسك، مُكوَّن من كليات متماسكة، مُكوَّنة بدورها من أجزاء غير مترابطة بشكل صلب وغير متجانسة بشكل كامل، ومع هذا فهي أجزاء متماسكة لكلٍّ شخصيتها ولكنها لا تُفهَم إلا بالعودة إلى الكليات. ولكن الكليات ليست صلبة، ومركزها ومصدر تماسكها يوجد خارجها، ولذا فهي تظل كليات فضفافة تحوي داخلها ثغرات. وهذا يعني أن الأجزاء هامة في أهمية الكل، وأنها لا تُردُّ إلى الكل، فنموذج التكامل غير العضوي يحاول إدراك الخاص دون السقوط في التأيقن، ويدرك العام دون الذوبان في القانـون العام إذ أن لكل ظاهرة منحـناها الخـاص رغم أنها تنضوي تحت نمط عام. 


وعدم الالتحام العضوي يسمح بقبول الشخصية المستقلة لكل جزء رغم انتمائه للكل، فالجزء ليس جزءاً عضوياً لا يتجزأ وإنما هو جزء يتجزأ، أي أن انفصال الأجزاء عن الكل ليس انفصالاً كاملاً وإنما هو درجة من الاستقلال النسبي للأجزاء عن الكل وللأجزاء (الواحد عن الآخر). ومع هذا، ثمة افتراض لأسبقية نهائية للكل على الأجزاء (وإلا انتفت فكرة الحقيقة الكلية وفكرة النموذج نفسها). ولذا، لا يذوب الجزء في الكل ولا الكل في الجزء، ولا يذوب العام في الخاص ولا الخاص في العام، والاستمرار والانقطاع لا يُجُبُّ أيٌّ منهما الآخر. ولذا، فبإمكان النموذج أن يتناول الظواهر والعلاقات بكل أشكالها ومستوياتها ويحترم منحناها الخاص ويتناول الكل والجزء والخاص والعام والاستمرارية والانقطاع دون أن يَرُدَّ الواحد إلى الآخر، بل يحاول الوصول إلى النقطة المفصلية حيث يتصل الواحد بالآخر. 


والنموذج المركب ينكر وجود قوانين تاريخية عامة وحتمية ويرى أن مقدرتها التفسيرية ضعيفة، ويطرح بدلاً من ذلك فكرة الأنماط التاريخية المتشابهة، وليست بالضرورة المتكررة والمتجانسة تماماً، فالتاريخ لا يتطور بنفس المستوى ولا بنفس المعدل ولا بنفس الطريقة من مجتمع لآخر. بل إنه، داخل المجتمع الواحد يوجد من العناصر الخاصة ما يجعل التأني والدراسة المدققة ضروريين لتَفهُّم مسارات التاريخ المختلفة. 


والنماذج المركبة لا تدور في إطار الواحدية السببية التي تدور إما في إطار عنصر روحي واحد أو عنصر مادي واحد والتي تستوعب كل شيء في شبكة السببية الصلبة. وبدلاً من ذلك، يظهر مبدأ التعددية السببية، ويحل مبدأ تعددية المؤثرات محل مبدأ أحادية المؤثرات في فهم الطبيعة والإنسان وتفسيرهما والتنظير لهما. ومن ثم يجري النظر إلى الظاهرة في أبعادها المتكاملة دون الاقتصار على بُعد واحد مادي أو روحي، ثم يتم بعد ذلك تحديد أكثر الأبعاد فعالية وتأثيراً دون التقيد بأية مسلمات مسبقة تقول إن أحد الأبعاد (العنصر الاقتصادي أو العنصر الجنسي أو العنصر الروحي على سبيل المثال) أكثر فعالية وتأثيراً من الأبعاد الأخرى. فكل ظاهرة لها منحـناها الخـاص ولا توجد حتميات سـببية مطلقة ولا يوجد شـيء في نهاية الأمر وفي التحـليل الأخير إلا وجه الله، ضمان حرية الإنسـان ووعيه بحريته. ولذا، لابد أن تُدرَس كل ظاهرة حسب المقاييس المناسبة لها، ويُنحَت نموذج خاص لدراستها، فلا تُطبَّق قوانين الأشياء على الإنسان ولا تُطبَّق قوانين الإنسان على الأشياء. هذا لا يعني بطبيعة الحال إسقاط النماذج التفسيرية المادية الخالصة أو الروحية الخالصة، فالأولى لها دورها في تفسير الوجود الطبيعي وتفسير بعض جوانب الوجود الإنساني، تماماً كما أن الثانية لها دورها في تفسير جوانب أخرى لهذا الوجود الإنساني.


والنموذج المركب يُنكر الواحدية السببية ولكنه لا يسقط في العبثية، حيث لا سببية على الإطلاق، وإنما يدور في إطار السببية المركبة التعددية حيث لا تؤدي (أ) حتماً وبشكل آلي إلى (ب) (ولكنها في معظم الأحوال تؤدي إليها)، فهي بسبب عدم تحكمنا في كل الواقع وبسبب عدم معرفتنا بكل عناصره قد تؤدي إلى (ج) (ولكنها بإذن الله تؤدي إلى ب). 


وتحل النماذج المركبة قضية القيمة، فهي تستطيع التعامل مع المثالي والواقعي، ومع الروحي والمادي، فهي ليست نماذج واحدية بسيطة مادية لا تجيد التعامل إلا مع العالم الواقعي المادي، وليست نماذج روحية بسيطة لا تجيد إلا التعامل مع عالم الروح. 
وتأخذ عملية التفسير (أو الاجتهاد) داخل هذا النموذج شكلاً حلزونياً، فالمُفسِّر المجتهد لن يواجه الواقع بقانون عام أو افتراض عام يُفسِّر به الواقع بأسره، وهو لن يقوم بمراكمة المعلومات عن الواقع بلا تمييز، بل سيصوغ نموذجاً تفسيرياً تصورياً من خلال قراءة التاريح ومعرفة الدوافع الإنسانية وقوانين البنية الموضوعية والمتتاليات التفسيرية السابقة، ثم يُختبَر هذا النموذج بالعودة إلى التفاصيل التاريخية والاجتماعية. ولكن عملية الاختبار هذه ستقوم بتعديل النموذج، ومن ثم فإن عملية التفسير عملية حلزونية لا متناهية. 


ومثل هذا النموذج لا يطمح إلى الوصول إلى اليقين الكامل والتفسير النهائي والحلول الشاملة والتحكم الإمبريالي الكامل في الطبيعة، وبالتالي فهو لا يسقط في أسفل درجات العبثية والإذعان التام للطبيعة/المادة (تَمركُز حول الذات يؤدي إلى انتصار الموضوع) كما أنه لا يحلق في أقصى درجات الروحية والتجاوز التام لعالم الطبيعة/المادة، وإنما هو نموذج يطرح إمكانية أن المعرفة ممكنة وأن الحقيقة يمكن الوصول إليها، ولكنها معرفة إنسانية وحقيقة غير مطلقة (لأن المعرفة المطلقة تقع خارج نسق التاريخ الإنساني ـ وعند الإله وحده وهو مفارق للمادة وإن كان يُسبِغ عليها المعنى والاتجاه)، فهو نمـوذج يَقنَع بتناول ما يمكن أن يُعرَف وحسـب دون أن يصـاب باليأس بسبب المجهول وما لا يمكنه معرفته، فالمسافات سمة بنيوية فيه. إن النموذج المركب أقرب إلى الصورة المجازية منه إلى القانون، وهي صورة مجازية لا تتشيأ ولا تُشيئ لأن مركز الكون لا يتجسد فتظل هناك مسافة بين الدال والمدلول. 


ومن هذه النقطة يمكن أن نطرح فكرة النظرية الكبرى الحاكمة (بالإنجليزية: جراند ثيري grand theory). ونحن نذهب إلى أن التخلي عن محاولة الوصول إلى نظرية حاكمة كبرى (رؤية للكون وللأمور المعرفية الكلية والنهائية) أمر غير ممكن. فالواقع قد ينقسم إلى مجموعة من القصص الصغرى (على حد قول أنصار ما بعد الحداثة) ولكن هناك داخل كل قصة ـ مهما بلغت من صغر ـ قصة كبرى، وهذا ما نعبِّر عنه بقولنا "إن ثمة نموذجاً ما كامناً وراء كل الظواهر". وهذا أيضاً ما يُقال له «حتمية الميتافيزيقا». وإن لم يطور الإنسان نظرية كبرى، فإنه سيقع فريسة النظرية الكبرى للآخر وضحية لما يُسمَّى «إمبريالية المقولات»، أي أن يستورد الإنسان المقولات التفسيرية الكبرى من الآخر، ويقصر جهده البحثي والمعرفي على مراكمة المعلومات من خلال المقولات الجاهزة التي اسـتوردها. وداخـل إطار النموذج الفضفاض وفكرة الاجتهاد، سنحاول الوصول إلى نظرية شاملة كاملة، ولكننا نعرف أننا لن نصل إلى اليقين المطلق أو التفسير النهائي، فنظريتنا لن تكون نظرية شاملة كاملة (جراند ثيري) وإنما «ريلاتيفلي جراند ثيري relatively grand theory»، أي "نظرية كبرى وشاملة إلى حدٍّ ما" أو داخل حدود ما هو ممكن إنسانياً. ومثل هذه المحاولة لا يمكن أن تتم في إطار كموني مادي واحدي يرى أن كل القوانين كامنة في المادة؛ إطار يُلغي ثنائية الإنسان والطبيعة ويتأرجح بين الموضوعية الكاملة والذاتية الكاملة. 
وكما تُصاغ النماذج عادةً، يمكن أيضاً صياغة النماذج المركبة من خلال عملية تفكيك وتركيب: 


1 ـ تُفصَل الوقائع والتفاصيل التي تستخدمها النماذج الاختزالية (العلمية أو التآمرية) عن هذه النماذج أو أي نماذج مسبقة بقدر الإمكان. 


2 ـ تُوضَع الوقائع والتفاصيل في سياق إنساني (تاريخي واجتماعي) عريض، أي تتم استعادة البُعد التاريخي والمنظور المقارن (وهو الأمر الذي تحرص على استبعاده الكتابات الصهيونية والمعادية لليهود والكتابات العلمية الاختزالية). 


3 ـ تُربَط الأجزاء والتفاصيل والحقائق بالكليات التاريخية والاجتماعية داخل أنماط. 


4 ـ تُضَم وقائع ومعلومات كان قد تم استبعادها من منظور النماذج الاختزالية القائمة، ويتم توسيع وتعميق الأنماط. 


وبذلك يمكن إظهار عجز النموذج الاختزالي عن تفسير كثير من المتغيرات وعناصر الواقع، كما يمكن البرهنة على مقدرة النموذج المركب على إنجاز ما عجز عنه النموذج الاختزالي، إذ تكتسب الوقائع معنى جديداً ويصبح بالإمكان تفسيرها بطريقة أكثر تركيباً وإنسانية. 


واستخدام النماذج المركبة له نتائجه العملية والمعرفية والأخلاقية الكثيرة. وقد بيَّنا مواطن القصور الناجمة عن استخدام النماذج الاختزالية في دراسة الجماعات اليهودية، ويمكننا أن نبيِّن في هذا المدخل النتائج الإيجابية (العلمية والمعرفية والأخلاقية) لاستخدام النماذج المركبة في نفس المجال. 


1 ـ النماذج المركبة لا تختزل العدو في صهيونيته أو ماسونيته بل تراه في تركيبيته الإنسانية والعميقة وبمقدرته على الانتصار والانكسار وفي سياقاته المتعددة، ولذا فهي تُسقط عن اليهودي عجائبيته وإعجازه وتفرده (الذي يصر عليه الصهاينة والمعادون لليهود) وتستعيد له إنسانيته وتركيبيته ومن ثم تُعرِّفه في قوته وفي ضعفه الحقيقيين. 


2 ـ أسلفنا القول أن النموذج المركب سيساعدنا على التخلص من الربط بين اليهودي وكل الظواهر السلبية في المجتمع، الأمر الذي سيوسع من أفقنا ويجعلنا أكثر قدرة على دراسة هذه السلبيات والبحث عن سببها الحقيقي بدلاً من البحث الاختزالي عن اليهود. وكثير من الوظائف التي ارتبطت في أذهاننا باليهود، وباليهود وحدهم (وبسبب الأدبيات العنصرية الغربية)، يقوم بها غير اليهود في أماكن وفترات مختلفة. كما أن ربط اليهود بالشر يُولِّد في أنفسنا الهلع، ويجعلنا غير قادرين على التمييز بين العناصر المعادية وتلك التي يمكننا التحالف معها. 


3 ـ سيساعدنا النموذج المركب على أن ندرك أعضاء الجماعات اليهودية في سياقاتهم المتعددة (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية)، فهم ليسوا يهوداً والسلام، أي يهوداً بشكل عام، وإنما جماعات يهودية مختلفة؛ لكل منها وضعها ودوافعها وأبعادها، وهو ما يُحسِّن قدرتنا على تفسير كثير من الظواهر اليهودية ومن مقدرتنا التنبؤية ويفيد كثيراً في الممارسة. 


4 ـ سيساعدنا النموذج المركب على إدراك الطبيعة العميقة والبنيوية للعلاقة بين الدولة الصهيونية والحضارة الغربية والتشكيل الاستعماري الغربي، ومدى عمق الصراع بيننا وبين العدو الصهيوني ومدى اتساعه. 


5 ـ إذا استخدمنا النماذج التفسيرية المركبة، فإننا نكون قد طبَّقنا واحداً من أهم تعاليم الإسلام وهو ضرورة الحفاظ على حقوق الأقليات التي تعيش بيننا (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) إذ ليس من حق أحد إسقاط الحقوق التي أعطاها الله إياهم استناداً إلى رؤية حرفية واختزالية حتمية تهدر حقوقهم حتى قبل أن يُولَدوا وتعتبرهم أشراراً بالوراثة، أي من خلال طبيعتهم المادية لا اختيارهم الأخلاقي. ونظرية الحقوق الدينية مختلفة في هذا المضمار عن نظرية الحقوق المدنية التي ترى أن هذه الحقوق ليست مطلقة، فالأمة مصدر السلطات وهي التي تمنح وتمنع. وفي حالة الدولة النازية، قررت الدولة الألمانية (باعتبارها تجسيداً لإرادة الشعب) أن تدمر كل من يقف في طريق التقدم والتنمية (مثل مُشوَّهي الحرب والعجائز) وكثيراً من أعضاء الأقليات (مثل الغجر واليهود).




6 ـ إذا أدركنا، من خلال النموذج المركب، المغزى الإنساني الكامن في واقعة عنصرية، فإن الحزن من أجل الضحية سيكون حزناً إنسانياً لا يمكن توظيفه في خدمة عقيدة عنصرية استيطانية كما يحدث في الوقت الحاضر. فإذا سقط اليهودي ضحية العنف والعنصرية في مجتمعه الغربي، فإن هذا لا يعني أن اليهودي هو الضحية الأزلية للعنف وإنما ضحية مجتمعه الغربي العنصري، والحل الإنساني الوحيد لهذه المشكلة ليس هو تصدير المشكلة لنا وإنما أن ينضم اليهودي للجماعات التي تدافع عن حقوق الإنسان (من أعضاء الأقليات الأخرى وأعضاء الأغلبية) وأن يناضل من أجل حقوقه داخل مجتمعه. وتصبح القضية هي كيفية الدفاع عن الحقوق السياسية والمدنية والدينية لليهود (وغيرهم من الأقليات) داخل وطنهم، مثل الولايات المتحدة واتحاد دول الكومنولث المستقلة (الاتحاد السوفيتي سابقاً) لا أن نطالب بتهجيرهم (أو خروجهم) كما يفعل العنصريون من الصهاينة والمتآمرون من بلهاء صهيون. 


ويجب أن نتذكر أن اليهودي الذي يفر من بغض أعداء اليهود وحربهم ضده هو نفسه اليهودي الذي يصبح مستوطناً صهيونياً يغتصب الأرض العربية ويتحوَّل، بعد قليل، إلى الجندي الصهيوني الذي نراه على شاشات التليفزيون يقتل الأطفال العرب أو يكسر عظامهم. وقد أدرك الصهاينة ذلك تماماً، ولذا فتاريخهم هو تاريخ التحالف مع أعداء اليهود، بل إن الصهيونية وُصفت بأنها تعيش على الكوارث اليهودية. ومن المعروف لدى الدارسين أن الحركة الصهيونية نظمت هجمات، أحياناً مسلحة، على الأفراد والجماعات اليهودية، لترغمهم على الخروج من بلادهم، ليتحوَّلوا إلى مادة استيطانية وقتالية في المستوطَن الصهيوني. وإشاعات الهجمات على اليهود السوفييت وظاهرة نبش قبور اليهود في أوربا هي، في أغلب الظن، من تدبير الحركة الصهيونية. وقد جاء في أحد تواريخ الصهيونية أنه إذا كان تيودور هرتزل هو ماركس الصهيونية، أي مُنظِّرها، فهتلر هو لينين الصهيونية، أي من وضعها موضع التنفيذ، وذلك عن طريق تصعيد اضطهاد اليهود في أوربا، فهاجرت الآلاف إلى فلسطين، الأمر الذي كانت الحركة الصهيونية قد فشلت تماماً في تحقيقه حتى ذلك التاريخ. 


ونحن إذا أدركنا كل هذا، يصبح من الواجب علينا أن نبتعد عن الدهاليز الضيقة المظلمة، وأن نتوقف عن البحث الطفولي الساذج عن اليهودي ذي الأنف المُقوَّس والظهر المحدودب (الذي لا يُوجَد إلا في كتب الكاريكاتير وفي النماذج الاختزالية) ظناً منا أننا لو عثرنا عليه وقضينا عليه فإننا سنريح ونستريح. فالصراع مع العدو مركب وطويل، والدولة الصهيونية ليست مؤامرة عالمية بدأت مع بداية الزمان، وإنما هي قاعدة عسكرية واقتصادية وثقافية وسكانية للاستعمار الغربي، والصراع معها إنما هو جزء من المواجهة العامة مع الحضارة الغربية الغازية.


نموذج التكامل الفضفاض غير العضوى (نموذج الانتفاضة) 
«نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي» هو نموذج يسمح بوجود ثغرات بين الأسباب والنتائج، وبين الكل والجزء ، وبين الجزء والآخر. فأجزاؤه ليست متلاحمة مع بعضها البعض. وهو نموذج يعرف الثنائيات الفضفاضة والانقطاع ويدور في إطار السببية الفضفاضة، ولذا لا يسقط في الواحدية أو التلاحم العضوي. ورغم استقلال الأجزاء عن الكل وعن بعضها البعض إلا أنها ليست مفتتة ذرياً فهي في علاقة تكاملية بحيث يمكنها أن تنسق فيما بينها وأن تتفاعل. ولذا فهو نموذج يعرف الاتساق والاستمرار والتكامل، ومع هذا يبقى لكل جزء من أجزائه استقلاله وكينونته وشخصيته وهويته. فالأجزاء مترابطة دون أن تكون متلاحمة عضوياً، والكل ينتظم الأجزاء دون أن يبتلعها، ودون أن تذوب هي فيه، ودون أن تُردَّ في كليتها إليه، والسبب له علاقة بالنتيجة ولكنها ليست علاقة مباشرة صلبة. 


ونحن نضع نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي مقابل كلٍّ من نموذج التلاحم العضوي ونموذج التفتت الآلي والذري. وتتسم عناصر نموذج التلاحم العضوي بأنها جميعاً متماسكة متلاحمة بحيث لا يستطيع عنصر أن يستقل عن الكل ولا يتمتع بمساحة يتحرك فيها بشيء من الاستقلال (وهذا هو النموذج السائد في الأوساط الثورية في العالم العربي، بل في العالم الحديث بأسره، وهو النموذج المهيمن على الدول المركزية القومية وعلى منظومة الحداثة الغربية). أما نموذج التفتت الآلي أو الذري فتتسم عناصره بأنها مستقلة تماماً بعضها عن البعض، فيعمل كل عنصر بمفرده (وهذا بطبيعة الحال لا يصلح أن يكون نموذجاً ثورياً، ولا حتى نموذجاً لإدارة دفة الحكم. ومع هذا يسيطر على فكر كثير من الأفراد وطريقة إدراكهم مع تفشِّي البرجماتية والوضعية وما بعد الحداثة). 


والتراث الإسـلامي العربي تراث قد تَرد فيه النمـاذج العضـوية والآلية (وهي لابد أن ترد داخل أي تشكيل حضاري)، إلا أنها لا تتمتع بأية مركزية فيه إذ يشغل المركز نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي. فلننظر (على سبيل المثال) إلى الحديث الشريف: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى" (متفق عليه). فرغم أن الصورة المجازية الأساسية هنا هي الجسد، إلا أن بنيتها غير عضوية نظراً لاستخدام أداة التشبيه التي تحتفظ بمسافة (أو ثغرة) بين طرفي التشبيه وتقلِّل عضوية المجاز وتمنع تأيقنه. فالمؤمنون في تعاطفهم ليسوا «جسداً» وإنما هم «مثل الجسد» وحسب. فأداة التشبيه تخفف حدة الترابط وتُدخل قدراً من الترابط الفضفاض غير الصلب. ولعل الحديث الشريف الآخر عن نفس الموضوع تظهر فيه فكرة الترابط غير العضوي الفضفاض بشكل واضح: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" [متفق عليه] ثم شبَّك الرسول صلى الله عليه وسلم أصابعه. فالصورة المجازية هنا في مضمونها غير عضوية وتُعبِّر عن تكامل وترابط، ولكنه ترابط البناء غير العضوي الذي تتخلله الثغرات (تماماً مثل أصابع اليد المتشابكة). 


ويمكن أن نضرب عشرات الأمثلة الأخرى من القرآن والسنة (والتراث الديني وغير الديني) على فكرة الترابط الفضفاض غير العضوي. فمثلاً مفهوم النفس المطمئنة هو مفهوم فضفاض تماماً، فهي ليست النفس الذرية الآلية ذات البُعد الواحد المغتربة التي تحتفظ بحدودها وانغلاقها، ولا هي النفس الرومانسية ذات البُعد الواحد التي تلتحم عضوياً بالآخر، وإنما هي نفس مركبة الأبعاد تكتسب المقدرة على الإبداع والبقاء (الطمأنينة) من خلال التوكل على الله دون الاتحاد به، ومن خلال التعاون مع الآخرين دون الالتحام الكامل بهم أو الانفصال الكامل عنهم؛ فهي تظل في حالة اتصال وانفصال، تَواصُل واستقلال. وأعتقد أن النموذج الأكبر (نموذج النماذج إن صح التعبير) هو المفهوم الإسلامي لله وعلاقة الإنسان به؛ فالله ليس كمثله شيء ولكنه قريب يجيب دعوة الداعي (دون أن يحل فيه)، وهـو مفارق تماماً للكون (للطبيعة والتاريخ) متسـام عليهما ولكنه لا يتركهـما دون عدل أو رحمة، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد (دون أن يجري في عروقنا) وبإمكان الإنسان أن يقترب منه ولكنه لا يمكنه أن يتحد به. ولذا يظل أشرف المخلوقات في أكثر اللحظات قرباً منه عز وجل "قاب قوسين أو أدنى". فثمة مسافة تفصل بين الإله والإنسان والطبيعة، تماماً مثل تلك التي تفصل بين الإنسان والطبيعة. وهذه المسافة حيز إنساني يتحرك الإنسان فيه بقدر كبير من الحرية، فهي ضمان استقلال الإنسان عن الإرادة الإلهية بحيث يصبح الإنسان حراً مسئولاً من الناحية الأخلاقية، ويصبح له من ثم هوية مركبة محددة، ويصبح التاريخ الإنساني مجال حريته واختباره (ومن هنا مركزية مفهوم «خاتم المرسلين» باعتباره إعلانا من الله عز وجل بأن التاريخ، بعد اكتمال الوحي، هو رقعة الحرية). ولكن المسافة ليست هوة تعني أن الإله قد هجر الإنسان وتركه في عالم الفوضى والصدفة، فالله قد أرسل له وحياً في نص مقدَّس مكتوب، وهو قد كرَّم الإنسان واستخلفه، ولذا فإن الإنسان يحمل رسالة الإله في الأرض ويحمل الشرارة الإلهية داخله. 


هذه هي بعض السمات الأساسية لنموذج التكامل الفضفاض غير العضوي. ويمكننا أن نتناول موضوع الانتفاضة ولنبدأ بالأسباب التي أدت إلى اندلاعها. 


إن القمع الصهيوني للمواطنين العرب قد تفاوت في حدته من عام لآخر، فحالة القهر حالة بنيوية تسم العلاقة بين المستعمرين والمستعمَرين. كما أن عملية تشويه المجتمع الفلسطيني وتحطيم بنيته التحتية، وربطه بالاقتصاد الإسرائيلي كانت تتسارع، حتى أن الباحث الإسرائيلي ميرون بنفنتسي كان قد أصدر دراسة بيَّن فيها أنه قد تم، على مستوى من المستويات، دمج الضفة الغربية في الاقتصاد الإسرائيلي، وأنه لا يمكن العودة عن هذا الأمر. وكان الاحتلال الصهيوني يحاول رفع المستوى الاقتصادي لسكان فلسطين المحتلة عام 1967 عن طريق تحويل قطاعات منهم إلى عمالة رخيصة تعمل داخل إسرائيل وتخدم الاقتصاد الإسرائيلي وتستفيد منه، حتى يصبح من صالحها الإبقاء على الوضع القائم. 


ولكن إلى جانب القهر كانت توجد عملية إغواء، فقد بلغ عدد العرب الذين يعملون وراء الخط الأخضر (وهو الخط الافتراضي الذي يفصل فلسطين المحتلة عام 1948 تلك التي احتلت عام 1967) 120 ألفاً، وقد ارتفع دخل الفلسطينيين العرب بالفعل من 300 دولار عام 1968 إلى 1400 دولار في الضفة وألف دولار في القطاع. ولا يعود ارتفاع مستوى الدخل إلى العمل وراء الخط الأخضر وحسب، وإنما بسبب تحويلات العاملين في البلاد العربية إلى ذويهم. ويُلاحَظ أن ارتفاع الدخل قد تم إنجازه لا من خلال الارتباط بالأرض والعمل فيها، وإنما من خلال النزوح عنها (العمل في إسرائيل أو في البلاد العربية) أي أن ارتفاع الدخل كان يشكل من الناحية البنيوية حركة طاردة من الأرض تهدف إلى دفع السكان لترك وطنهم والهجرة منه والتخلي عن الكفاح المسلح. وكانت الولايات المتحدة تفكر في إقامة بعض المشروعات الاقتصادية في الضفة الغربية تهدف إلى تعميق روح التكيف والمرونة بين العرب وإقبالهم على التمتع بالحياة الدنيا دون التفكير في أية قيم أخلاقية أو قومية ودون التعلق بأية مطلقات أو ثوابت. 


لكن لا القهر قادر على أن يؤدي إلى اندلاع الانتفاضة ولا الإغواء قادر على إطفائها. فهذه جميعاً عناصر مساعدة، إذ لابد أن تكون هناك عناصر إيجابية تحرك الفاعل الإنساني العربي، وفي تصوُّرنا أن العنصر الحاسم في هذا المجال هو تماسُك هوية الفلسطينيين وتجذُّرهم في تراثهم الحضاري والديني، فقد كان هذا هو المدد الذي لا ينفد، والذي جعل الفلسطينيين يدركون إمكاناتهم وعوامل الحياة والانطلاق داخلهم، وفي الوقت نفسه يدركون مدى تَخثُّر العدو وعوامل التآكل والموت داخله. لقد أدركوا الأزمة العقائدية التي كان يخوضها التجمُّع الصهيوني نتيجة تصاعد معدلات العلمنة فيه وتوجهه نحو قيم المنفعة واللذة. ولابد أنهم لاحظوا أن المستوطنين الصهاينة في الضفة الغربية غير قادرين على حمل السلاح، ولذا فهم يتحركون دائماً في حماية قوات "الدفاع" الإسرائيلية. ولابد أن أهل الضفة الغربية رأوا المنازل الفارهة التي تُشيَّد لهؤلاء "الرواد" الصهاينة الذين يتمسكون بجهاز التكييف وحمام السباحة أكثر من تَمسُّكهم بأرض الميعاد (أطلق على هذا النوع من الاستيطان "الاستيطان مكيف الهواء"، أما زئيف شيف المعلق العسكري الإسرائيلي فيسميه "الاستيطان دي لوكس"). 


ولا يوجد أية ضرورة لإطلاق الرصاص على مثل هذا المستوطن المرفه، فالحجارة كفيلة بأن تُعكر صفو حياته الدنيوية وفردوسه الأرضي الحديث الصغير. وبينما كان العدو يَتخثَّر لم تتوقف العمليات الفدائية، التي قد تتفاوت في حدتها، ومدى نجاحها وفشلها إلا أنها نجحت في الإبقاء على روح الجهاد لدى الشعب الفلسطيني، وعلى تماسكه وتمسُّكه بعقيدته، وهذا التماسك هو وحده الذي هيأ الأجيال الفلسطينية الجديدة لإدراك ما حدث داخل المجتمع الصهيوني فازدادت امتلاءً وإبداعاً. وجاءت هزيمة القوات الإسرائيلية في لبنان فحركت إمكانية إلحاق الهزيمة بالعدو من مجال الحلم إلى مجال الواقع. ثم كانت عملية قبية التي قام بها مواطـن عربي من تونـس فكانت بمنزلة الشرارة .


في هذا الإطار بدأ النموذج الانتفاضي، نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، يظهر بتدريجياً، وبدأ المناضلون في الضفة والقطاع يتبنونه إلى أن أصبح النموذج الأساسي والمهيمن، وأصبحت الانتفاضةحالة ممثِّلة لهذا النموذج. ولتوضيح وجهة نظرنا سنقوم بمقارنة نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي بنموذج التلاحم العضوي من منظور إمكانية التشغيل والتطبيق. 


1 ـ يمكن القول بأن نموذج التلاحم العضوي ثمرة حقيقية لمنظومة الحداثة الغربية المبنية على القطيعة المعرفية والفعلية مع الماضي، والبدء من الواقع المادي المباشر ومحاولة السيطرة على عناصره. والتغيير يعني رفض الماضي والبدء من نقطة الصفر الافتراضية. أما نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي فهو نموذج يحاول أن ينسلخ عن الحداثة الغربية ليستلهم التراث ويولِّد منه حداثة جديدة ونظماً في الإدارة وتحريك الكتلة البشرية بأسرها. 


وهذا أمر متوقع تماماً فالنموذج الانتفاضي نموذج استرجاعي: أن تصبح إسرائيل فلسطين مرة أخرى وأن تُزال آثار العدوان الاستعماري الغربي الصهوني الذي نجح في مواجهتنا بآلاته الحديثة وقصم ظهرنا فلابد إذن من استدراجه إلى أرضنا حيث يمكننا أن نحاوره حسب قواعدنا ونستلهم تراثنا. ولذا فالانتفاضة كانت شكلاً من أشكال «العودة عن الحداثة» demodernization، وبعث أشكال تقليدية من التكامل الاجتماعي والإنتاج (الأسرة كوحدة أساسية ـ الزراعة التقليدية ـ المخبز الريفي ـ العودة لشجرة الزيتون كمصدر للحياة وللرموز) ليزداد التكامل الفضفاض والتراحم في المجتمع. ويُلاحَظ أن القرى التي لم تحقق مستوى عالياً من التحديث هي أكثر القرى صلابة في النضال إذ أن بنيتها التحتية التقليدية تضمن لها مقدرة أعلى على الاستمرار بسبب عدم تبعيتها. 


وكلمة «انتفاضة» تبلور النموذج الانتفاضي بشكل يبعث على الدهشة، فهو دال يكاد ينطبق انطباقاً كاملاً على مدلوله ويعبِّر عنه بكل خصوصيته ونتوءاته ومنحنياته، وهو مصطلح يعود للمعجمين اللفظي والحضاري العربي الإسلامي. والكلمة مشتقة من فعل «نفض» مثل «نفض الثوب» يعني «حرَّكه ليزول عنه الغبار أو نحوه». والكلمة على المستوى الدلالي المباشر تشير إلى حركة خلاّقة تولِّد الجديد من القديم (النظافة)، وهي توحي في الوقت نفسه بعدم تجذُّر هذا الذي سيزول ـ الغبار الذي علا الثوب ـ أو الاستعمار الصهيوني الذي حط على أرض فلسطين. ويُقال أيضاً «نفض المكان» أي «نظر جميع ما فيه حتى يعرفه» (وهذه حيلة معروفة لدى شباب الانتفاضة). ويقولون أيضاً «نفض الطريق» أي «طهره من اللصوص». و«النفضة» هي «جماعة يُبعثون في الأرض متجسسين لينظروا هل فيها عدو أو خوف». وتحمل الكلمة أيضـاً معاني الخصـوبة فيُقـال «نفض الكرم» أي «تفتحت عناقيده». ويُقال «نفضت المرأة» أي «كثُر أولادها». والمرأة النفوض هي «المرأة كثيرة الأولاد» (مثل المرأة الفلسطينية)، وهناك تعبيرات مثل «نفض عنه الكسل» و«نفض عنه الهم» وكذلك «انتفض واقفاً». والكلمة، بدلالتها وإيحاءاتها تفترض وجود قوة ما كامنة، كانت ساكنة ثم تحركت، وأن مصادر الحركة ليست من خارج النسق، وإنما من داخله. وهذا البُعد يجعل كلمة «انتفاضة» (لا ثورة) مصطلحاً أكثر دقة في وصف ما يحدث، فالثورة تفيد الانقطاع (الثورة الفرنسية والثورة البلشفية) أما الانتفاضة فتفيد أن الكامن قد أصبح ظاهراً، وأنه وصل ما انقطع ولم يقطع ما اتصل. 


ونحن نذهب إلى أن الحجر في حالة الانتفاضة ليس مجرد سلاح استخدمه المنتفضون بكفاءة عالية وإنما هو بلورة كاملة لنموذج التكامل الفضفاض غير العضوي. فاستخدام الحجر كفاءة توصَّل لها الإنسان منذ أن بدأ التاريخ البشري. والحجر موجود بكثرة داخل معجمنا الحضاري، فهو أحد المفردات الأساسية في التراث العربي الإسلامي. فالحصان، على سبيل المثال، يُشبَّه في معلقة امرئ القيس بأنه "جلمود صخر حطه السيل من عل". ونحن نعرف كذلك آية الطير الأبابيل التي رمت الغزاة «بحجارة من سجيل»، وعقوبة الزنى هي "الرجم". ويستعيذ المسلمون بالله من الشيطان" الرجيم"، ويقضون حياتهم يحلمون بإقامة شعائر الحج، ومن أهمها "رجم" إبليس وتحية "الحجر" الأسود (وربما تقبيله). وتقف الكعبة نفسها "حجراً" ضخماً، مكعب الشكل يشير إلى ما لا نهاية، إلى الإمكانيات والوعود والجنة. ويزخر شعر المقاومة الفلسطينية قبل الانتفاضة وبعدها بإشارات لا تُعَد ولا تحصى للأرض والجبال والحجارة. 


وثمة سمات مشتركة أخرى بين نموذج الانتفاضة، نموذج التكامل الفضفاض غير العضوي، والنماذج الإدراكية السائدة في المجتمعات التقليدية. فعلى سبيل المثال لجأت الانتفاضة، التي تحاول أن تحرك الكتلة البشرية بأسرها، إلى البحث عن رقعة الإجماع الشعبي بين الفلسطينيين (الثوابت الإنسانية) مثل التمسك بالأرض والدفاع عن حق تقرير المصير، ولم تشغل بالها بالأطروحات الثورية النقية الدقيقة. وهذا التوجه للثوابت قد لا يكون رشيداً من منظور علمي مادي ولكنه رشيد تماماً من الناحية الإنسانية والتعبوية. والانتفاضة في هذا لا تختلف كثيراً عن المجتمعات التقليدية التي تتسم بقدر عال من التماسك بسبب الإيمان بالثوابت ومن محاولةإدارة الأمور من خلال الإجماع لا الصراع (والإدارة من خلال الإجماع لا من خلال تصعيد المنافسة أسلوب في الإدارة تبنوه في اليابان بنجاح كبير، وبدأوا يكتشفون أهميته وجدواه في الغرب). 


ويمكن أن نرى النزعة الانتفاضية نحو الاسـتفادة من خبـرات المجتمع التـقليدي من موقـفها مما يُسمَّى «الموضة». والموضة ـ كما نعلم نحن عرب الخارج ـ اختراع غربي شيطاني، الهدف منه أن نغيِّر ملابسنا وأذواقنا (وهويتنا) مرتين كل عام، وأن نبدد طاقتنا الجسدية والروحية والمالية دائماً، ولكن في زمان الانتفاضة، وفي مكانها، تتغيَّر الأمور وتصبح الموضة ليس السـعي للحصـول على آخر ما اقترحـه القرد الأعظم في باريـس، وإنما أن تلبــس ثياباً من صنع المصانع الفلسطينية، وبالتالي تضرب العدو وتساند الصناعة المحلية، فيزداد المنتفضون عزة واعتداداً بالنفس. كما أن اتباع الموضة الانتفاضية يعني أن الجميع سيرتدي الزي نفسه تقريباً فيصعب على العدو أن يميز بين الفلسطينيين، ومن ثم تصبح عملية المطاردة شبه مستحيلة (وهذا يشبه من بعض الوجوه الثورة الجزائرية حين أصبح كل الذكور يسمون محمداً وكل الإناث فاطمة، بحيث يغرق العدو في البحر الإنساني). بل إن كل متجر ملابس أصبح مكاناً لتغيير الزي، ولذا إذا دلف أحد المنتفضين إلى مثل هذا المتجر فإن صاحبه يتصرف بتلقائية متعمدة، ويساعد المطارد على تغيير ملابسه، ليخرج وينضم للبحر الإنساني، والعدو الأبله يقف ممسكاً برشاشه الرهيب لا يعرف ماذا يفعل. 


2 ـ نموذج التلاحم العضوي (وهو نموذج أساسي في الحضارة الغربية) يدور في إطار القانون العام المجرد العالمي. وقد توصلت النظرية الثورية الماركسية في عالمنا العربي إلى أنه لابد من ظهور وعي بروليتاري متبلور. لكن حيث إن الوعي البروليتاري ناجم عن ظروف موضوعية (تركُّز العمال في المدن ـ تفاقم الصراع مع البورجوازية... إلخ) فلابد من الانتظار لحين ظهور هذه الظروف الموضوعية. وهكذا دخلنا دائرة مفرغة، وتضخَّم الحديث عن الثورة وطرق إشعالها، وظل الواقع من حولنا مجدباً عقيماً يشهد بتعاستنا الفكرية وبؤسنا العملي والنظري! 


وحينما وظف ثوار فيتنام (الفلاحون) الغابات والجبل في حربهم ضد الغزو الأمريكي الشرس، قال بعض الظرفاء إن على الثوار العرب أن يزرعوا بعض الغابات والجبال حتى يمكنهم أن يبدأو الكفاح الثوريّ، أي أننا فقدنا أنفسنا تماماً في القوانين والنماذج المجردة. ونموذج التكامل الفضفاض غير العضوي لا يفقد نفسه في القانون العام فهو يشبه المجتمعات التقليدية ذات الهوية الواضحة التي لا تفقد ذاتها في حضارة عالمية وهمية وتتعامل مع المتعين بكفاءة، ولذا نظر المنتفضون من حولهم وأدركوا أبعاد واقعهم واهتدوا إلى الحجر: سلاح غير مستورد متوافر في كل مكان لا يمكن نزعه أو مصادرته ويستطيع كل إنسان استخدامه فهو تعبير عن الإجماع الشعبي. 


3 ـ نموذج التكـامل الفضفاض غير العضـوي مبني على الـتدوير وإعادة استخدام المواد (بالإنجليزية: ري سايلكلينج recycling)، وهو في هذا يشبه المجتمعات التقليدية، على عكس الحضارة الحديثة المبنية على فكرة التخلص من الفوارغ disposable (وهذا يعود إلى ولاء الحضارة الحديثة لفكرة السرعة وتنظيم الحركة واستهلاك الطاقة). ويتميَّز الحجر بإمكانية استخدامة عدة مرات وربما إلى ما لا نهاية.




وهناك أمثلة عديدة على عمليات التدوير الأخرى، فعلى سبيل المثال، حينما كان بعض الشباب العادي يدخل السجن يتم تحويلهم إلى كوادر انتفاضية واعية وهو ما حوَّل السجون إلى أكا�
 اختبارها أو وضعها هي نفسها موضع الاختبار. وبإمكان الباحث أن يفعل ما يلي حتى يمكنه وضع هذه الأطروحة الصلبة البسيطة موضع التساؤل: 


1 ـ دراسة جماعات الضغط الأخرى (الشواذ جنسياً ـ المدافعين عن حق المواطن الأمريكي في امتلاك السلاح) لنقارن قوتها بقوة اللوبي الصهيوني، ولنرى هل قوة اللوبي الصهيوني أمر فريد، أم أنها إحدى سمات الديموقراطية الأمريكية (ديموقراطية جماعات الضغط)؟ 


2 ـ يمكن دراسة الموقف الأمريكي (والغربي بشكل عام) من الصهيونية وإسرائيل قبل ظهور اللوبي الصهيوني وبعد ظهوره ومقارنتها. 


3 ـ دراسة تزايد الدعم الأمريكي للصهيونية وإسرائيل وعلاقته باللوبي الصهيوني. وهل هناك علاقة طردية بين هذا التزايد وتزايد قوة اللوبي الصهيوني والحركة الصهيونية أم أن الدعم يتزايد بغض النظر عن قوة أو ضعف اللوبي؟ 


4 ـ دراسة الدعم الأمريكي لبلد مثل تركيا أو شيلي ليس لهما لوبي وهل الدعم الأمريكي لإسرائيل مختلف عن دعمها لهاتين البلدين؟ 


5 ـ دراسة الدعم البريطاني لإسرائيل وهل يوجد لوبي صهيوني قوي في إنجلترا أم أن الدعم البريطاني مرتبط بالمصالح الإستراتيجية لبريطانيا؟ 


6 ـ هل صدرت قرارات أمريكية لدعم إسرائيل بدون ضغط من اللوبي الصهيوني أم أن القرارات لا تصدر إلا من خلال الضغط الذي يمارسه؟ 


7 ـ دراسـة طريقة صـنع القرار في الولايات المتحـدة ومدى تأثرها بجماعات الضـغط في الأمـور الإستراتيجية الجوهرية. 


8 ـ دراسة التوجه الإستراتيجي العام للسياسة الأمريكية وهل تم تحديد هذا التوجه من خلال الضغط الصهيوني أم أن هذه سياسة عليا لم يساهم الصهاينة في صياغتها؟ 


9 ـ دراسة لحظات التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل (عدوان 1956 وحادثة بولارد) وهل نجح اللوبي الصهيوني في تغيير السياسة؟ 


10 ـ مقارنة لحظات التوتر بين الولايات المتحدة وإسرائيل ولحظات التوتر بين السلطات البريطانية في فلسطين والمستوطنين الصهاينة (ولحظات التوتر بين فرنسا والمستوطنين الفرنسيين في الجزائر). 


11 ـ دراسة تاريخية للعناصر التي أدَّت إلى صدور وعد بلفور (أهم إنجاز صهيوني على الإطلاق) وهل لعب اللوبي الصهيوني أي دور في ذلك وماذا كان حجم الدور؟ 


12 ـ إجراء عمليات عقلية تصورية عن مسار السياسة الأمريكية لو غاب اللوبي الصهيوني وغابت إسرائيل. هل سياسة الولايات المتحدة تجاه القومية العربية (على سبيل المثال) كانت ستتغيَّر لو أن يهود العالم وإسرائيل اختفوا من على وجه الأرض أم أن ملامحها الأساسية ستظل كما هي؟




الجزء الثالث 




الباب الأول: الحلولية ووحدة الوجـود والكمونية
الحلولية ووحدة الوجود والكمونية: التعريف من خلال دراسة مجموعة من المصطلحات المتقاربة ذات الحقل الدلالى المشترك أو المتداخل 
هناك عدد من المصطلحات تُستخدَم للإشارة إلى مفهوم الحلول، وهي تُستخدَم أحياناً كمترادفات وأحياناً أخرى كمصطلحات تُشير إلى مفاهيم متقاربة. ويُلاحَظ أن المعاجم الفلسفية واللغوية المختلفة لا تتفق على معنى محدَّد أو دقيق لهذه المصطلحات، ولذا فإن حقلها الدلالي يتداخل بشكل كبير. ومن أهم المصطلحات ما يلي: 


1 ـ «الحلولية»: وقد ترجمها أحد المراجع بالكلمة الإنجليزية «إنفيوشن infusion». 


2 ـ «وحدة الوجود»: وقد ترجمها أحد المراجع بالكلمة الإنجليزية كلمة «بانثيزم pantheism». 


3 ـ «الكمون»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «إمنانس immanence». 


4 ـ «الباطن والباطنية»: ولها ترجمات عديدة باللغة الإنجليزية مثل: «إسوتريك esotiric»، كما تترجم إلى «أَكَّلت occult» بمعنى «الخفي»، وإلى «إنترنزيك intrinsic» بمعنى «جزء لا يتجزأ»، و«إيمنينت immanent» أي «كامن». 


5 ـ «المحايثة»: وهي ترجمة أخرى لكلمة «إمنانس immanence» الإنجليزية. 


6 ـ «الاتحاد»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «يونيان union». 


7 ـ «الفناء»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «أنيهيليشن annihilation». 


8 ـ «الفيضية»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «إمانتيزم emanatism». 


9 ـ «التجسد»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «إنكارنيشن incarnation». 


10 ـ «النفسانية الشاملة»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة: «بان سايكيزم pansychism». 


11 ـ «المبدأ الحيوي»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «أنيميزم animism». 


12 ـ «إسقاط الصفات الإنسانية على كل الكائنات»: وتقابلها في الإنجليزية كلمة «أنثروبومورفيزم anthropomorphism». 


13 ـ «الماكروكوزم (الكون الأكبر) والميكروكوزم (الكون الأصغر، أي الإنسان)»: وتقابلها في الإنجليزية عبارة «ماكروكوزم آند ميكروكوزم macrocosm and microcosm». 


وما يهمنا في المداخل المختلفة عن بعض هذه المصطلحات ليس تحديد معنى أو تعريف كل مصطلح على حدة، وإنما تحديد الحقل الدلالي العريض والإشارة إلى العناصر المشتركة والمتداخلة بين المصطلحات. 


ويُلاحَظ أن الحقل الدلالي لكل هذه المصطلحات يفترض أن التنوع والثنائيات (خالق/مخلوق ـ مطلق/نسبي ـ كلي/جزئي ـ جوهري/عرضي ـ روحي/مادي ـ ظاهر/باطن ـ داخل/خارج) هي أمور تنتمي إلى عالم الظاهر وما يحدث أن طرفي الثنائية يتصلان ثم يمتزجان، ويفنى أحدهما في الآخر ويذوب، حتى يكونا كلاًّ واحداً عضوياً لدرجة يستحيل معها التمييز بينهما فيختفي الحيز الإنساني ثم الحيز الطبيعي (الناجمان عن انفصال الخالق عن المخلوق) ويظهر في العالم جوهر واحد فيصبح عالماً واحدياً (أي أن الحلولية هي تعبير عن النزعة الجنينيـة في الإنســان، مقـابل النزعـة الربانية نحو قبول الحدود والتركيب والثنائية والمقدرة على التجاوز). 


والمصطلحان الأول والثاني (الحلولية ووحدة الوجود) هما الأكثر شيوعاً، وسنقوم باستخدامهما للإشارة للحـقل الدلالي الذي تصفه كل هـذه المصطلحات، وذلك لعـدة أسـباب من بينها سـهولة الاشتقاق من كلمة «حل»، ومن ذلك أيضاً أن كلمة «حلول» تفيد درجات مختلفة من الحلول تشكل «وحدة الوجود» آخر درجاتها وأكثرها غلواً وتطرفاً. وذلك على عكس مصطلح «وحدة الوجود»، فهو يشير إلى حالة نهائية مثالية غير قابلة للتدرج. وعلى هذا، فإن مصطلح «الحلولية» كلمة تشير إلى كلٍّ من عملية الحلول التدريجي التي تتم من خلال مراحل متدرجة وإلى ثمرة هذه العملية، أما مصطلح «وحدة الوجود» فيشير إلى مرحلة نهائية واحدة سكونية (تأتي بعد مراحل سابقة)، أي إلى الثمرة وحسب، الأمر الذي يعني قصور القيمة الدلالية لهذا المصطلح وضعف قيمته التفسيرية والتصنيفية. ولزيادة القيمة التفسيرية والدلالية للمصطلح قد نضيف كلمة «واحدية» لنفرق بين الحلولية وبين درجات وحدة الوجود الأخرى، فالحلولية الواحدية هي وحدة الوجود، كما سنضيف كلمة «روحية» و«مادية» للتفرقة بين شكلي وحدة الوجود الأساسيين. 


وقد وجدنا أيضاً أن من الضروري إضافة كلمة «كموني» لكلمة «حلولي» بل واستخدامها أحياناً بمفردها لنصف النظم الحلولية. فنقول «نظام حلولي كموني» أو «المرجعية الكمونية» أو «اتجاه رحمي كموني» أو «الكمونية». فكلمتا «حلولية» و«وحدة الوجود» تستدعيان عالماً جميلاً وربما لا عقلانياً من التصوف والزهد والدروشة، وهو ما يُقلِل من قيمتهما التحليلية والتفسيرية ويطمس الأبعاد الكلية والنهائية التي نريد أن نشير إليها: أن العالم مكون من جوهر واحد ويتسم بالواحدية الصارمة. 


الحلوليــــة 
«حل المكان وبه»، بمعنى «نزل به»، و«حلّ البيت»، بمعنى «سكنه» فهو «حالّ». والحلول قد يكون بجزء وقد يكون بكل، ولكنه في أكثر درجاته تطرفاً وفي منتهاه هو " اتحاد الجسمين اتحاداً تاماً يذوب به كل منهما في الآخر بحيث تكون الإشارة الى أحدهما إشارة إلى الآخر ". ويعني مصطلح «الحلولية» أن الإله والعالم ممتزجان وأن الإله والقوة الداخلية الفاعلة في العالم (الدافعة للمادة الكامنة فيها) هما شيء واحد، وأن هناك جوهراً واحداً في الكون، ولذا تتسم المذاهب الحلولية بالواحدية الصارمة وإنكار الثنائيات الفضفاضة التكاملية، والسقوط في الثنائيات الصلبة أو الاثنينية وإنكار الحيز الإنساني. وقد ترجمها أحد المراجع بالكلمة الإنجليزية «إنفيوشن infusion». أما معجم اللغة العربية المعاصرة لهانز فير (عربي ـ إنجليزي)، فقد أدرج كلمة «إنكارنيشن incarnation» أي «التجسد» مقابلاً للكلمة. 


وحدة الوجود 
«وحدة الوجود» تقابلها في الإنجليزية كلمة «بانثيزم pantheism»، وهي مشتقة من الأصل اليوناني «بان» بمعنى «كل» و«ثيوس» بمعنى «إله». وكان جون تولاند الإنجليزي (وهو من رواد الفكر الصهيوني ـ غير اليهودي ـ والغنوصي) أول من نحت المصطلح عام 1705 ، ثم انتشر منه إلى اللغات الأوربية الأخرى. والمصطلح يعني أن كل الموجودات هي الإله وأن الإله هو كل الموجودات، وأن الإله هو العالم وأن العالم هو الإله، والإله والعالم حقيقة واحدة، ولهذا يقول أصحاب وحدة الوجود أنه ليس في العالم وجودان أو جوهران بل هناك جوهر واحد، وهو جوهر متجاوز للإنسان. 


الكمــون 
«الكمون» تقابلها في الإنجليزية كلمة «إمنانس immanence» والصفة «إمنانت immanent» بمعنى «حالٍّ في»، من الفعل اللاتيني «إيمانيري immanere» بمعنى «يبقى في». وفي اللغة العربية، «كمن» بمعنى «توارى» و«كمن له» أي «استخفى في مكمن لا يفطن له»، و«اكتمن» بمعنى «اختفى». و«الكمون» هو «صفة ما هو كامن»، و«الكامن» هو ما ينطوي عليه الشيء بصفة دائمة وإن كانت غير واضحة، وهو وصف ينطبق على جوهر الأشياء (ولذا، يذكر معجم أكسفورد [إنجليزي ـ عربي] لدونياش كلمة «جوهر» كإحدى ترجمات الكلمة). 


وحينما يُقال إن " الله كامن في الكون " فهذا يعني أن الإله والكون كيان (جوهر) واحد، وحينما يُقال إن "قوانين الكون كامنة فيه" فهذا يعني أن من يريد أن يفهم هذا الكون عليه أن يدرس القوانين الكامنة فيه لا يتجاوزها. ومبدأ الكمون هو القول بأن " الكل داخل الكل " والقول بأن عناصر الوجود تتضمن بعضها بعضاً ولا تؤلف إلا حقيقة واحدة، وهو عكس التجاوز والتعالي (انظر: «التجاوز والتعالي»). ولذا، يُعَدُّ تطبيق مبدأ الكمون على هذه الصورة مقدمة من مقدمات مذهب وحدة الوجود أو نتيجة من نتائجه. ففي مذهب وحدة الوجود، تكون ماهية الإله كامنة/باطنة في العالم، أي أن الإله والعالم واحد. وقد قال إسبينوزا في تعريفه للإله باللاتينية «ديوس إست أومنيوم ريروم كاوزا إمانينز، نان فيرو ترانسينس deus est omnium rerum causa immanens, non vero transiens»، «الإله هو السبب الكامن لكل الأشياء، لا العلة المؤثرة عليها من الخارج». وارتباط اسم إسبينوزا بهذا المصطلح له دلالته، فإسبينوزا هو الذي نادى بتعادل وترادف الإله والطبيعة، أي كمون الإله في الطبيعة، أي أن الإله والطبيعة (وكل الأشياء) جوهر واحد. 


والكمون الكامل بهذا المعنى هو الإنكار الكامل للحيز الإنساني والسقوط التام في قبضة الصيرورة وإنكار أي وجود للكل المتجاوز. وقد وصف جان بياجيه المثل الأعلى البنيوي بأنه " السعي إلى تحقيق معقولية كامنة عن طريق تكوين بناءات مكتفية بنفسها، لا تحتاج من أجل بلوغها إلى الرجوع إلى أية عناصر خارجية ". وما تقوله هذه العـبارة هـو ما يقوله إسـبينوزا مع تغيير في المصطلـح، فاللغة واحدة، أما الكلام فمتغير (كما يقول البنيويون). وقد ترجم عبد المنعم الحفني في موسوعته الفلسفية كلمة «إمنانتزم immanentism» بكلمة «مذهب الحلول». وتَحدَّث في هذا المدخل عن حلولية طاليس (العالم حافل بالآلهة ـ الإله منبث في العالم)، وأنكسماندر (اللامتناهي)، وهرقليطس (المبدأ الواحد وأصل كل المخلوقات)، وأكسانوفان (العالم هو الإله)، والرواقيين (المبدأ الأول ـ الإله ينفذ في كل العالم)، وإسبينوزا (الإله والوجود واحد)، والحلاج (الناسوت صورة اللاهوت)، وبعض نظريات التصوف الإسلامي الحلولي (نظرية النور المحمدي التي تزعم أن الرسول اجتمعت فيه روحان: روح إلهية قديمة لا تجرى عليها أحكام الفناء والتغير [اللاهوت]، وروح بشرية حادثة تجرى عليها أحكام الكون والفساد [الناسوت]). كما يستخدم كانط «إيمنينت immanent» في مقابل «متجاوز»، وهي تعني في واقع الأمر «الشيء في ذاته». ويستخدم بعض الفلاسفة الماديين كلمة «كامن» بمعنى «مثالي»، أي «منفصل عن عالم المادة»، ففلسفة كانط في مصطلحهم فلسفة كمونية «إيمنينت immanent» أي «مثالية». فعبارة «إيمنينت هستوري immanent history» (التي يمكن ترجمتها بعبارة «تاريخ كموني» أو حتى «تاريخ باطني») تُستخدَم للإشارة إلى رؤية تاريخ العالم باعتباره عملية تتم من تلقاء نفسها، م


الباب الثانى: الحلولية الكمونية الواحـدية والعلمانية الشاملة

0 مشاركات:

إرسال تعليق