موسوعة الىهود واليهودية عبد الوهاب المسيرى ج 1 - مقطع 1

موسوعة اليهود واليهودية و الصهيونية
للدكتور عبد الوهاب المسيري

مقدمة موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية"

تتناول هذه الموسوعة كل جوانب تاريخ العبرانيين فى العالم القديم، وتواريخ الجماعات اليهودية بامتداد بلدان العالم، وتعدادتها وتوزيعاتها، وسماتها الأساسية، وهياكلها التنظيمية، وعلاقات أفراد الجماعات اليهودية بالمجتمعات التى يوجدون فيها وبالدولة الصهيونية. وتغطى الموسوعة كذلك أشهر الأعلام من اليهود (مثل موسى بن ميمون) وغير اليهود ممن ارتبطت أسماؤهم بتواريخ الجماعات اليهودية (مثل نابليون وهتلر). كما تتناول هذه الموسوعة كل الجوانب المتعلقة بتاريخ اليهودية، وفرقها وكتبها الدينية، وطقوسها وشعائرها، وأزمتها فى العصر الحديث، وعلاقتها بالصهيونية وبمعاداة السامية (معاداة اليهود). وتغطى الموسوعة الحركة الصهيونية ونشاطاتها ومدارسها وأعلامها، وبعض الجوانب الأساسية للدولة الصهيونية.

وتهدف الموسوعة إلى توفير الحقائق التاريخية المعاصرة عن الظواهر اليهودية والصهيونية والإسرائيلية، وإلى تقديم رؤية جديدة للموضوعات التى تغطيها. وهى تحاول إنجاز ذلك من خلال عدة طرق:

1 - تقديم تاريخ عام للعقيدة والجماعات اليهودية وللحركة الصهيونية: تقدم الموسوعة رؤية تاريخية جديدة لكل من العقيدة والجماعات اليهودية والحركة الصهيونية أكثر علمية وحياداً وتفسيرية من تلك الرؤية الغربية التقليدية التى تبناها المؤلفون اليهود وغير اليهود فى الشرق والغرب، والمتأثرة بما يسمى "التاريخ المقدس" - أى التاريخ الذى ورد فى العهد القديم. والرؤية الجديدة تضع تواريخ الجماعات اليهودية فى أنحاء العالم فى إطار التاريخ الإنسانى العام. كما أن الموسوعة قامت بربط تاريخ الصهيونية، عقيدة وحركة وتنظيماً، بتاريخ الفكر الغربى والإمبريالية الغربية.

2- التعريف الدقيق للمفاهيم والمصطلحات السائدة، والتأريخ لها من منظور جديد، وإبراز جوانبها الإشكالية: فعلى سبيل المثال حينما تتعرض الموسوعة لظاهرة مثل يهود الاتحاد السوفيتى (سابقاً) فإنها تفعل ذلك من خلال عدة مداخل عن تاريخ اليهود وتوزيعهم الوظيفى وأعدادهم وأسباب هجراتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية فى كل من روسيا القيصرية وروسيا السوفيتية. كما توجد عدة مداخل أخرى عن أنواع يهود الاتحاد السوفيتى (قرائين - الكرمشاك - جورجيين - يهود البايشية - يهود الجبال - يهود بخارى … إلخ). وتضم الموسوعة أيضاً مداخل عن موقف ماركس وإنجلز والبلاشفة من المسألة اليهودية، وعلاقة اليهود بالفكر الاشتراكى وتطور الرأسمالية الغربية.

3- إسقاط المصطلحات المتحيزة وإحلال مصطلحات أكثر حياداً وتفسيرية محلها: تتسم المصطلحات المستخدمة لوصف الظاهرة اليهودية والصهيونية بأنها متحيزة لأقصى حد، وتجسد التحيزات الصهيونية والغربية. ولتجاوز هذا الوضع تم استبعاد مصطلح مثل "الشعب اليهودى" الذى يفترض أن اليهود يشكلون وحدة عرقية ودينية وحضارية متكاملة (الأمر الذى يتنافى مع الواقع)، وحل محله مصطلح "الجماعات اليهودية"، وبدلاً من كلمة "الشتات" استخدمت العبارة المحايدة "أنحاء العالم"، وبدلاً من "التاريخ اليهودى" تشير الموسوعة إلى "تواريخ الجماعات اليهودية". والمصطلحات البديلة ليست أكثر حياداً وحسب، وإنما أكثر دقة وتفسيرية.

ويمكن تلخيص هدف الموسوعة فى أنها محاولة تطوير خطاب تحليلى (مصطلحات ومفاهيم) لوصف الظاهرة اليهودية والصهيونية، وهو خطاب يسترجع البعد التاريخى لهذه الظاهرة، من حيث كونها ظاهرة تاريخية اجتماعية يمكن فهمها والتعامل معها.

وغنى عن القول أن موسوعة عربية عن الظواهر اليهودية أمر له أهمية بالغة بالنسبة للمتخصصين وغير المتخصصين فى هذا الحقل، أما بالنسبة للمتخصصين، فإن الموسوعة تحاول أن تضع إطاراً شاملاً وجديداً يمكن من خلاله دراسة اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل. وعلى المستوى القومى، فإن هذه الموسوعة ستزود صانع القرار العربى، مهما كانت اتجاهاته السياسية، بقدر كبير من المعلومات اللازمة لاتخاذ أى قرار. كما أن العاملين فى مجالى السياسة والإعلام، وفى غيرهما من المجالات، سيجدون مرجعاً عربياً يزودهم بالمعلومات الضرورية عن اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل. وسيستفيد من الموسوعة أيضاً المتخصصون فى الفروع الأخرى من المعرفة ممن يتصدون للظواهر اليهودية والصهيونية والإسرائيلية بالدراسة، كل فى حقل تخصصه.

وموسوعة اليهود واليهودية والصهيونية التي صدرت عام 1999 ، والتي نالت جائزة أحسن كتاب في معرض القاهرة للكتاب ذلك العام، هي من ضمن مساعي الدكتور المسيري العديدة الرامية إلى إلقاء الضوء على حقيقة الحركة والدولة الصهيونية (والعقيدة اليهودية والجماعات اليهودية في العالم). وقد استغرق إعدادها ما يزيد عن ربع قرن واشترك في هذه العملية عشرات الأفراد (مؤلفون - محرر فني - مساعدي باحث - سكرتارية - مكتب للترجمة العبرية - محرر لغوي - طابع على الكمبيوتر). وقد قام الدكتور المسيري بجهوده الذاتية بإعداد هذه الموسوعة والإنفاق عليها طيلة هذه الفترة.

وحينما عرف بأمر الموسوعة، قام "مائير كاهانا" (عضو الكنيست السابق ورئيس جماعة كاخ الصهيونية الإرهابية) بإرسال خطابات تهديد بالقتل لمؤلفها والمشرف عليها في يناير عام 1984، واعترف بإرسال الخطابات، في حديث مع جريدة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية في عددها الصادر في 21 فبراير 1984. وبلغ عدد هذه الخطابات ثلاثة عشر خطاباً، أرسل ستة منها على عنوان الدكتور المسيري بالرياض (المملكة العربية السعودية) وأرسلت الستة الأخرى على عنوانه بالقاهرة، أما الخطاب الثالث عشر فقد أرسل له في القاهرة فور عودته من الرياض، جاء فيه أن مرسلي الخطاب يعلمون بأمر عودته، وأنهم "يعدون قبراً له". كما جاء في هذه الرسائل أنه إن لم يتوقف الدكتور المسيري عن نشاطاته المعادية للصهيونية (وأهم هذه النشاطات - بطبيعة الحال - هو تأليف الموسوعة) فستصل إليه الأيدي الصهيونية، وستقوم بتصفيته. وقد وضع الدكتور المسيري تحت حراسة سلطات الأمن المصرية، حمايةً له.

كما أرسلت جامعة بار إيلان خطاباً إلى الملحق الثقافي الإسرائيلي تطلب منه الكتابة إلى السفير الأمريكي لتشويه سمعة بعض الشخصيات المصرية المعادية للصهيونية ومن ضمنها الدكتور المسيري (نشرت جريدة العربي المصرية نص الخطاب في عددها الصادر بتاريخ 11 نوفمبر 1993).

تقع موسوعة فى ثمانية مجلدات، متوسط عدد صفحات كل منها 450 صفحة، ويتناول كل مجلد واحد منها موضوعاً محدداً. فالمجلد الأول يتناول الإطار النظرى للموسوعة وقضايا المنهج. أما المجلدات التالية (الثانى والثالث والرابع) فتتناول موضوع الجماعات اليهودية. ويتناول المجلد الخامس اليهودية، والمجلد السادس الصهيونية، والمجلد السابع إسرائيل.

ويضم كل مجلد عدة أجزاء، ويضم كل جزء عدة أبواب، ويضم كل باب عدة مداخل. وعدد مداخل الموسوعة حوالى 2300 مدخل. والموسوعة مرتبة موضوعياً، فعلى سبيل المثال يتناول المجلد الرابع تواريخ الجماعات اليهودية فى بلدان العالم الغربى ويضم 18 باباً يتناول كل باب منها تاريخ جماعة يهودية بعينها فى إحدى بلدان العالم الغربى (إنجلترا - ألمانيا - روسيا… الخ). ويضم باب إنجلترا ثلاثة مداخل (إنجلترا من العصور الوسطى حتى عصر النهضة - إنجلترا منذ عصر النهضة - إنجلترا فى الوقت الحاضر) تغطى موضوع تاريخ الجماعة اليهودية فى إنجلترا.

إلا أن الموسوعة لا تقتصر على التصنيف الموضوعى إذ يوجد فى المجلد الثامن فهرس ألفبائى عربى بكل مداخل الموسوعة. فإذا أراد القارئ أن يعرف شيئاً عن "إنجلترا من العصور الوسطى حتى عصر النهضة" فإنه سيذهب إلى حرف الألف حيث سيجد عنوان المدخل وبجواره رقم المجلد والصفحة.

وحتى نعطى القارئ فكرة عن مدى شمول الموسوعة فسنورد فى الصفحات التالية عناوين المجلدات والأجزاء والأبواب.


-----------------------------------------------------------------------------------------------
المحتويات:
المجلد الأول : الإطار النظري

الجزء الأول: إشكاليات نظرية
1 ـ مقدمة.

2 ـ مفردات.

3 ـ فشل النموذج المادى في تفسير ظاهرة الإنسان.

4 ـ إشكاليات الإنساني والطبيعى والذاتى والجزئى والكلى.

الجزء الثاني: النماذج كأداة تحليلية
1 ـ النماذج: سماتها وطريقة صياغتها.

2 ـ أنواع النماذج.

3 ـ النموذج الاختزالي والنموذج المركب.

الجزء الثالث: الحلول الكمونية الوحدانية
1 ـ الحلول ووحدة الوجود والكمونية.

2 ـ الحلول الكمونية الواحدية والعلمانية الشاملة.

الجزء الرابع: العلمانية الشاملة
1 ـ إشكالية تعريف العلمانية.

2 ـ اختلاط الحقل الدلالي لمصطلح ومفهوم (علمانية).

3 ـ نموذج تفسيري مركب وشامل للعلمانية.

4 ـ مصطلحات الواحدية والاستيعاب فيها.

5 ـ مصطلحات تشير إلى تفكيك الإنسان وتقويضه.

6 ـ مصطلحات جديدة لبلورة النموذج الكامن.

7 ـ الثنائية الصلبة والسيولة الشاملة وما بعد الحداثة.

8 ـ العلمانية الشاملة والإمبريالية.

9 ـ العلمانية الشاملة : تاريخ موجز وتعريف.

الجزء الخامس: الجماعات الوظيفية
1 ـ السمات الأساسية للجماعات الوظيفية.

2 ـ الجماعات الوظيفية والحلولية والعلمانية الشاملة.


المجلد الثاني :الجماعات اليهودية: إشكاليات

الجزء الأول: طبيعة اليهود في كل زمان ومكان
1 ـ إشكالية الجوهر اليهودي.

2 ـ إشكالية الوحدة والنفوذ اليهودي.

3 ـ إشكالية العبقرية والجريمة اليهودية.

4 ـ إشكالية العزلة والخصوصية اليهودية.

5 ـ منفي وعودة أم هجرات وانتشار؟

6 ـ هجرات وانتشار أعضاء الجماعات اليهودية.

الجزء الثاني: يهود أم جماعات يهودية؟
1 ـ الجماعات اليهودية الأساسية.

2 ـ الجماعات اليهودية المنقرضة والهامشية.

3 ـ إشكالية الهوية اليهودية.

4 ـ اليهود والجماعات اليهودية.

5 ـ إشكالية التعداد.

الجزء الثالث: يهود جماعات يهودية؟
1 ـ الجماعات الوظيفية اليهودية.

2 ـ الجماعات الوظيفية اليهودية القتالية والاستيطانية والمالية.

3 ـ أقنان ويهود البلاط.

4 ـ جماعات وظيفية أخرى (البغاء ـ الطب ـ الترجمة ـ الجاسوسية).

5 ـ مسألة الحدودية والهاشمية.

الجزء الرابع: عداء الأغيار الأزلي لليهود واليهودية
1 ـ إشكالية معاداة اليهود.

2 ـ بعض التجليات المتعينة لمعاداة اليهود.

3 ـ معاداة اليهود والتحيز لهم.

4 ـ الإبادة النازية والحضارة الغربية الحديثة.

5 ـ بعض إشكاليات الإبادة النازية ليهود أوربا.

6 ـ إشكالية التعاون بين بعض أعضاء الجماعات اليهودية والنازيين.


المجلد الثالث :الجماعات اليهودية: التحديث والثقافة

الجزء الأول: التحديث
1 ـ من التحديث إلى ما بعد الحداثة.

2 ـ العلمانية (والإمبريالية) واليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية.

3 ـ التحديث وأعضاء الجماعات اليهودية.

4 ـ الإعتاق.

5 ـ الاستنارة اليهودية.

6 ـ الرأسمالية والجماعات اليهودية.

7 ـ رأسماليون من أعضاء الجماعات اليهودية في العالم (ما عدا الولايات المتحدة الأمريكية).

8 ـ رأسماليون من أعضاء الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة.

9ـ الاشتراكية والجماعات اليهودية.

الجزء الثاني: ثقافات أعضاء الجماعات اليهودية
1 ـ ثقافات الجماعات اليهودية (تعريف وإشكالية).

2 ـ فلكلور (طعام وأزياء) الجماعات اليهودية.

3 ـ الفنون التشكيلية والجماعات اليهودية.

4 ـ إشكالية المتحف اليهودي.

5 ـ الموسيقى والرقص والجماعات اليهودية.

6 ـ الكوميديا والسينما والجماعات اليهودية.

7 ـ الأدب اليهودي والصهيوني.

8 ـ الآداب المكتوبة بالعبرية.

9 ـ الأدب اليديشي.

10 ـ لهجات أعضاء الجماعات اليهودية ولغاتهم.

11 ـ المفكرون من أعضاء الجماعات اليهودية.

12 ـ الفلاسفة من أعضاء الجماعات اليهودية.

13 ـ علماء الاجتماع من أعضاء الجماعات اليهودية.

14 ـ علماء النفس من أعضاء الجماعات اليهودية.

15 ـ التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية حتى العصر الحديث.

16 ـ التربية والتعليم عند الجماعات اليهودية في العصر الحديث.


المجلد الرابع :الجماعات اليهودية: تواريخ

الجزء الأول: تواريخ الجماعات اليهودية فى العالم القديم
1 ـ إشكالية التاريخ اليهودي.

2 ـ أشكال الإدارة الذاتية.

3 ـ مصر والإمبراطورية الحيثية.

4 ـ الشعوب السامية: الآشوريين والبابليون.

5 ـ الشعوب والأقوام السامية الأخرى.

6 ـ الحوريون والفلستيون.

7 ـ العبرانيون.

8 ـ عصر الآباء.

9 ـ التسلل أو الغزو العبرانى لكنعان.

10 ـ عصر القضاة.

11 ـ عبادة يسرائيل.

12 ـ الهيكل.

13 ـ المملكة العبرانية المتحدة.

14 ـ المملكة الجنوبية والمملكة الشمالية.

15 ـ التهجير الآشورى والبابلى.

16 ـ الفرس.

17 ـ اليونانيون.

18 ـ الرومان.

19 ـ التمردات اليهودية.

الجزء الثانى: تواريخ الجماعات اليهودية فى العالم الإسلامي
1 ـ الشرق الأدنى القديم قبل وبعد انتشار الإسلام.

2 ـ إسبانيا الإسلامية (الأندلس).

3 ـ الدولة العثمانية وفارس بعد انتشار الإسلام.

4 ـ العالم العربى منذ القرن التاسع عشر.

الجزء الثالث: تواريخ الجماعات اليهودية فى بلدان العالم الغربى
1 ـ الإقطاع الغربى وجذور المسألة اليهودية.

2 ـ الجيتو.
3 ـ الإمبراطورية البيزنطية المسيحية وإسبانيا المسيحية.

4 ـ فرنسا.

5 ـ إنجلترا.

6 ـ ألمانيا.

7 ـ النمسا وهولندا وإيطاليا.

8 ـ بولندا قبل التقسيم (ظهور يهود اليديشية).

9 ـ بولندا من التقسيم حتى الوقت الحاضر.

10 ـ روسيا القيصرية حتى عام 1885.

11 ـ روسيا القيصرية حتى اندلاع الثورة.

12 ـ الاتحاد السوفيتي.

13 ـ يهود اليديشية في أوكرانيا وجا ليشيا ورومانيا والمجر.

14 ـ أمريكا اللاتينية.

15 ـ جنوب أفريقيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.

16 ـ الولايات المتحدة حتى منتصف القرن التاسع عشر.

17 ـ الولايات المتحدة منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى عام 1971.

18 ـ اليهود الجدد أو الأمريكيون اليهود في الوقت الحاضر.



المجلد الخامس :اليهودية: المفاهيم والفرق

الجزء الأول: بعض الإشكاليات
1 ـ إشكالية التركيب الجيولوجي التراكمي والشريعة الشفوية.

2 ـ إشكالية الحلولية اليهودية.

3 ـ إشكالية علاقة الغنوصية باليهودية.

4 ـ إشكالية علاقة اليهودية بالصهيونية.

الجزء الثاني: المفاهيم والعقائد الأساسية
1 ـ الإله.

2 ـ الشعب المختار.

3 ـ الأرض.

4 ـ الكتب المقدسة والدينية.

5 ـ الأنبياء والنبوة.

6 ـ اليهودية الحاخامية (التلمودية).

7 ـ الفقهاء (الحاخامية).

8 ـ القبالاه.

9 ـ قبالاه الزوهار والقبالاه اللوريانية.

10 ـ السحر والقبالاه المسيحية.

11 ـ الشعائر.

12 ـ المعبد اليهودي.

13 ـ الحاخام (بمعنى "القائد الديني للجماعة اليهودية").

14 ـ الصلوات والأدعية.

15 ـ الأغيار والطهارة.

16 ـ الأسرة.

17 ـ التقويم اليهودي.

18 ـ الأعياد اليهودية.

19 ـ الفكر الأخروي.

20 ـ الماشيح والمشيحانية.

الجزء الثالث: الفرق الدينية اليهودية
1 ـ الفرق الدينية اليهودية (حتى القرن الأول الميلادي).

2 ـ اليهودية والإسلام.

3 ـ اليهودية والمسيحية.

4 ـ الحسيدية.

5 ـ اليهودية الإصلاحية.

6 ـ اليهودية الأرثوذكسية.

7 ـ اليهودية المحافظة.

8 ـ تجديد اليهودية وعلمنتها.

9 ـ اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وما بعد الحداثة.

10 ـ اليهودية بين لاهوت موت الإله ولاهوت التحرير.

11 ـ العبادات الجديدة.

المجلد السادس :الصهيونية

الجزء الأول: إشكاليات وموضوعات أساسية
1 ـ التعريف بالصهيونية.

2 ـ التيارات الصهيونية.

3 ـ العقد الصامت بين الحضارة الغربية والحركة الصهيونية.

4 ـ وضع العقد موضع التنفيذ.

5 ـ الصهيونية والعلمانية الشاملة.

6 ـ الخطاب الصهيوني المراوغ.

الجزء الثاني: تاريخ الصهيونية
1 ـ تاريخ الصهيونية.

2 ـ الإرهاصات اليهودية الأولى: حملات الفرنجة (الصليبيين).

3 ـ صهيونية غير اليهود المسيحية.

4 ـ صهيونية غير اليهود العلمانية.

5 ـ الصهيونية التوطينية.

6 ـ المؤسسات التوطينية.

7 ـ الصهيونية الاستيطانية (العملية).

8 ـ تيودور هرتزل.

9 ـ الصهيونية السياسية.

10 ـ الصهيونية العامة (أو الصهيونية العمومية).

11 ـ الصهيونية العمالية.

12 ـ الصهيونية الإثنية الدينية.

13 ـ الصهيونية الإثنية العلمانية.

14 ـ الصهيونية الإقليمية.

15 ـ الدولة مزدوجة القومية.

الجزء الثالث: المنظمة الصهيونية
1 ـ المنظمة الصهيونية العالمية.

2 ـ اللوبي اليهودي والصهيوني.

3 ـ الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة.

4 ـ الجباية الصهيونية.
الجزء الرابع: الصهيونية والجماعات اليهودية
1 ـ موقف الصهيونية وإسرائيل من الجماعات اليهودية في العالم.

2 ـ موقف الجماعات اليهودية من الصهيونية.

3 ـ الرفض اليهودي للصهيونية.

4 ـ شخصيات ومنظمات يهودية معادية للصهيونية.


المجلد السابع :إسرائيل: المستوطن الصهيوني

الجزء الأول: إشكالية التطبيع والدولة الوظيفية
1 ـ إشكالية التطبيع.

2 ـ الدولة الصهيونية الوظيفية.

الجزء الثاني: الدولة الاستيطانية الإحلالية
1 ـ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.

2 ـ إحلالية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.

3 ـ التهجير (الترانسفير) والهجرة الاستيطانية.

4 ـ هجرة اليهود السوفيت.

الجزء الثالث: العنصرية والإرهاب الصهيونيان
1 ـ العنصرية الصهيونية.

2 ـ الإرهاب الصهيوني / الإسرائيلي حتى عام 1948.

3 ـ الإرهاب الصهيوني / الإسرائيلي منذ عام 1948.

الجزء الرابع: النظام الاستيطاني الصهيوني
1 ـ الاستيطان والاقتصاد.

2 ـ التوسع الجغرافي أم الهيمنة الاقتصادية ؟

3 ـ النظام السياسي الإسرائيلي.

4 ـ نظرية الأمن.

الجزء الخامس: أزمة الصهيونية والمسألة الإسرائيلية
1 ـ أزمة الصهيونية.

2 ـ الاستجابة الصهيونية / الإسرائيلية للأزمة.

3 ـ المسألة الإسرائيلية والحلول الصهيونية.

4 ـ المسألة الفلسطينية.
السيرة الذاتية لمؤلف الموسوعة (الدكتور/ عبد الوهاب المسيرى)

* ليسانس آداب ـ أدب إنجليزي ـ جامعة الإسكندرية (1959)

* ماجستير في الأدب الإنجليزي والمقارن ـ جامعة كولومبيا Columbia University ـ الولايات المتحدة الأمريكية (1964)

* دكتوراه في الأدب الإنجليزي والأمريكي والمقارن ـ جامعة رتجرز Rutgers University ـ الولايات المتحدة الأمريكية (1969)

* خبير الصهيونية بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام (حتى عام 1975).

* عضو الوفد الدائم لجامعة الدول العربية لدى هيئة الأمم (حتى عام 1979).

* أستاذ بجامعة عين شمس وجامعة الملك سعود وجامعة الكويت (حتى عام 1989)

* أستاذ غير متفرغ بجامعة عين شمس (1989 ـ حتى الآن)

* المستشار الأكاديمي للمعهد العالمي للفكر الإسلامي (1992 ـ حتى الآن).

* عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية ـ واشنطن ـ الولايات المتحدة (1997 ـ حتى الآن)
* أستاذ زائر بجامعة ماليزيا الإسلامية فى كوالالامبور، وبعديد من الجامعات العربية وبأكاديمية ناصر العسكرية.

* صدر له العديد من الكتب من أهمها: نهاية التاريخ:مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيونى (1972) كتبه حينما كان يعمل رئيساً لوحدة الفكر الصهيونى وعضو مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، كما صدر له كتاب من جزأين بعنوان: الأيديولوجية الصهيونية، دراسة حالة فى علم اجتماع المعرفة (صدرت منه طبعة ثانية من جزء واحد عام (1988)، وقد وضع المؤلف عدة مؤلفات بالإنجليزية حينما كان يشغل منصب المستشار الثقافى للوفد الدائم للجامعة العربية لدى هيئة الأمم المتحدة (1975-1979)، من أهمها كتاب عن الصهيونية بعنوان أرض الوعد: نقد الصهيونية السياسية.

)قرر تدريسه فى عدد من الجامعات الأمريكية)، وكتاب أخر عن تطور العلاقة بين إسرائيل وجنوب أفريقيا )نشرت منه عدة طبعات بعدة لغات) كما صدر له كتاب ثالث (بالعربية) عنوانه: الفردوس الأرضى: دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية.

وفى السنوات الأخيرة صدرت للدكتور المسيرى عدة كتب من أهمها: الانتفاضة الفلسطينية والأزمة الصهيونية وهجرة اليهود السوفييت ، وقد نشرت له دار الشروق عام 1997 الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ، ومن هو اليهودى؟ كما نشرت له عام 1998 اليد الخفية، ونشر له مركز الدراسات المعرفية والمعهد العالمى للفكر الإسلامى بواشنطن والقاهرة كتاب إشكالية التحيز (سبعة مجلدات) من تأليفه وتحريره، وللدكتور المسيرى العديد من المقالات فى الجرائد والمجلات والحوليات، العربية والأجنبية، وقد قام الدكتور المسيرى بكتابة المداخل الخاصة بالصهيونية والانتفاضة فى عدد من الموسوعات والكتب والمراجع المتخصصة، وقد ترجمت بعض أعماله إلى الفارسية والتركية والبرتغالية والفرنسية، وللدكتور المسيرى اهتمام خاص بالنقد الأدبى وتاريخ الفكر والحضارة (بحكم تخصصه الأكاديمى)، فألقى العديد من المحاضرات عن هذه الموضوعات فى الجامعات والمؤتمرات العربية والغربية، كما نشر العديد من المقالات فى الجرائد والمجلات والحوليات العربية والأجنبية، وله عدة كتب فى الشعر الرومانتيكى الإنجليزى وشعر المقاومة الفلسطينى، ويكتب الدكتور المسيرى فى الوقت الحاضر سلسلة من القصص للأطفال تنشرها دار الشروق تحت عنوان حكايات هذا الزمان.


المراجع والمرجعية

جرت العادة أن تضم قائمة المراجع الكتب التي استعان بها المؤلف في وضع بحثه أو مؤلفه، وخصوصاً تلك التي اقتبس منها بشكل مباشر. وهذا يدل على هيمنة النماذج التراكمية والمادية. فالمصادر التي لم نقتبس منها قد تكون أكثر أهمية من تلك التي نقتبس منها، وذلك إن أثَّرت في صياغة النموذج الإدراكي والتفسيري نفسه الذي يستخدمه الكاتب في طريقة رؤيته للظواهر، بينما نجد أن كثيراً من الكتب التي نقتبس منها هي مجرد مصدر للحقائق؛ مادة أرشيفية وحسب.

ويمكننا هنا أن نميِّز بين المراجع والمرجعية. فالمراجع تتناول الاقتباسات المباشرة أما المرجعية فتتناول جذور الفكر نفسه وتشكل النموذج التفسيري والتحليلي. وأعتقد أنه لابد أن يوجد ثبت بالمرجعية إلى جانب ثبت المراجع، تُدرج فيه أسماء الأساتذة والمؤلفين والشخصيات التي أثَّرت في الكاتب حتى لو لم يقتبس مباشرةً من كتاباتهم.

أ ) المرجعية:

من أهم مرجعياتي الأستاذ سعيد البسيوني (بالبنك الأهلي ) صديقي منذ الصبا، الذى ساهم في تدريبي على التفكير وعلى التعمق في الأمور وتجاوز السطح؛ والدكتور إميل جورج، مدرس الفلسفة بدمنهور الثانوية، والدكتورة نور شريف، رئيس قسم اللغة الإنجليزية وآدابها بالإسكندرية؛ والدكتور محمد مصطفى بدوي، أستاذ بجامعة أوكسفورد، والأستاذ ديفيد وايمر، أستاذ الأدب الأمريكي بجامعة رتجرز؛ وليونيل تريلنج، الناقد الأمريكي المعروف والأستاذ بجامعة كولومبيا، والأستاذ كافين رايلى، المؤرخ الأمريكى وزميلى فى جامعة رتجرز.

ومن أهم الكتابات التي ساعدت على تشكيل مرجعيتي والمنهج التحليلي الذي أتبناه كتابات كارل ماركس الإنسانية وجورج لوكاتش وروجيه جارودي وماكس فيبر وبازل ويلي وإرفنج بابيت. وقد ساهمت كتابات أبراهام ماير، مؤلف كتاب المرآة والمصباح، وزيجمونت باومان، عالم الاجتماع، في تشكيل كثير من أفكاري ومقولاتي التحليلية. وفي الآونة الأخيرة قرأت أعمال رئيس البوسنة علي عزت بيجوفيتش ووجدت فيها فكراً عميقاً ومنهجاً واضحاً ساعدني كثيراً على تعميق فكري ومنهجي.

أما فيما يتصل بالشأن الصهيوني فلعل كتابات الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي عن اليهودية والصهيونية (وهو أستاذ ديانات مقارنة) هي التي بيَّنت لي الطريق لتجاوز السياسي وصولاً إلى المعرفي. وكان أسلوب معالجته للموضوعات مختلفاً تماماً عما كنت أقرؤه، فقد وضَّح لي كثيراً من الأبعاد الغامضة التي أخفقت كتب السرد التاريخي في توضيحها. وقد استفدت إلى حدٍّ كبير بكتابات حبيب قهوجي وبديعة أمين وأسعد رزوق، كما قرأت أعمال جمال حمدان وتأثرت بها بشكل عميق (كما بيَّنت في كتابى المعنون اليهود فى عقل هؤلاء والصادر عن دار المعارف عام 1998 ).

وغني عن القول أن المرجعية النهائية لهذه الموسوعة (وللمشرف علىها) هو ما أسميه «المرجعية المتجاوزة»، والإيمان بوحدانية الله وثنائية الوجود الإنساني (كما هو مبيَّن في المجلد الأول المعنون الإطار النظري).

ب) المراجع:

جرت العادة على ألا تورد الموسوعات بشكل عام، والموسوعات المتخصصة على وجه التحديد، قائمة بالمراجع التي استخدمها كاتب مدخل ما. ولعل هذا يعود إلى أن مراجع المداخل التي تدور حول موضوع ما ستكون في الغالب واحدة وهو ما يؤدي إلى التكرار. كما أن مراجع مدخل واحد قد تكون من الضخامة بحيث أن حجم الموسوعة يمكن أن يتضاعف نتيجة هذا.

ولأضرب مثلاً بالمداخل التي تغطي حروب الفرنجة (المجلد السادس المعنون «الصهيونية») وسأورد فيما يلي ثبت المراجع الخاص بهذه المداخل.

1 ـ المراجع العربية:

كتب:

الأسطل، كمال محمد، مستقبل إسرائيل بين الاستئصال والتذويب: دراسة حول المشابهة التاريخية بين الغزوة الصليبية والغزوة الصهيونية. القاهرة، دار الموقف العربي، 1980.

أمين، بديعة، المشكلة اليهودية والحركة الصهيونية. بيروت، دار الطليعة 1974.

الخالدي، وليد وآخرون، القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني. الموصل، العراق. دار الكتب والنشر لجامعة الموصل واتحاد الجامعات العربية 1983، الفصول التالية:

دكتور شاكر مصطفى، "العرب والإسلام وفلسطين عبر التاريخ".

دكتور مروان بحيري، "اليهود في أوربا الغربية والشرقية ما بين 750 و1850"، "الحركة الصهيونية منذ نشأتها حتى نشوب الحرب العالمية الأولى".

قاسـم، قاسـم عبده، الخلفية الأيديولوجية للحروب الصليبية، دراسة في الحملة الأولى، 1095 ـ 1099 ـ الكويت، ذات السلاسل للطباعة والنشر، 1988.

دوريات:

المستقبل العربي، أغسطس 1987:

عاشور، سعيد عبد الفتاح، "ملامح المجتمع الصليبي في بلاد الشام".

قاسم، قاسم عبده، "الحروب الصليبية في الأدبيات العربية والأوربية واليهودية".

2 ـ المراجع الأجنبية:

كتب:

Bradford, Ernle, The Sword and the Samitar: The Saga of the Crusades. London, Victer Gallancz, 1974.

Cutler, Allan H and H. E. Cutler, The Jew as Ally of the Muslim: Medieval Roolts of Anlti-Semitism. Indiana, Uninversity of Notre Dame, 1986.

Erdman, Carl, The Origin of the Idea of the Crusade, translated from the German by Marshall W. Baldwrin and Walter Goffart. Princeton, Princeton Universsity Press, 1977.

Mayer, Hans Eberhard, The Csusades, translated by John Gillingham. Oxford Univessity Press, 1972.

Mc Gasry, Daniel D., Medieval History and Civiliztion. New York, Macmillan, 1976.

موسوعات ومعاجم:

Concise Dictionary of World History by Bruce Wettereau. New York, Macmillan, 1983.

Encyclopedia Britannica. Chicago, Encyclopedia Britannica, 1968.

Encyclopedia Judaica. Israel, Jesusalem, Keter Publishing, 1972.

Encyclopedia of Religion and Ethics. Edinblurgh, T and T Clark, 1938.

Encyclopedia of Jewish History: Events and Eras of the Jewish People, ed. Illana Shamir and Shlomo Shairt, Israel, Massada, 1986.

فإذا أضفنا إلى كل هذا التواريخ الأساسية للجماعات اليهودية مثل جرايتز وبارون وفنكلشتاين وبن ساسون وغيرهم، ثم المراجع الخاصة بالخلفية الأوربية والعربية الإسلامية لحروب الفرنجة لزاد ثبت المراجع صفحتين أو ثلاثة ولاقترب حجمه من حجم المداخل!

لكل هذا نجد أن كل الموسوعات لا تدرج المراجع التي استخدمها مؤلف المدخل، ويكتفي بعضها بإدراج قائمة ببعض المراجع المهمة تحت عنوان "لمزيد من الاطلاع" (بالإنجليزية: فور فيرذر ريدنج For Further Reading). وقد وجدنا أن ما يحتاجه القارئ العربي ليس مجرد ثبت عادي بالمراجع وإنما ثبت نقدي يلخص أطروحات الكتب والمقالات التي ترد عناوينها فيه ويبيِّن مواطن قوتها أو ضعفها والتحيزات الكامنة فيها. وهو جهد ضخم يقع خارج نطاق هذه الموسوعة.

وأحب أن أشير إلى أننا استفدنا في المجلد السابع الخاص بإسرائيل بكتاب دليل إسرائيل العام تحرير صبري جريس وأحمد خليفة (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية 1996)، وبكتابات الدكتور فضل النقيب.

المجلد الأول: الإطـار النظــرى

الجزء الأول: إشكاليات نظرية

الباب الأول: مقـدمة

بعض مواطن القصور فى الخطاب التحليلى العربى
قد يكون من المفيد أن نبيِّن بعض مواطن القصور الأساسية في الخطاب التحليلي العربي والغربي في حقل الدراسات اليهودية والصهيونية.

ولنبدأ أولاً باستبعاد بعض أشكال الخطاب من دائرة الخطاب التحليلي والتفسيري مثل الخطاب العملي (بشقيه التعبوي ـ الدعائي والقانوني) والخطاب الأخلاقي:

1 ـ الخطاب العملي: هو خطاب له أهداف عملية مثل تعبئة الجماهير أو الرأي العام، وهو لا يُعنَى كثيراً بقضية التفسير. ونحن نُقسِّم الخطاب العملي إلى قسمين: الخطاب العملي التعبوي والخطاب العملي القانوني.

أ) الخطاب العملي التعبوي: هو الخطاب الدعائي المحض الذي يتوجه، على سبيل المثال، إلى الرأي العام العالمي فيُوضِّح له أن "إسرائيل دولة معتدية" وأن "اللاجئين الفلسطينيين سُبة في جبين البشرية"، وأن "المستوطنين الصهاينة يستولون على الأراضي الفلسطينية دون وجه حق" وأنهم "عنصريون يعذبون النساء والأطفال"، وهكذا. ويمكن أن يتوجه الخطاب الدعائي نحو الداخل ليصبح خطاباً تعبوياً يهدف إلى تعبئة الجماهير ضد العدو الصهيوني وضد المؤامرة المستمرة (أو العكس الآن، إذ يمكن أن يقوم الخطاب التعبوي بالتبشير بالسلام). وغني عن القول أن مثل هذا الخطاب لا يفيد كثيراً في فَهْم ما يجري حولنا، فهو لا يكترث به أساساً. ونحن لا نقف ضد الدعاية أو التعبئة ولكن الهام أن نعرف أنهما أمران مختلفان عن التفسير.

ب) الخطاب العملي القانوني: ويمكن للخطاب العملي أن يكون قانونياً وتصبح القضية هي المرافعة لتوضيح الحق العربي والأساس القانوني له. والشكل الأساسي الذي يأخذه هذا الخطاب هو مراكمة قرارات هيئة الأمم المتحدة الواحد تلو الآخر في مجلدات ضخمة تُطبَع بعناية فائقة وتُوزَع على الهيئات والدول والمنظمات الدولية المعنية. ومثل هذا الخطاب لا يُعنَى كثيراً بتفسير أسباب الصراع أو بنيته أو طرق حله أو تصعيده أو إدارته. ولا شك في أن معرفة الإطار القانوني للصراع أمر مهم للغاية ولكنه يختلف تماماً عن عملية التفسير التي تنطوي على جهد أكثر تركيباً من مراكمة القوانين.

ومن الأشكال الأخرى للخطاب القانوني ما يُنشر من دراسات تحت شعار "من فمك ندينك يا إسرائيل". وهذه الدراسات تتكون عادةً من اقتباسات من كتابات بعض المؤلفين الإسرائيليين ومن أعضاء الجماعات اليهودية ينتقدون فيها اليهودية وأعضاء الجماعات اليهودية وإسرائيل. وتوضع الاقتباسات التي لا يربطها رابط، جنباً إلى جنب ثم تُقدَّم باعتبارها أدلة دامغة في المرافعة التي لا تنتهي ضد الصهيونية وإسرائيل وكل اليهود!

2 ـ الخطاب الأخلاقي: وهو الخطاب الذي يَصدُر عن قيم أخلاقية إنسانية ويحاول أن يحض على وضعها موضع التطبيق. ويمكن القول بأن ثمة نقط تشابه أساسية بين الخطابين الدعائي التعبوي والعملي القانوني من جهة والخطاب الأخلاقي من جهة أخرى، فجميعها ذات تَوجُه عملي غير تفسيري. فمقولات أخلاقية مثل الاعتدال والتسامح والإنصاف والخير ليست مقولات تحليلية أو تفسيرية، فهي تعبير عن حالات عقلية أو عاطفية وعن مواقف أخلاقية ولا علاقة لها ببنية الواقع المُركَّبة أو العملية التفسيرية. وهذه المقولات تجعل الباحث يُركِّز على الحالة العاطفية والعقلية للفاعل ويستبعد العناصر الأخرى، أو تجعله يُركِّز هو نفسه على إصدار الحكم الأخلاقي الصحيح على الأحداث بدلاً من دراسة بنية الواقع وآلياته وحركياته بهدف تفسيره. ولنأخذ قضية الاعتدال. يمكن القـول بأن الكــيان الصهيوني هو بنية عدوانية بغض النظر عن نية الفاعل الصهيوني ومواقفه الأخلاقية الفردية. فالمشروع الصهيوني هو مشروع يهدف إلى نقل كتلة بشرية من العالم الغربي إلى فلسطين بحيث تحل الكتلة البشـرية المُهجَّرة محــل سكان البلد الأصليين، بكل ما يَنتُج عن ذلك وبشكل حتمي من إحلال وطرد وإبادة. وهي نتائج تتجاوز نوايا العناصر البشرية الفردية المُشتركة في عملية النقل. ولكن هناك بعض الصهاينة المعتدلين، حسني النية والطوية، ممن تخلوا عن القيم الداروينية الشائعة. ولكنهم، رغم إنسانيتهم الحقة وأخلاقيتهم الواضحة، لم يستطيعوا أن يحققوا شيئاً بسبب طبيعة الصهيونية الاستيطانية الإحلالية. فتمسُّك هؤلاء بالقيم الأخلاقية النبيلة لا يَصلُح كثيراً لتفسير الظاهرة المركبة، لكن هذا لا يعني إسقاط نوايا الفاعل أو توجهه الأخلاقي، وخصوصاً إذا كانت هذه النوايا حقيقية، والمهم ألا نخلط بينها وبين بنية الصراع.

ولنضرب مثلاً آخر على عدم جدوى استخدام مقولة «الاعتدال» لتفسير الظواهر. فمن المعروف أن الاعتدال الصهيوني اختلف من جـيل إلى جيـل، حتى أن المعتدلين الآن (بعد تآكل العرب) هم في واقع الأمر متطرفو الأمس. ولذا، فإن طالب العرب (على سبيل المثال) بقبول قرار تقسيم فلسطين الصادر عام 1948 كأساس لحل القضية الفلسطينية عام 1996، أو حتى بالانسحاب لحدود عام 1967، فإن مثل هذه المطالب يُعتبَر تطرفاً وتشدداً وإرهاباً. ويُطلَب من العرب بعد ذلك أن يُظهروا شيئاً من التسامح وأن يتنازلوا عن أوطانهم حتى يمكن وصفهم بالاعتدال!

أما الإنصاف، فيمكن أن أضرب مثلاً على انعدام قيمته التفسيرية من كتاب صدر عن اليهود والماسون في مصر وحاول مؤلفه أن يكون "منصفاً"، فبيَّن أنه ليس كل اليهود ماسوناً وليس كل الماسون يهوداً، وأن هناك قيادات وطنية مصرية لا شبهة في وطنيتها انضمت للحركة الماسونية وهناك قيادات أخرى لم تنضم. وقد وثَّق المؤلفُ كل هذا بمادة أرشيفية ممتازة دون أن يُفسِّر لنا شيئاً عن الماسونية أو عن الظواهر التي أشار لها.

وقد ظهرت مؤخراً مصطلحات أخلاقية مثل «ثقافة السلام وثقافة الحرب» ليست لها قيمة تحليلية كبيرة، وهي مصطلحات تخلق الوهم بوجود شيء أخلاقي مطلق اسمه «السلام» مقابل شيء آخر لا أخلاقي مطلق يُسمَّى «الحرب» ولا يوجد أي منهما داخل أي سياق إنساني وتاريخي أو اجتماعي. وقد تمت تعبئة مصطلح «ثقافة السلام» بكل الإيحاءات الإيجابية الممكنة وأصبح الحديث عن "الحرب" مهما كانت أسبابها ومهما كانت الدوافع وراءهـا (مثل الحرب من أجل تحرير الأرض والذات على سبيل المثال) أمراً سلبياً وشكلاً من أشكال العنف. ونحن نطرح جنباً إلى جنب مع «ثقافة السلام والحرب» مصطلح «ثقافة العدل والظلم». ولذا يمكننا أن نتحدث عن «ثقافة السلام والعدل» مقابل «ثقافة الحرب والظلم». كما يمكن أن نتحدث عن «ثقافة السلام والظلم» وثقافة «الحرب والعدل». والهدف من كل هذا هو أن نبيِّن البُعد الأخلاقي لمثل هذه المصطلحات وأنها ليست، في واقع الأمر، مصطلحات وصفية وإنما هي مصطلحات وعظية وتعبوية، وأن نزيد من تركيبيتها ومقدرتها على التعامل مع واقع الإنسان المُركَّب.

ونحن لا نرفض القيم الأخلاقية وضرورتها للإنسان كإنسان، بل نرى أن التفسير لابد أن يُترجم نفسه في نهاية الأمر إلى فعل إنساني فاضل، بحيث يقف الإنسان وراء ما يُتصوَّر أنه إنساني وأخلاقي (المعروف)، ويقف ضد ما يُتصوَّر أنه غير إنساني وغير أخلاقي (المنكر). إلا أن مثل هذا الموقف الأخلاقي الإنساني، هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لابد أن يسبقه إدراك كامل لطبيعة الموقف الأخلاقي وتحليل للواقع المتعيِّن بكل مكوناته وتركيبيته حتى يمكن فهمه قبل الحكم عليه.

ويمكننا الآن أن ننصرف إلى عيوب الخطاب التحليلي الذي يهدف إلى تفسير الواقع:

1 ـ ولنبدأ بأهم الأشياء، أعني المسلمات أو المقولات التحليلية الأساسية. فمن الواضح أن كثيراً من الدراسات العربية تبنت (عن وعي أو عن غير وعي) معظم أو كل المسلمات أو المقولات التحليلية الغربية التي تتعامل الحضارة الغربية من خلالها مع العقيدة اليهودية ومع أعضاء الجماعات اليهودية، وهي مقولات أو مسلمات في معظمها ذات أصل إنجيلي مثل «التاريخ اليهودي» و«الشعب اليهودي». وهذه المقولات الإنجيلية احتفظت ببنيتها الأساسية دون تغيير، حتى بعد أن تم علمنتها وتفريغها من القداسة والأبعاد الدينية، فاليهود لا يزالون (في الوجدان الغربي الحديث) كياناً مستقلاً يتحركون داخل تاريخهم المستقل. وبعد أن كانوا يهيمون في البرية ويصعدون إلى كنعان ويهبطون إلى مصر، أصبحوا الآن يهيمون في أنحاء العالم، وبخاصة العالم الغربي، متطلعين طيلة الوقت إلى الصعود إلى فلسطين. ومن ثم، يخلع الوجدان الغربي على اليهود التفرُّد باعتبارهم الشعب المختار، وينزع عنهم القداسة باعتبارهم قتلة الرب والشعب المنبوذ الذليل، ثم يُحيِّدهم تماماً باعتبارهم مادة استعمالية ليس لها أهمية خاصة.

وهذه البنية تشكل نموذجاً محدَّداً (صهيونياً معادياً لليهود في ذات الوقت)، فهي ترى اليهود باعتبارهم إما ملائكة رحيمة أو شياطين رجيمة، إما باعتبارهم مركز الكون فلا يمكن للتاريخ البشري التحرك بدونهم أو باعتبارهم مجرد أداة أو شيء هامشي لا أهمية له في ذاته على الإطلاق. ومن خلال هذا النموذج، تم استبعاد كم كبير من المعلومات أو تم تهميشه، كشيء ليست له أهمية كبيرة. فعداء بلفور لليهود هو حقيقة تُذكر ثم يطويها النسيان باعتبارها انحرافاً وشذوذاً. وصهيونية غير اليهود التي تمتد من عصر النهضة في الغرب حتى الوقت الحاضر والتي تسبق صهيونية اليهود، والتي اكتملت فيها ملامح الفكر الصهيوني، تُذْكَر هي الأخرى بشكل وثائقي وكأنها طُرفة دون أن تُعطَى المركزية التفسيرية التي تستحقها. ذلك لأن النموذج التفسيري الغربي يرى أن الصهـيونية هي حـركة يهودية، وأنها تنبع من صفحـات العهـد القــديم أو تطلعات اليهود الأزلية للعودة إلى صهيون.

2 ـ أدَّى هذا الخضوع لإمبريالية المقولات الغربية، وغيره من العناصر، إلى أن أصبح العقل العربي يميل هو الآخر إلى أن ينزَع اليهود من سياقهم الحضاري والتاريخي والإنساني المختلف والمتنوع ويُشيِّئهُم ويجردهم تماماً من إنسانيتهم المتعيِّنة، ومن هنا تم اختزال واقع الجماعات اليهودية المتنوع والثري وغير المتجانس إلى بُعد واحد أو اثنين أو إلى أطروحة واحدة بسيطة أو أطروحتين. ولذا، يسقط الخطاب التحليلي العربي أحياناً في النظر إلى الظواهر اليهودية كمعطى حسي مادي، كشيء لا تاريخ له ولا أبعاد مركبة معروفة أو مجهولة، ومن ثم يتم إهمال التاريخ كمصدر أساسي للمعرفة الإنسـانية وللأنماط المتكررة وللنماذج التفسـيرية التي تزودنا بمتتاليات نماذجية تفسيرية لفوضى الواقع وتفاصيله. وحينما يُستدعَى التاريخ، فإنه يُستدعَى بطريقة معلوماتية وثائقية، فيتم قتله أولاً ويتحول من بنَى مركبة حية إلى مادة أرشيفية (أو إلى شكل من أشكال الأنتيكة) ينقض عليها الباحث لينزع منها المعلومة الملائمة.

3 ـ ولكن الأهم من ذلك، حينما يُسقَط البُعد التاريخي والإنساني المركب للظواهر اليهودية، أن اليهود يتحولون إلى كل متماسك ويبدأ الباحث في التعامل مع اليهود ككل، اليهود في كل زمان ومكان، اليهود على وجه العموم. ومثل هذه المقولات غير التاريخية تؤدي إلى تأرجح شديد بين قطبين متنافرين:

أ ) النظر لليهود في كل زمان ومكان باعتبارهم كياناً فريداً ليس له نظير وله قانونه الخاص.

ب) النظر لهم باعتبارهم شيئاً عاماً لا يختلف عن الوحدات الأخرى المماثلة يسري عليها ما يسري على كل الظواهر الأخرى.

نتج عن هذا التأرجح اختلال في تحديد مستوى التعميم والتخصيص الملائم لدراسة الظاهرة. فهناك، من ناحية، الميل نحو التركيز على التفرُّد والخصوصية اليهودية والتفاصيل المتناثرة. ومن ناحية أخرى، هناك الميل نحو التركيز على ما هو عام جداً وتجاهل نتوء الظاهرة وخصوصيتها ومنحناها الخاص، ومحاولة تفسيرها في إطار القانون العـام الواحد الشـامل وكأنها سـطح أملس ليست له شخصية أو هوية. وهذا التأرجح يسم معظم النماذج التحليلية السائدة.

4 ـ من النتائج الأخرى لنزع الظواهر اليهودية من سياقها التاريخي الإنساني المركب أنها لم يَعُد يُنظَر لها باعتبارها ظواهر كلية مركبة لها تجلياتها على المستويات السياسية والاقتصادية والدينية والمعرفية، ولذا تم تسييس الخطاب التحليلي العربي بشكل متطرف، بحيث يُناقَش كل موضوع في إطار أبعاده السياسية والاقتصادية المباشرة وحسب، وتم استبعاد الأبعاد المعرفية (رؤية الصهاينة للكون ـ رؤية العالم الغربي لذاته ولليهود) التي لا يمكن فهم الأبعاد السياسية والاقتصادية حق الفهم بدونها. وبذلك، تم عزل هذه الظواهر عن كثير من السياقات الفكرية والدينية والحضارية، وتم اختزالها إلى بُعد واحد واضح وسهل ومباشر.

5 ـ ويرتبط بهذا عيب آخر هو أن "الفكر الصهيوني" ينحل في عقل كثير من الباحثين إلى "أفكار صهيونية"، أي مجموعة من الأفكار لا يربطها رابط وليست جزءاً من منظومة مترابطة متكاملة. وعملية التفتيت هذه تؤدي إلى مزيد من التسطح وتعوق عملية التفسير النقدية المتعمقة.

6 ـ ويرتبط كل هذا ببُعد آخر نطلق عليه «التطبيع المعرفي والتحليلي للظواهر الصهيونية» إذ يهمل كثير من الدارسـين خصـوصية الظاهرة الصهـيونية الإسرائيلية من حـيث هي ظـاهرة استيطانية إحلالية ذات ديباجات يهودية. ويتعامل هؤلاء الدارسون مع النظام الحزبي الإسرائيلي (على سبيل المثال) مثلما يتعاملون مع النظام الحزبي في إنجلترا أو فرنسا متجاهلين أن الأحزاب الإسرائيلية مُمثَلة في المنظمة الصهيونية العالمية وأن لها فروعاً في الخارج وأنها مُموَّلة من الخارج وأن لها نشاطات لا تقوم الأحزاب السياسية عادةً بمثلها. فالتطبيع هنا يعني تجاهل خصوصية الكيان الاستيطاني الصهيوني وإدراكه باعتباره كياناً سياسياً عادياً طبيعياً مثل الكيانات السياسية الأخرى.

7 ـ ويمكن أن أشير أيضاً إلى إهمال الخطاب التحليلي العربي لما أسميه «قضية المنظور» (الوعي ـ الدوافع ـ التوقعات) والمعنى، وهو الدلالة الداخلية التي يراها الإنسان فيما يقع له من أحداث وفيما يحيط به من ظواهر وفيما يقوم به من أفعال. فالإنسان ليس، مثل الحيوان، مجموعة من الخلايا والأعصاب والرغبات المادية، وسلوكه ليس مجرد أفعال وردود أفعال مشروطة بالبيئة المادية أو العضوية، فهو أكثر تركيباً من ذلك. فالمعنى الذي يُسقطه على الظواهر يحدد وعيه ودوافعه وتوقعاته. ولكل هذا، لا يمكن رصد الإنسان من الخارج كما يُرصد الدجاج أو النحل. وأعتقد أن كثيراً من الدراسات العربية تُسقط هذا البٌعد المهم للظاهرة الصهيونية، أي باعتبارها ظاهرة اجتماعية تاريخية إنسانية مركبة، وأن الصهاينة والإسرائيليين بشر لا يمكن رد سلوكهم‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ إلى مجموعة من العناصر والملابسات المادية، فدوافعهم وتوقعاتهم مرتبطة برؤيتهم. ولذا، نجد كثيراً مما كُتب عن إسرائيل يدور في إطار وهم الموضوعية المادية المتلقية، بحيث تتحول عملية رصد المجتمع الإسرائيلي إلى مجرد رصد براني للظواهر والتفاصيل المتفرقة لا يكترث بالوعي أو بالدوافع ويُسقط فكرة المعنى تماماً (أي المعنى الذي يخلعه الصهاينة على أفعالهم وأفعال الآخرين) ويتجاهل قضية التوقعات، فيأتي الحكم على مدى نجاح الظاهرة الصهيونية أو فشلها بمقاييس كمية خارجية عامة مثل «القوة العسكرية للمجتمع» و«مستوى التقدم الاقتصادي للمجتمع» و«معدلات الدخل المرتفعة للمواطن الإسرائيلي» و«مدى اتساع حدود الدولة الصهيونية أو ضيقها»، دون أن يؤخذ في الاعتبار إدراك المستوطنين الصهاينة أنفسهم لهذه الظواهر وكيفية استجابتهم وتفسيرهم لها، ودون تحديد لطبيعة توقعاتهم من مجتمعهم الصهيوني سواء من الناحية المادية أو من الناحية المعنوية.

8 ـ ويرتبط بقضية المنظور والدوافع والتوقعات والمعنى قضية حدود الآخر. فنحن، حينما ندرس الآخر، عادةً ما نسقط في عملية اختزالية:

أ ) نسقط فيما أسميه «النصوصية»، أي أن يفترض الباحث أن ما ورد في الكتب المقدَّسة لليهود يكفي أن يكون نموذجاً تفسيرياً لسلوك اليهود.

ب) عادةً ما نأخذ تصـريحات الإسـرائيليين باعتبـارها تعـبيراً عن دوافعهم وخططهم الحقيقية وليست مجرد مزاعم وآمال. ثم تتشيأ النصوص المقدَّسة والتصريحات وتتحول من الدوافع الكامنة، والمُخطَط المُبيَّت، لتصبح القوة الذاتية وأخيراً الواقع الموضوعي. وبذا، تتم المساواة بين الزعم والآمال وبين التوقعات والواقع. كل هذا يؤدي إلى إهمال حقيقة بديهية وهي أن الآخر قد يفشل في إدراك دوافعه الحقيقية (بسبب التزامه الأيديولوجي)، وأنه قد يعني ما يقول ويصدقه ولكنه مع هذا لا يعبِّر عن دوافعه الكامنة الحقيقية التي تحركه لأنه لا يستطيع أن يواجه نفسه. وهناك، إلى جانب ذلك، الادعاء الواعي إذ قد يكون من صالح الشخص أن يعلن مزاعمه ويخبئ دوافعه حتى يخدم مصلحته. فقد يزعم المهاجر اليهودي أنه هاجر بسبب رغبته اليهودية العارمة النبيلة في العودة إلى أرض الميعاد ليخبئ دوافعه الخسيسة في الهرب من البطالة والبحث عن الحراك الاجتماعي والحصول على الدعم الصهيوني السخي لمن يستوطن في صهيون. وقل نفـس الشـيء عن القـوة الذاتية. فمزاعم الآخر عن قوته قد تكون خاطئة تماماً وقد تكون تزييفاً واعياً. وحينما صرح الصهاينة أن عدد المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفيتي في موجة الهجرة الأخيرة سيصل إلى الملايين، فلعلهم كانوا مخلصين فيما يقولون ولكنهم فشلوا في تقييم موقف اليهود السوفييت وعوامل الطرد والجذب العامة والخاصة التي تتجاذبهم، ولعل آمالهم الأيديولوجية قد ضللتهم. وهناك احتمال أن يكون الصهاينة قد قاموا بتضليل الجميع عن عمد حتى يتم تخويف العرب (فيسرعوا إلى مائدة المفاوضات) وحتى تزيد الولايات المتحـدة (ومن ورائها يهود العـالم) من دعمها المادي والسـياسي. ومن المعروف أن الملايين المزعومة من المهاجرين لم تصل.

وقل نفس الشيء عن مخططات الاستيطان في الضفة الغربية التي كانت تطمح إلى توطين مئات الألوف (على أمل أن يصل عدد المسـتوطنين إلى ثلاثة أرباع المليون). وقد حرص الصهاينة على إعلان هذه المخططات على المـلأ. ولكن من المعروف أن هذه المخططات لم تتحقق. فلعل من أدلوا بهذه التصريحات لم يدركوا أن مصادر الهجرة اليهودية في العالم قد بدأت تجف، وأن يهود العالم مستقرون في بلادهم مندمجون فيها، وخصوصاً في العالم الغربي، وأن الولايات المتحدة تمثل نقطة الجذب الكبرى لمن يريد أن يهاجر منهم، وأن كل هذا يضع قيوداً بنيوية على تحقيق المخططات ويؤدي إلى إفشالها. ومن المحتمل أنهم كانوا مدركين تماماً لأبعاد الموقف وأصدروا التصريحات بهدف التخويف وجمع الأموال أيضاً.

ولذا، فإن من المهم بمكان أن نقرر ما إذا كان الزعم الصهيوني يُعبِّر عن آمال الصهاينة بإخلاص أم أنه ادعاء صهيوني كاذب وواع، فلو كان أملاً فسيؤثر في خطة عمل صهيونية، أما إذا كان ادعاءً واعياً أو أكذوبة فلابد أن يسقط من الاعتبار لأن الهدف منه هو تضليلنا. وعلينا بعد ذلك أن نقرر إن كانت الآمال تتطابق مع الواقع أم لا، ومدى إمكان تحقيقها، وذلك بدلاً من السقوط في قبضة تشيؤ المزاعم والتصريحات والنصوص المقدَّسة.

9 ـ لكل ما تَقدَّم، هيمن على الخطاب التحليلي العربي نموذج معلوماتي موضوعي متلقٍ وثائقي. فتُراكَم المعلومات والحقائق والأفكار والتصريحات والنصوص المقدَّسة وتُرص رصاً بغض النظر عن مدى أهميتها ومدى مركزيتها ومقدرتها التفسيرية. وهي عادةً حقائق لا يربطها رابط ولا تخضع لأي شكل من أشكال التحليل المتعمق إذ يأخذ التحليل شكل تحليل مضمون بدائي جداً يلجأ للتصنيف السطحي بناء على عدد الكلمات وتكرار الجُمل والموضوعات وذلك في إطار الأطروحات العامة المســيطرة. وبالتالي، تُجمَّد الظواهر والحقائق وتُعزَل عـن بعضـهـا البـعض وتُجرَد من تاريخـها وسياقها. ويكون الرصد رصداً لحقائق متفرقة، لا لأنماط متكررة، ومن ثم يمكن للباحث أن يفرض عليها أي معنى عام أو خاص يشاء، وإن قام بفرض نمط ما عليها فهو أطروحة اختزالية بسيطة. ويأخذ البحث العلمي شكل اختيار الحقائق التي يبرهن بها الباحث على البدهية الاختزالية الأولى التي بدأ بها (اليهود مصدر الشر ـ الصهيونية شكل من أشكال الإمبريالية) بدلاً من أن يكون عملية اكتشاف واختبار للأطروحات القائمة. وقد أصبح التصور العام الآن في العقل العربي أن التأليف هو التوثيق بغض النظر عن المقدرة التفسيرية للمسلمة التي تم توثيقها، وأصبح معيار الجودة والتميُّز هو كم المعلومات أو الحقائق التي أتى بها المؤلف، وكم المراجع التي أدرجها في ثبت المراجع، وتاريخ صدورها، فإن كانت حديثة كان هذا دليلاً قاطعاً على مدى جدية الباحث وإبداعه!

10 ـ ساد نموذج الهزيمة وتغلغل في الذات العربية، وأصبحت الهزيمة مترادفة مع الموضوعية المتلقية (التي تعني التجرد من الذات والذاكرة التاريخية والقيم الأخلاقية الخاصة والمثاليات والبطولة). وأصبح من البديهيات الموضوعية والمسلمات تَقَبُّل أطروحة أن العدو "متقدم" وأن قوته لا تُقهَر وأننا متخلفون وضعفنا واضح ونهائي. وفي هذا الإطار، أصبح من دلائل الموضوعية التنقيب بكل نشاط وشراهة عن القرائن والاستشهادات التي تُثبت هذا عملياً، فيبحث الدارسون عن مواطن القوة والتفوق في المجتمع الإسرائيلي دون أن يكلفوا خاطرهم مشقة التعمق وراء هذه الشواهد والقرائن ودون أن يبحثوا عن قرائن أخرى تدل على مواطن القوة في الذات وعن لحظات الانتصار.

وإن حدث العكس وقام باحث بإيضاح مواطن الضعف في العدو وبيَّن أن اليهود بشر يخضعون لما يخضع له كل البشر من أفراح وأتراح، ومن انتصار وانكسار، وأنهم ينضوون في إطار النماذج التفسيرية المتاحة في العلوم الإنسانية والاجتماعية ومن ثم يمكن تفسيرهم ومعرفة مواطن القوة وأسبابها ومواطن الضعف وأسبابها. إن حدث ذلك، فإن الجميع يتذمرون ويحتجون ويُلقون بالاتهام بعدم الموضوعية. بل يخلط البعض بين هذا التفسير المركب للموقف وبين الوهم الشائع عند البعض أن إسرائيل قد تنهار من الداخل من تلقاء نفسها.

ويمكننا إرجاع قصور الخطاب التحليلي العربي إلى عدة أسباب تنضوي كلها أو معظمها تحت سبب واحد وهو غياب النموذج التفسيري الاجتهادي المُركَّب الذي لا يتبنى المسلمات القائمة ولا يستبعد أياً من عناصر الواقع بقدر الإمكان ويسترجع الفاعل الإنساني ككيان مركب لا يمكن رده إلى عنصر مادي (أو روحي) واحد أو اثنين.

ولعل من الهام بمكان في هذه المرحلة أن ندرس الشأن اليهودي والصهيوني دون أن نسقط ضحية لإمبريالية المقولات ودون أن نجرد أعضاء الجماعات اليهودية من سياقاتهم التاريخية والاجتماعية ودون أن نتبنى تحيزات الآخرين سواء مع "اليهود" أو ضدهم، لقد حان الوقت أن ندرسهم من وجهة نظرنا وأن نخضع تحيزاتنا (ونماذجنا التحليلية) للاختبار المستمر لنرى مقدرتها التفسيرية بالمقارنة للنماذج التحليلية الأخرى. ولعل الموسوعة (دائرة المعارف) هي العمل الذي يعرض بشكل شامل رؤية مجتمع ما لظاهرة ما أو لمجموعة من الظواهر.

موسوعة (دائرة معارف)

«الموسوعة» يُطلَق عليها في الإنجليزية «أنسيكلوبيديا encyclopedia»، وهي كلمة مشتقة من اليونانية وتعني حرفياً «التعليم في دائرة»، أي «المنهج التعليمي الكامل». وعلى هذا فإنها تعني تقديم المعرفة بشكل منهجي من خلال دراسات يكتبها متخصصون، كلٌ في حقل تخصُّصه، تكون في العادة حسب تصنيف ألفبائي. وحينما استخدم فرانسوا رابليه (1490 ـ 1553) الكلمة لأول مرة في الفصل العشرين من بانتاجرويل Pantagruel، استخدمها بمعنى «تعليم». وكان أول من استخدمها بالمعنى الاصطلاحي للكلمة الكاتب الألماني بول سكاليش Paul Scalich حيث استخدمها كعنوان لموسوعته عام 1559. والموسوعات التي صدرت قبل ذلك التاريخ إما أنها كانت لا تصف نفسها بأنها «موسوعة» أو كانت تستخدم كلمة «معجم dictionary». وظلت الكلمة غير شائعة إلى أن استخدمها ديدرو في موسوعته. وحتى الآن، لا تزال بعض الموسوعات يُشار إليها بأنها «معجم» (وإن كان المعجم لا يُشار له بلفظ «موسوعة»). ويمكن أن تكون الموسوعة من جزء واحد، كما تُوجَد موسوعات من عشرات الأجزاء.

وتُعرَّف الموسوعة بأنها سجل للمعرفة الإنسانية في المستوى الذي وصلت إليه وقت ظهورها. ومهمة الموسوعة هي تلخيص ما تَوصَّل إليه المتخصصون إما في كل حقول المعرفة (إن كانت موسوعة عامة) أو في حقل من حقول المعرفة (إن كانت الموسوعة متخصصة)، أي أنها بهذا المعنى تتعامل مع علم مستقر ومصطلحات مستقرة ورؤى تم الإجماع عليها تقريباً من قبَل المتخصصين.

وفي اللغة العربية تُستخدَم كلمة «موسوعة» بهذا المعنى أحياناً، ولكن في أحيان أخرى تُستخدَم الكلمة للإشارة إلى أي كتاب كبير. كما يميل البعض للتمييز بين كلمتي «موسوعة» و«دائرة معارف»، ولكن ورد في المعجم الوسيط أن «دائرة المعارف» و«الموسوعة» تترادفان ويُقصد بهما: عمل يضم معلومات عن مختلف ميادين المعرفة أو عن ميدان خاص منها ويكون عادةً مرتباً ترتيباً هجائياً.

موسوعة اليهودية
يعود تاريخ أول موسوعة متخصصة في تراث أعضاء الجماعات اليهودية والعقيدة اليهودية إلى منتصف القرن الثامن عشر حين ظهر في مدينة فيرارا بإيطاليا عام 1750 أول جزء من موسوعة يهودية، جمعها وألفها طبيب يُدعَى إسحق بن صمويل لامبرونتي (وانتهى نشرها عام 1888) وتقع في ثلاثة عشر جزءاً. والموسوعة تعالج تراث اليهود وتاريخهم، ولكنها كانت تخلط بين التاريخ والتلمود ولا تفصل بين الواقع التاريخي والنصوص الدينية. ثم ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر موسوعة ألمانية متخصصة أخرى، جمعها وكتب مادتها جيكوب هامبرجر، كبير حاخامات إحدى الإمارات الألمانية. وكانت هذه الموسوعة، مثل سابقتها، ذات طابع ديني محض. ثم تتالت الموسوعات، فظهرت أول موسوعة عن اليهودية باللغة الإنجليزية في أوائل القرن الحالي (1901 ـ 1906)، وهي الموسوعة اليهودية ( ذا جويش أنسيكلوبيديا The Jewish Encyclopedia) التي تتألف من 12 جزءاً حررها أ. سنجر. أما الموسوعة اليهودية العالمية ( ذا يونيفرسال جويش أنسيكلوبيديا The Universal Jewish Encyclopedia )، فقد حررها إسحق لاندمان ونُشرت في نيويورك بين عامي 1939 و1943 وظهرت في عشرة أجزاء. ونُشرت موسوعة سيسل روث وجفري ويجودر في جزء واحد عام 1958، كما نُشرت منها عدة طبعات كان آخرها طبعة 1970.

وظهرت أول موسوعة متخصصة في الصهيونية وإسرائيل (دون تراث أعضاء الجماعات اليهودية) عام 1971 بعنوان موسوعة الصهيونية وإسرائيل ( ذا أنسيكلوبيديا أوف زايونيزم آند إسرائيل The Encyclopedia of Zionism and Israel )، وكُتبت تحت رعاية زلمان شـازار، أحد رؤساء الدولة الصهيونية السابقين. وظهرت منها طبعة جديدة مزيَّدة ومنقَّحة عام 1994 وحرَّرها ويجدور. وأخيراً، في عام 1972، ظهرت الموسوعة اليهودية ( أنسيكلوبيديا جودايكا Encyclopeia Judaica )، وهي أكبر عمل موسوعي حتى الآن يختص بتراث أعضاء الجماعات اليهودية بكل جوانبه، وضمن ذلك الصهيونية وإسرائيل، وتقع في 16 جزءاً. وهي تُعتبَر تلخيصاً لكل الدراسات السابقة وتصنيفاً لكل جوانب تراث أعضاء الجماعات اليهودية عقيدةً وتاريخاً، وتُصدر هذه الموسوعة كتاباً سنوياً يعمل على تزويد قارئ الموسوعة بالمعلومات الحديثة.

وابتداءً من عام 1935، ظهرت موسوعة عبرية تحت إشراف كلاوزنر في ستة أجزاء، وظهرت موسوعة عبرية أخرى بين عامي 1950 و1961 في ستة عشر جزءاً. ولكن أهم الموسوعات العبرية هي الموسـوعة العبرية التي صدرت في 31 جزءاً بين عامي 1941 و1971. وقد ظهرت موسوعات إنجيلية مختلفة ولكنها لا تهمنا كثيراً، لأننا في مجال دراستنا للصراع العربي الإسرائيلي لا نهتم باليهودية إلا كأحد عناصر هذا الصراع، والموسوعات الإنجيلية لا تهتم باليهودية إلا كدين وحسب. كما ظهرت موسوعة لشخص يُدعَى سيجيلا فيري تصفها المصادر اليهودية بأنها كُتبت تحت رعاية «المعادين للسامية». وإن صدق هذا القول، فإن مثل هذه الموسوعة لن تنفعنا كثيراً لأنها مليئة ولا شك بادعاءات عنصرية ولا تفيدنا من قريب أو بعيد في إدارة أي صراع أو في فهم أية ظاهرة، وهي في نهاية الأمر لم تُنشَر كاملة. والملاحَظ أن كل الموسوعات آنفة الذكر (باستثناء الموسوعات الإنجيلية وموسوعة فيري) قام بتأليفها باحثون يدينون باليهودية، بل الأهم من هذا أن معظمهم لهم ولاءات صهيونية (باستثناء محرري الموسوعة اليهودية الروسية التي نُشرت بين عامي 1906 و1913 في 16 جزءاً وحررها يهودا كاتزنلسون وسيمون دبنوف من منظور مؤيد لما يُسمَّى «قومية الدياسبورا»، كما يمكن القول بأن محرري موسوعة لاندمان لا يدينون بالولاء للصهيونية).

ومعظم ـ إن لم يكن كل ـ الموسوعات اليهودية التي صدرت بعد احتدام الصراع العربي الإسرائيلي قام بكتابتها يهود متحمسون للمشروع الصهيوني الاستيطاني. وقد كان لهذا الوضع أعمق الأثر في وجهات النظر التي تُبرزها هذه الموسوعات. ولتوضيح هذه النقطة سنضرب مثلاً بالموسوعة اليهودية الأخيرة باعتبار أنهـا أهم عمل موسوعي يختص بتراث الجماعات اليهودية والصهيونية وإسرائيل.

تذكر مقدمة هذه الموسوعة أن محررها هو سيسل روث المؤرخ اليهودي المعروف "بورعه وتقواه وتدينه العميق". وأنه استقر في إسرائيل بعد أن تقاعد من عمله الجامعي في وطنه الأصلي إنجلترا. وأنه قام بالتدريس في إسرائيل في جامعة بارإيلان الدينية حيث اتُهم، رغم ورعه وتقواه، بالانحراف عن الشريعة اليهودية، وأُصيب بنوبة قلبية فاستقال. وفي مجال تقديم روث للقارئ في الموسوعة اليهودية (جودايكا)، تذكر مقدمتها أن هذا العالم سافر ليلة الخامس من يونيه من نيويورك إلى القدس ليكون مع شعبه في إسرائيل، وأنه حينما وصل إلى القدس جلس في المخبأ طيلة هذه الليـلة. ثم تقول المقدمـة إن روث نظر من شـرفته ورأى المعارك التي أعادت القـدس لليهود بعد ألفـي عام.. وبعد أن سكتت المدافع ورأى الحجاج بالألـوف يحجون لحائط المبكى، أصر على أن يُلقي صلاة خاصة في هذه المناسبة، ثم ألقى خطاباً على العاملين معه في الموسوعة. وقد تكون هذه كلها أحداثاً شخصية لا علاقة لها بالعمل الموسوعي الضخم الذي يُعَدُّ الآن أكبر مصدر مُعتَمد للمعلومات في العالم عن اليهودية واليهود والصهيونية. وقد يُقال إن ولاءات روث الدينية وحتى السياسية لا علاقة لها بالعمل الذي قام به، ولكن كاتب مقدمة الموسوعة اليهودية لا يترك لنا أية فرصة للتخمين أو المناورة من أجله، فهو يؤكد بما لا يقبل الشك أن رؤية روث لحرب 1967 جعلته يضيف بُعداً آخر للأحداث العظيمة التي كانت تتكشف أمامه. وقد كتب روث نفسه في مذكراته قائلاً: "إن الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط ـ والتي تُوجت بالنصر الإسرائيلي المدهش ـ قد جعلت كل المراجع السابقة غير متطابقة مع الواقع ولهذا السبب أصبح نشر الموسوعة اليهودية أمراً ملحاً أكثر من ذي قبل"، أي أن انتصارات إسرائيل العسكرية قد عدلت رؤيته التاريخية (ولروث كتاب عنوانه تاريخ اليهود منذ ميلاد يسرائيل حتى حرب الأيام الستة).

وقد يُقال إن هذا التحيز أمر يختص بسيسل روث وحده دون بقية الكُتَّاب المشتركين في الموسوعة. ولكن، مرة أخرى، حينما يفتح القارئ أول صفحة في أول مجلد من الموسوعة يفاجأ بالجملة التالية: "لقد حشد روث جيشاً جراراً من المحررين والمؤلفين من بين أحسن العلماء اليهود في العالم"، كما نكتشف أن الموسوعة اليهودية (جودايكا) تُوصَف بأنها أعظم "عمل أدبي يهودي" في هذا القرن! ولكن بأي معنى من المعاني يمكن أن تُوصَف موسوعة بأنها "عمل يهودي"؟ ولم كان من الضروري أن يكتبها «يهود» وليس أي علماء متخصصين؟ هل اليهودية منهج في البحث ورؤية للتاريخ أم عقيـدة دينية وانتماء أخلاقي؟ وحتى إذ افترضنا أنها منهج في البحث وعقيـدة دينية تشكل رؤية صاحبها، ألم يكن من الضروري أن يُبيِّن لنا الكاتب كيف توصَّل المحرر للإطار النظري لموسوعته من خلال عقيدته؟ وهل يَفضُل هذا المنهج المناهج الأخرى؟ ولكن بدلاً من ذلك، تظهر العبارة التالية في المقدمة: "هذه المفاهيم ـ حب يسرائيل، ومركزية القدس، وفهم رسالة الشعب اليهودي ـ هي مفاهيم كلها أساسية بالنسبة لروث وتتضح كلها في صفحات الموسوعة"، أي أننا أمام عمل دعائي يستخدم لغة البحث العلمي وأساليبه ومناهجه نشره ناشر إسرائيلي في القدس المحتلة. ولذا، لابد أن نكون واعين تمام الوعي بأثر هذا الحب وهذه المركزية على ما يكتبون وعلى ما يقدمون للقارئ.

ومن الأمـور المثيرة للدهشـة حقاً، أنه بعد مرور ما يقرب من خمسين عاماً من الصراع العربي الإسرائيلي الرسمي، وما يزيد على مائة عام من الصراع التاريخي، لم يَصدُر حتى الآن معجم عربي واحد يُعرِّف مصطلحات هذا الصراع ويُفسِّر مفاهيمه، وبالذات المصطلحات والمفاهيم الخاصة بالعدو، سواء من ناحية وضعه التاريخي أو من ناحية رؤيته لنفسـه. (ظهرت الموسوعة الفلسطينية من 4 أجزاء، ثم ظهرت سـتة أجزاء أخرى ولكنها «موسـوعة فلسطينية»، أي أن الجانب الصهيوني هامشي، أما فيما يختص بالعقيدة وبالجماعات اليهودية فلا توجد سوى إشارات هنا وهناك). وقد نجم عن هذا الوضع أن كل باحث عربي لا يزال يتعيَّن عليه أن يبدأ دائماً من نقطة الصفر، ولا يزال يتعيَّن عليه أن يُعرِّف كل المصطلحات التي يستخدمها. ولذا، فإن الدراسات العربية للصراع تمتلئ بتعريفات مبدئية عن «اليشوف»، و«التلمود»، فماذا تعني عبارة مثل «الشعب المختار» مثلاً؟ وقد أدَّى هذا إلى تكرار الجهد وإضاعته، وانخفاض مستوى البحث، لأن الباحث، شاء أم أبى، يجد نفسه مضطراً إلى افتراض أن قارئه لا يزال عند نقطة الصفر.

ولكن الأخطر من هذا أن غياب «معجم عربي» اضطر الباحث العربي إلى أن يعود باستمرار إلى المصادر الصهيـونية التي قد تعطيه كمية هائلة من المعلومات هـي، في نهاية الأمر، متحيِّزة ومُوجَّهة وموظَّفة في خدمة هدف معيَّن. ولذا، يظل الباحث العربي دائماً تحت رحمة المصادر الصهيونية ومقولاتها التحليلية التي لا تكشف له من الظاهرة إلا تلك الجوانب التي يهمها كشفها، حاجبةً عنه كل الجوانب الأخرى.

وحتى عندما تكشف المراجع الصهيونية عن كل جوانب الظاهرة أو الواقعة، فهي تفعل ذلك بعد تفتيتها إلى عناصر متفرقة متناثرة، وهو ما يُحوِّل الظاهرة إلى كم غير متحدد، ليس له مضمون معيَّن، يَصعُب الكشف عن مدلوله الحقيقي. وقد نجم عن كل هذا أن كماً هائلاً من المفاهيم والمصطلحات الصهيونية تسرب إلى عقولنا ولغتنا دون أن ندري.


موسوعة تفكيكية (نقدية)
حينما بدأت أولى دراسـاتي المنشـورة بالعربية عن الصهيونيـة (نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني [القاهرة 1972])، وجدت أن معظم المؤلفين العرب يُضطرون إلى التوقف عند كل صفحة لتعريف بعض المصطلحات والشخصيات التي يشيرون إليها («الكيبوتس» ـ «بن جوريون» ـ «الماباي»). ولهذا، قررت أن أستمر في كتابـة دراسـتي دون توقُّف لتعريف كل مصطلح، ذلك التوقف الذي يؤدي حتماً إلى تشتُّت القارئ، على أن أُلحق بالدراسة مسرداً أُوضِّح فيه ما غَمُض من مصطلحات وأُعرِّف فيه بالأعلام. وتحوَّل مشروع المسرد تدريجياً إلى مشروع كتيب معجمي مستقل ترد فيه معاني المصطلحات وتُعرَّف فيه الشخصيات بطريقة معجمية. ثم تحوَّل مشروع الكتيب إلى معجم صغير، والمعجم الصغير إلى معجم كبير، والمعجم الكبير إلى مشروع موسوعة صغيرة (من جزء واحد) تهدف إلى توفير المعلومات (العربية والغربية) المتاحة حتى لا يُضيِّع الباحث العربي وقته في البحث عن المعلومات وحتى يتفرغ للعملية البحثية الحقيقية، أي عملية التفسير والتقييم. ولكنني حين بدأت في تنفيذ مشروع الموسوعة اكتشفت بعد قليل من البحث والتعمق أن مرجعية حقل الدراسات المعني باليهود واليهودية ومصطلحاته مُشبَّعة بالمفاهيم الأولية (القَبْلية) لليهودية والصهيونية، وأن عدداً هائلاً من المفردات (مثل «الشعب» و«الأرض») يكتسب دلالات خاصة تُخرجها عن معناها المعجمي المألوف، وأننا نترجم، ليس فقط حين نترجم، ولكننا نترجم حتى حين نؤلف وذلك بسبب غياب الرؤية النقدية. كما اكتشفت أن المعلومات، مهما بلغت من كثافة وذكاء وحذق، هي عملية لا نهاية لها، ولا جدوى من ورائها، فهي تشبه الرمال المتحركة، وهي لا تأتي بالمعرفة ولا بالحكمة لأنها محكومة بمقولات قَبْلية محدَّدة تتم مراكمة المعلومات في إطارها.

حينما أدركت ذلك تحولت الموسوعة من مجرد موسوعة معلوماتية صغيرة عادية تُعرِّف بالمصطلحات والأعلام إلى موسوعة كبيرة تحاول تفكيك المصطلحات والمفاهيم القائمة وتوضيح المفاهيم الكامنة وراءها بدلاً من تلخيصها والعرض لها. ولذا، فقد صدرت الموسوعة عام 1975 بعنوان فرعي رؤية نقدية حتى أنبه القارئ إلى أنه يتعامل مع موسوعة من نوع جديد، وهى تعد أول موسوعة متكاملة عن اليهود واليهودية والصهيونية، كتبها مؤرخ غير يهودي.

موسوعة تأسيسية
وفي عام 1975، قررت تحديث موسوعة المصطلحات اليهودية والصهيونية: رؤية نقدية (القاهرة 1975) وتعميق الجانب التفكيكي النقدي، بعد أن أصبحتُ أكثر وعياً به. ولذا قررت أن أكتب ما سميته حينذاك «موسوعة مضادة» (بالإنجليزية: آنتي أنسيكلوبيديا anti-encyclopedia)، فدعوت حشداً كبيراً من الباحثين الشبان والمتخصصين وطلبت من كل واحد منهم أن يكتب مدخلاً في حقل تخصصه، على أمل أن أنتهي من تحديث الموسوعة في غضون عام أو عامين. واستغرقت العملية التفكيكية ما يقرب من عشر سنوات أي حتى عام 1985 حين اكتشفت أنني انتقلت من مرحلة إلى مرحلة أخرى دون أن أشعر، إذ وجدت أنني في واقع الأمر، شأني شأن الباحثين الذين تعاونوا معي، أقوم بعملية تمديد أفقي للمعلومات في الإطار التفكيكي العام. ولا شك في أن التفكيك له فائدة، بل هو أمر حتمي وضروري، فهو يكشف المفاهيم الكامنة ويزيل الغشاوات، ولكنه يترك كثيراً من جوانب الظاهرة دون تفسير. فالتفكيك عملية هدم جذرية تطهيرية ولكنه ليس عملية تفسيرية. والتفسير غير التفكيك، فهو عملية إبداعية تركيبية تتطلب نحت نماذج مختلفة والربط بينها والغوص في كل الأبعاد السياسية والاقتصادية والدينية والمعرفية للظاهرة، وإعادة ترتيب الوقائع وتصنيفها في ضوء النماذج الجديدة، واكتشاف حقائق جديدة مُهمَّشة ومنحها المركزية التفسيرية التي تستحقها، وتوليد مصطلحات جديدة وإعادة تعريف بعض المصطلحات القائمة.

وقد حدث شيء مهم جداً في حياتي الفكرية عام 1985 وهو أن همومي الفكرية الأساسية (الصهيونية كاستعمار استيطاني وكأيديولوجية لأعضاء الجماعات اليهودية ـ الهيجلية والحلولية ونهاية التاريخ ـ الاستهلاكية ومصير الإنسان ـ التحيزات المعرفية والحاجة لمشروع حضاري مستقل ـ الحاجة إلى استخدام النماذج كأدوات تحليلية)، التي كانت مترابطة بشكل ما، تلاحمت تماماً وأدركت العلاقات فيما بينها، الأمر الذي كان يعني ضرورة البدء من جديد. ومما ساعد على تعميق هذا الاتجاه، اكتشافي معلومات مهمة، أي إدراكي أهميتها التفسيرية (فهي معلومات معروفة ولكنها مُهمَّشة تماماً)، فقد وجدت أن الغالبية الساحقة من يهود العالم الغربي في نهاية القرن الثامن عشر كانوا يوجدون في بولندا، وأننا حينما نتحدث عن يهود العالم الغربي (أي معظم يهود العالم) فإنما نتحدث في واقع الأمر عن يهود بولندا الذين اقتسمتهم روسيا والنمسا وألمانيا باقتسام بولندا نفسها، ومن صفوفهم خرجت الألوف والملايين التي هاجرت إلى إنجلترا وأستراليا وكندا والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا ثم فلسطين. ولذا، لابد للمتخصص في اليهود واليهودية والصهيونية أن يُلم إلماماً كبيراً بتاريخ بولندا وتشكيلها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الفريد. وهنا اكتشفت جهلي التام. هل سمع أحد منا بجمهورية يحكمها ملك منتخب؟ وما علاقة بولندا بلتوانيا وما علاقتهما بأوكرانيا؟ هل سمع أحد منا بطبقة الشلاختا (طبقة النبلاء البولنديين) أو بنظام الأرندا (نظام استئجار الأراضي من النبلاء)؟ وما دور اليهود في الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا؟ إن هذه العناصر والمفردات هي التي تكوِّن تاريخ بولندا ومن ثم تاريخ الجماعة اليهودية فيها، ولا يمكن فهم المسألة اليهودية إلا بعد الإحاطة بهذه العناصر وغيرها إحاطة كاملة.

هذا بالنسبة لليهود. أما بالنسبة لليهودية، فقد اكتشفت الدور المتزايد الذي لعبته القبَّالاه اللوريانية (أي الصوفية اليهودية على طريقة إسحق لوريا) في تقويض دعائم التلمود حتى حلّت كتب القبَّالاه محله. وبناءً على هذا، فقد أحضرت عدداً كبيراً من الدراسات في تاريخ بولندا والقبَّالاه وفي غير ذلك لأملأ الفراغات في تكويني الثقافي.

عند هذه اللحظة، أدركت أنني تركت مرحلة التفكيك بصورة تلقائية وانتقلت إلى مرحلة التركيب، وأنني لم أعد أفكك وحسب وإنما بدأت أطرح أسئلة وإشكاليات ومصطلحات ونماذج ومقولات تحليلية جديدة كان من شأنها تركيب تصوُّر جديد لتاريخ اليهودية ولأعضاء الجماعات اليهودية. وعلى هذا، فإن الموسوعة لم تعد موسوعة معلوماتية تحاول توفـير المعـلومات للقارئ، ولا حتى موسوعة تفكيكية تحاول أن تهدم النماذج القائمة، وإنما هي موسوعة تأسيسية. ولو كانت هذه الموسوعة موسوعة معلوماتية، لأصبح هذا العمل ضعف حجمه الحالي ولتم إنجازه في بضع سنوات، ولو كانت موسوعة تفكيكية وحسـب لنُشرت عام 1983 مع انتهاء السادة الباحثين الذين قدَّموا إسهاماتهم في موعدها، ولكنها موسوعة تأسيسية كما أسلفت.

دراسـة حـالة
«دراسة حالة» هي ترجمة لعبارة «كيس ستدي case study» الإنجليزية التي تعني دراسة الظواهر الإنسانية من خلال التحليل المتعمق لحالة فردية (قد يكون شخصاً أوجماعة أو حقبة تاريخية). ويفترض هذا المنهج أن الباحث يرى أن الحالة الفردية موضع الدراسة هي حالة ممثلة لحالات أخرى كثيرة (حالة نماذجية في مصطلحنا)، أي أنها جميعاً تنتمي لنفس النموذج. وهدف الدراسة هو الوصول لهذا النموذج متمثلاً بشكل متبلور في الحـالة عن طريق التحـليل المتعمق. وبعد الوصول إلى هذا النموذج يمكن تطبيقه على حالات أخرى تندرج تحته.

وهذه الموسوعة قامت بتطوير نماذج ثلاثة أساسية: الحلولية الكمونية الواحدية ـ العلمانية الشاملة ـ الجماعات الوظيفية، ثم حاولت تحديد معالم هذه النماذج، ثم قامت باختبارها عن طريق تطبيقها على حالة محددة هي الجماعات اليهودية في العالم منذ ظهورها على مسرح التاريخ حتى الوقت الحاضر.

ثلاثة نماذج أساسية: الحلولية - العلمانية الشاملة - الجماعة الوظيفية
يمكن القول بأن الأداة التحليلية الأساسية في هذه الموسوعة هي النموذج المعرفي التحليلي المركب الذي يبتعد عن الاختزالية والتفسيرات أحادية البُعد. فقد قمنا بصياغة نموذج مركب فضفاض يحاول أن يتناول الظواهر اليهودية والصهيونية في أبعادها السياسية والاقتصادية والحضارية والمعرفية، بل يشير إلى بعض العناصر التي قد يعجز هو ذاته عن تفسيرها. والنموذج التحليلي المركب الذي طورناه يتسم (في تصورنا) بأنه لا يتأرجح بحدة بين العمومية الشاملة والخصوصية المتطرفة (المتأيقنة) فهو نموذج على مستوى معقول من العمومية والخصوصية يرمي إلى وضع اليهود واليهودية والصهيونية، باعتبارهم حالة محددة، في سياق إنساني عالمي مقارن يضم كل البشر ويدرك إنسانيتنا المشتركة، حتى ندرك أن الحالة المحددة ليست شيئاً مطلقاً وإنما تنتمي إلى نمط إنساني عام ومجرد، ومع هذا يحاول النموذج التحليلي في الوقت نفسه ألا يهمل الملامح الفريدة والمنحنى الخاص للظواهر اليهودية والصهيونية. ولذا لم نقذف باليهود واليهودية والصهيونية في صحراء العمومية المُسطَّحة التي وضعهم فيها أصحاب النماذج التحليلية الموضوعية الملساء (ومن بينهم صهاينة يريدون تطبيع اليهود) الذين يرون اليهود باعتبارهم وحدات مادية، اقتصادية أو سياسية عامة، ليست لها ملامح متميِّزة ولا تتمتع بأية خصوصية. كما أننا لم نتركهم في جيتو الخصوصية اليهودية، المفاهيمي والمصطلحي، جيتو التفرُّد المطلق، والقداسة والدناسة، والطهارة والنجاسة، والاختيار والنبذ. ذلك الجيتو الذي وضعهم فيه أصحاب النماذج التحليلية من الصهاينة وأعداء اليهود الذين يرون اليهود باعتبارهم ظاهرة مستقلة، مكتفية بذاتها، تحوي داخلها كل أو معظم ما يكفي لتفسيرها. وانطلاقاً من هذا التصور تم تأسيس مخصصاً "علمياً" يُسمَّى «الدراسات اليهودية».

بدلاً من كل هذا، حاولنا أن ندخل الظواهر اليهودية والصهيونية المجال الرحب للعلوم الإنسانية وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجيا والتاريخ الإنساني، حيث يمكن من خلال نماذج مركبة رؤية علاقة الكل (العام) بالجزء (الخاص) دون أن يفقد أيٌّ منهما استقلاله وحدوده.

ولإنجاز كل هذا، قمنا بتفكيك مقولات مثل «اليهودي العالمي» و«اليهودي المطلق» و«اليهودي الخالص» و«المؤامرة اليهودية» و«التاريخ اليهودي» (... إلخ) لنبيِّن المفاهيم الكامنة فيها، فهي تفترض أن اليهود لا يتغيرون بتغير الزمان أو المكان، وحتى إن تغيَّروا فإن مثل هذا التغيُّر يحدث داخل إطار يهودي مقصور على اليهود داخل حركيات وآليات التاريخ اليهودي. وبيَّنا عجز مثل هذه المقولات عن تفسير الواقع بأن أشرنا إلى عدد كبير من العناصر التاريخية والاجتماعية والنفسية والثقافية والدينية التي لم تتعرض لها هذه المقولات لأنها تقع خارج نطاق مقدرتها التفسيرية. وبيَّنا أن هذه المقولات تتسم بالعمومية المفرطة (اليهود في كل زمان ومكان) والخصوصية المفرطة (اليهود وحدهم دون غيرهم). وأوضحنا كذلك أن من المستحيل أن نفهم سلوك اليهود، وآلامهم وأشواقهم وخيرهم وشرهم، من الداخل، أي بالعودة إلى كتبهم المقدَّسة (التوراة والتلمود) أو شبه المقدَّسة (القبَّالاه) أو غير المقدَّسة (البروتوكولات كما يزعم المعادون لليهودية) أو بالعودة إلى تصريحات الصهاينة وغيرهم.

ولذا، فإننا في سياق محاولة نحت نموذج تحليلي جديد مركب، لم نذهب إلى التوراة والتلمود والبروتوكولات وحارات الجيتو ولا إلى بقعـة جغــرافية معيَّنة أو لحظــة تاريخيــة بعينــها. وحــاولنا ألا نســتنيم لأية أطروحــات أو مســلمات عامــة (الصــراع العــربي الإسـرائيلي إن هو إلا صراع طبقي أو اقتصادي ـ العنصر الاقتصادي هو الذي يحرك كلاً من العرب واليهود ـ اليهود إن هم إلا بورجوازيون صغار ـ إسرائيل إن هي إلا قاعدة للاستعمار الغربي)، فدرسنا كل جماعة يهودية في سياقها السياسي والاقتصادي والتاريخي والحضاري والديني والإنساني المتعيِّن حتى نفهم العناصر التي تنفرد بها عن غيرها والعناصر التي توجد في كل الجماعات.

وقد وجدنا أن من الأجدى من الناحية التفسيرية، ألا نشير إلى اليهود في كل زمان ومكان باعتبارهم «اليهود» وحسب، وبشكل مجرد وكلي ومغلق، بل رأينا أن نشير إليهم باعتبارهم «أعضاء الجماعات اليهودية» في هذا المكان أو ذاك الزمان، وذلك حتى ينفتح الجيتو وحتى نستخدم مصطلحاً قادراً على التعامل مع كل الجوانب المتعددة والثرية للظواهر اليهودية. ونفس الشيء بالنسبة لمسألة «التاريخ اليهودي» الذي يصبح «تواريخ الجماعات اليهودية» و«الهوية اليهودية» التي تصبح «الهويات اليهودية» و«الجريمة اليهودية» التي تصبح «الجريمة بين أعضاء الجماعات اليهودية». فهذه الجماعات اليهودية يمكن أن نجدها في الصـين في القرن الرابع عشر أو في بولندا في القرن التاسـع عشـر أو في جنوب أفريقيا في القرن العشرين. وبينما تميل الدراسات الصهيونية (والمعادية لليهود) والمتأثرة بها إلى أن تؤكد عناصر التشابه بين هؤلاء، وجدنا أن من الأجدى أن نرصد كلاًّ من عناصر التشابه والتجانس والاختلاف وعدم التجانس ثم نرتب العناصر حسـب مقدرتها التفسيرية. ولقد وجدنا أن عنـاصر التشـابه والتجانـس، رغم أهميتها أحياناً، أقل أهمية من عناصر الاختلاف وعدم التجانس (ومن هنا صيغة الجمع).

ثم طورنا عدة نماذج لكل مستواه التعميمي وسياقاته ومستويات فعاليته، ولكنها مع هذا ينتظمها نموذج تحليلي مركب أكبر تلتقي من خلاله كل أو معظم النقط الأساسية:

1 ـ أول هذه النماذج هو نموذج الجماعات الوظيفية الذي طورناه لدراسة وضع الجماعات اليهودية في العالم الغربي ووضع الأقليات المماثلة في الحضارات الأخرى (الصينيون في جنوب شرق آسيا والهنود في أفريقيا... إلخ). أي أن دراسة الحالة هنا أخذت شكل دراسة أعضاء الجماعات اليهودية في إطار عِلم اجتماع الأقليات والجماعات التجارية الهامشية والجماعات الإثنية. وما يحدث لليهودي يحدث لكل أعضاء الأقليات (والجماعات الوظيفية) الأخرى، أي أن اليهودي يظهر باعتباره الإنسان عضو الأقلية الدينية أو الإثنية أو الوظيفية.

2 ـ اكتشفنا الحقيقة البديهية (والتي غابت عن الكثيرين): أن الظاهرة اليهودية ابتداءً من عصر النهضة في الغرب تحوَّلت تدريجياً إلى ظاهرة غربية بالدرجة الأولى، أي أن السياق الأساسي للجماعات اليهودية في العالم أصبح هو الحضارة الغربية الحديثة. وفي داخل هذا الإطار، اكتشفنا أن تجربة يهود بولندا هي أهم التجارب التاريخية للجماعات اليهودية سواء من ناحية الكم (الغالبية الساحقة من يهود العالم الغربي، مع نهاية القرن التاسع عشر، إما من بولندا أو من أصل بولندي) أو من ناحية الكيف والتطورات التاريخية اللاحقة. فالصهيونية هي حركة نشأت أساساً في صفوف يهود اليديشية، والتجربة الاستيطانية الصهيونية اللاحقة أكدت أهمية تجربة يهود الأرندا في أوكرانيا كممثلين لطبقة الشلاختا (النبلاء البولنديين) في إطار الإقطاع الاستيطاني في أوكرانيا وثورة شميلنكي ضد هذا الإقطاع.

لكن تاريخ الحضارة الغربية الحديثة منذ عصر النهضة، سواء في شرق أوربا أم خارجها، هو تاريخ التحديث والتغريب والعلمنة الجزئية والشاملة والمشاكل المرتبطة بظهور الدولة العلمانية القومية المركزية. وهذا التاريخ ليس تاريخ العلمنة وحسب وإنما هو أيضاً تاريخ الإمبريالية، فتاريخ التشكيل الحضاري الغربي الحديث هو أيضاً تاريخ التشكيل الإمبريالي الغربي الحديث. وقد ارتبطت الجماعات اليهودية في الغرب، منذ البداية، بالتشكيل الاستعماري الاستيطاني الغربي، وتحدَّد مسار هجرة أعضاء الجماعات اليهودية بحركة الاستيطان الغربي. كما أن رؤية الإنسان الغربي للعالم ولذاته وللجماعات اليهودية أصبحت رؤية علمانية إمبريالية. ومن هنا، كان لابد من توسيع نطاق النموذج ليشمل هذه الرؤية. وكان هذا يعني ضرورة تطوير نموذج آخر هو نموذج الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة، وهو نموذج أكثر اتساعاً من نموذج الجماعات الوظيفية وأكثر عمومية إذ لا يضع اليهود في سياق الأقليات وحسب وإنما في سياق التشكيل الحضاري الإمبريالي الغربي، وهو التشكيل الذي هيمـن على العـالم بأسره وضمنه أعضـاء الجماعات اليهودية. وقد طبقنا هذا النموذج على اليهود باعتبارهم حالة محددة: أقلية إثنية دينية تعيش في عصر العلمانية الشاملة. وهنا يظهر اليهودي باعتباره الإنسان الغربي الحديث، وما يحدث له (من اندماج ودمج وتدجين وتوظيف وتنميط وعلمنة وإبادة) هو ما يحدث للملايين من البشر في العصر الحديث. وهو إنسان يعيش في عصر أزمة الحداثة (ما بعد الحداثة).

3 ـ استخدمنا في دراستنا لتطور اليهودية نموذج الحلولية الكمـونية الواحدية مقابل نموذج التوحيد والتجاوز (الذي يفـترض وجـود ثنائية فضفاضة)، وبيَّنا أن الصراع بين النموذجين يشكل التوتر الأساسي في اليهودية (وفي كل الأديان). فهو تعبير عن تناقض إنساني أساسي يسم إنسانيتنا المشتركة، يأخذ شكل النزعة الجنينية (وهي الرغبة في فقدان الهوية والالتحام بالكل والتخلي عن الوعي وعن المسئولية الخلقية) في مقابل النزعة الإنسانية والربانية (وهي أن يؤكد الإنسان هويته الإنسانية المستقلة عن الطبيعة ويتحمل المسئولية الخلقية عن هذا الوضع).

ومن خلال نموذج الحلولية الكمونية هذا أرّخنا للعقيدة اليهودية ولتصاعد معدلات الحلولية الكمونية فيها إلى أن سيطرت القبَّالاه عليها تماماً. وهنا يظهر اليهودي باعتباره الإنسان ممثل الإنسانية المشتركة في واقعها المأساوي والملهاوي، وفي مقدرتها الهائلة على تجاوز عالم المادة وعلى الغوص فيه، وعلى الصعود إلى أعلى درجات النبل، وعلى الهبوط إلى أدنى درجات الخساسة.


النماذج الثلاثة الأساسية: استقلالها الواضح ووحدتها الكامنة
كل نموذج من النماذج الثلاثة الفرعية (الحلولية الكمونية ـ العلمانية الشاملة ـ الجماعة الوظيفية) له استقلاله عن النموذجين الأخرين، وكل سياق له آلياته وحركياته وسماته، ويتفاوت البُعد الزماني في النماذج الثلاثة، فهو أكثر وضوحاً في نموذج الجماعة الوظيفية، ويكاد يتلاشى في نموذج الحلولية، ولكن النماذج كلها مع هذا تتلاقى وتتقاطع. فسنجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية من حملة الرؤية الحلولية الكمونية الواحدية (الروحية/المادية). ولكن ثمة تقابلاً اختيارياً بين الحلولية والعلمانية الشاملة، كما أن عضو الجماعة الوظيفية إنسان وظيفي متحوسل ذو بُعد واحد، لذا سنجد أن أعضاء الجماعات الوظيفية هم عادةً من حملة الفكر العلماني الشامل (الحلولي الكموني الواحدي المادي) الذي يُترجم نفسه عادةً إلى رؤية إمبريالية.

والنقطة المشتركة بين كل هذه النماذج أنها واحدية تنكر التجاوز وتُلغي الثنائيات الفضفاضة والحيز الإنساني، فالحلولية الكمونية هي رؤية للواقع ترى أن الإله قد حل في العالم حتى أصبح الإله غير متجاوز للعالم متوحداً معه، ومن ثم أصبح الإله والطبيعة والإنسان شيئاً واحداً، أي أن ثنائيات: الخالق والمخلوق، والإنسان والطبيعة، والكل والجزء، والعام والخاص تم إلغاؤها لتظهر الواحدية الكونية المادية. والعلمانية (الشاملة) ترى أن العالم يحوي داخله ما يكفي لتفسيره وأنه لا حاجة لتجاوز هذا العالم الذي تسوده قوانين واحدة تسري على الطبيعة والإنسان، وهو ما يقضي على ثنائية الإنسان والطبيعة لتظهر الواحدية المادية (والإمبريالية بطبيعة الحال تنظر للعالم باعتباره مادة محضة يمكن للأقوى حوسلتها لصالحه، أي أنها هي الأخرى تدور في إطار شكل من أشكال الواحدية المادية التي نطلق عليها «الواحدية الذاتية الإمبريالية»). ويُعرَّف أعضاء الجماعات الوظيفية في ضوء وظيفتهم وحسب لا في ضوء إنسانيتهم المتعينة، ومن ثم فإن أبعادهم الإنسانية الأخرى يتم إنكارها لتظهر الواحدية الوظيفية. فثمة محور مشترك وسمة أساسية، وهي الواحدية الكاملة، والتي تتبدَّى على مستويات مختلفة. فالحلولية الكمونية تتبدَّى بالدرجة الأولى على المستوى الديني والمعرفي (الكلي والنهائي)، بينما تتبدَّى الجماعات الوظيفية أساساً على المستوى الاقتصادي والوظيفي، أما العلمانية والإمبريالية الشاملة فإنها تتبدَّى بشكل مكثف على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ولقد قلنا "بالدرجة الأولى" و"أساساً" و"بشكل مكثف" عن عمد، لأن كل نموذج يتبدَّى في واقع الأمر على كل المـستويات، وكل ما في الأمر أنه قد يتبدَّى بشـكل أكثر كثافة على مـستوى معيَّن دون المـستويات الأخرى. ولهذا، فقد احتفظنا بتعدد المستويات واستقلالها ومقدرتها التفسيرية ولكن مع تأكيد وحدتها على مستوى أعمق وهو المستوى المعرفي (الكلي والنهائي).

وكل النماذج الفرعية ـ كما أسلفنا ـ تنضوي تحت نموذج أكبر ووحدة أساسية كامنة فيها، إلا أننا أكدنا أن هذا النموذج الأكبر لا يتبدَّى بنفس الطريقة في كل زمان ومكان وفي جميع الحالات، فالنموذج مثل الإمكانية التي قد تتحقق، وقد لا تتحقق، وإن تحققت فإن ما يتحقق هو أجزاء وجوانب منها وحسب، ومن هنا فإن النموذج العام لا يُغني عن دراسة كل حالة على حدة. ولذا فإننا رغم حديثنا عن نموذج الجماعات الوظيفية اليهودية داخل الحضارة الغربية، أكدنا أن هذا النموذج لا يتطور بنفس الطريقة ولا يَطَّرد بنفس الأسلوب وعلى نفس المستوى من مرحلة زمانية لأخرى. ونحن ننبه دائماً إلى أن النموذج الذي طرحناه نموذج عام جداً، يصلح إطاراً تصورياً ذا قيمة تحليلية وتفسيرية كلية وحسب، ويظل التطور التاريخي نفسه مختلفاً ومليئاً بالتعرجات والنتوءات والمنحنيات الخاصة التي يتطلب رصدها وفهمها وتفسيرها جهداً إبداعياً خاصاً وإدراكاً للطبيعة الاحتمالية للنموذج التحليلي التفسيري.

ويمكن أن نُعرِّف دراسـتنا بأنها دراسـة لحالة محدَّدة هي اليهود واليهودية في الحضارة الغربية أساساً والصهيونية وإسرائيل، وهي دراسة تاريخية اجتماعية مقارنة تركز على العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين أعضاء الجماعات اليهودية (بما في ذلك المستوطن الصهيوني) من جهة، وأعضاء المجتمعات المختلفة من جهة أخرى، كما تركز على الأبعاد المعرفية لهذه العلاقات. لكن هذه الدراسة، رغم أنها دراسة حالة، إلا أنها دراسة لنماذج تحليلية مركبة ذات مقدرة تطبيقية تتجاوز الحالة موضع الدراسة، فهذه النماذج تتوجه لقضايا عامة مثل: علاقة الأقلية (خاصةً أعضاء الجماعات الوظيفية) بالأغلبية، وعلاقة الأقليات بالدولة القومية المركزية، وطبيعة الحضارة الغربية الحديثة، وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقة الحلولية بالتوحيد، وعلاقة الفكر بالمادة، وعلاقة الذات بالموضوع والصراع بين الواجدية (المادية) والثنائية الفضفاضة (استبعدنا أربعة مجلدات كانت تشكل الإطار النظري، وقمنا بتلخيصها في هذا المجلد، وسوف تَصدُر هذه المجلدات كموسوعة مستقلة بعنوان موسوعة العلمانية الشاملة بعد صدور هذه الموسوعة).

والجماعات اليهودية تشكل جماعات وظيفية مثل كل الجماعات الوظيفية الأخرى، لكن وجودها داخل الحضارة الغربية أعطاها تفرُّداً معيَّناً. وهي تتفاعل مع المجتمعات العلمانية ومع التشكيل الإمبريالي تفاعل الجماعات البشرية الأخرى، ولكنها نظراً لوضعها الخاص فإن تفاعلها مع العلمانية يأخذ شكلاً أكثر حدة. وهي جماعات تتنازعها النزعات الجنينية والربانية شـأنها شأن كل البشـر في كل زمان ومكان، لكن اليهودي هو الإنسـان في حالة ضيق متبلورة. وبسبب حالة الضيق هذه، تظهر كثير من أبعاد الظاهرة الإنسانية بشكل نماذجي متبلور من خلاله. وخصوصية الجماعات اليهودية، أو خصوصياتها التي تتنوع في كل زمان ومكان، هي خصوصيات لا تختلف عن خصوصيات الجماعات الأخرى، وإن كان هناك شيء فريد بالفعل فربما يكون متمثلاً في نوعية العناصر الإنسانية العامة التي تدخل في تشكيل الموضوع اليهودي وطريقة ترابطها. وهي عناصر تدخل في تشكيل كثير من الظواهر الإنسانية الأخرى وتترابط بطرق فريدة مختلفة!


هيكل الموسوعة
«هيكل الشيء» هو دعامته الأساسية الملموسة، فهيكل المنزل هو دعامته الخرسانية والهيكل العظمي هو دعامة الجسد. وتُطلق كلمة «هيكل» على الشكل الخارجي الذي يمكن معاينته. ويمكن القول بأن مصطلح «هيكل» يتداخل مع مصطلح «بنية»، فكلاهما يعبِّر عن طريقة أو منطق ترتيب الأشياء. ولكن بينما يتسم الهيكل بالوضوح فإن البنية تتسم بالكمون. وهيكل هذه الموسوعة هو تعبير عن نموذجها التفسيري. وقد قلنا عن هذه الموسوعة إنها «موسوعة تأسيسية» بمعنى أنها ليست موسوعة معلوماتية ولا موسوعة نقدية تفكيكية، فهي تطمح إلى أن تطرح نموذجاً تفسيرياً وتصنيفياً جديداً. ولهذا السبب، نجد أن الجزء النظري طويل نسبياً فلم يكن هنـاك مفر من إعادة تعريف كل المصطلحات. ولنفـس السـبب نجد أن تبويب الموسـوعة تم على أسـاس موضوعات. فقد رتبناها ترتيباً مختلفاً عن ترتيب الموسوعات العادية، لأن الترتيب الألفبائي يعني أن القارئ عارف بالمصطلحات والشخصيات، أو أنه يقابل مصطلحاً جديداً أو شخصية جديدة ويريد المزيد من المعلومات عنها. أما الترتيب حسب موضوعات، فإنه يعني أن القارئ لابد أن يتدرج مع الموسوعة من الإ�
لسوفيتية والمشاكل المادية والمعنوية التي قابلوها. كما توجد عدة مداخل أخرى عن أنواع يهود الاتحاد السوفيتي (القراءون ـ الكرمشاك ـ الجورجيون ـ يهود اليديشية ـ يهود الجبال ـ يهود بخارى.. إلخ). وتضم الموسوعة أيضاً مداخل عن موقف ماركس وإنجلز والبلاشفة من المسألة اليهودية، وعلاقة اليهود بالفكر الاشتراكي، وتطور الرأسمالية الغربية، وتطور العلمانية.

6 ـ تقوم الموسوعة باستخدام النماذج التحليلية. والنماذج هي ثمرة عملية تجريد بحيث يمكن النظر للظاهرة في علاقتها بظواهر أخرى مماثلة. وهذه قضية في غاية الأهمية في حالة دراسة اليهود، إذ يمكن من خلال النماذج التحليلية الخروج بالظواهر اليهودية من جيتو التفرُّد (الصهيوني المعادي لليهود واليهودية) بحيث يتم ربطها بظواهر مماثلة. فاشتغال اليهود بالتجارة في الحضارة الغربية يتم ربطه باشتغال الصينيين بالتجارة في جنوب شرق آسيا، وظاهرة اليهود المتخفين (المارانو) في شبه جزيرة أيبريا يتم ربطها بظاهرة المسلمين المتخفين (الموريسكيين). ونحن بذلك لا نَسقُط في أية عنصرية تفسيرية أو فعلية، كما أننا نبيِّن بذلك أن اليهود بشر وأن مفهوم الإنسانية المشتركة مفهوم له مقدرة تفسيرية.

7 ـ طوَّرت الموسوعة مفهوم الجماعات الوظيفية باعتبارها مفهوماً تحليلياً مركباً، كما بيَّنت أهمية الدور الوظيفي للجماعات اليهودية وإدراك الجماعات اليهودية باعتبارها وظيفة تُؤدَّى ودوراً يُلعَب داخل مجتمع الأغلبية. ومن خلال هذا المفهوم، أمكن لنا أن ندرك الاستمرارية بين المفهوم الغربي لليهود باعتبارهم جماعات وظيفية وبين الرؤية الغربية للدولة الصهيونية باعتبارها دولة وظيفية (قاعدة للاستعمار الغربي وحليفاً إستراتيجياً له). وأبرز لنا هذا المفهـوم التحـليلي الأهـمية التاريخـية لتجربة أعضـاء الجـماعات اليهودية في بولندا في إطار الإقطاع الاستيطاني.

8 ـ طوَّرت الموسوعة نموذج الرؤية العلمانية الإمبريالية الشاملة كنموذج تفسيري شامل، وبيَّنت العلاقة بين العلمنة الشاملة والإمبريالية وأثر كل هذا على الجماعات الوظيفية في الغرب والعالم.

9 ـ طوَّرت الموسوعة نموذج الحلولية الكمونية الواحديةكنموذج تفسيري. وفي ضوء هذا، أعدنا كتابة تاريخ اليهودية وتاريخ أعضاء الجماعات اليهودية وبيَّنا الأهمية المحورية لظهور القبَّالاه (باعتبارها نسقاً غنوصياً حلولياً كمونياً متطرفاً).


10 ـ أبرزت الموسوعة التمييز البديهي بين اليهود واليهودية، أي التمييز بين المثالي والمعياري من جهة، والفعلي والمتحقق من جهة أخرى؛ بين أحلام البشر وأشواقهم من جهة، وأدائهم وواقعهم من جهة أخرى.

11 ـ تميِّز الموسوعة بين التاريخ المقدَّس الذي ورد في العهد القديم والتاريخ الزمني الذي يعيش في إطاره أعضاء الجماعات اليهودية. وانطلاقاً من هذا، بيَّنا أنه لا يوجد تاريخ يهودي عام وعالمي مستقل عن تواريخ البشر. ومن ثم، حاولت الموسوعة أن تُعيد كتابة تواريخ أعضاء الجماعات اليهودية بطريقة أكثر تركيبية وتفسيرية، ومن ثم أكثر إنسانية عما كُتب من تواريخ اختزالية. وحاولنا أن نُبيِّن أنه لا يوجد تاريخ ليهود مصر بمعزل عن تاريخ مصر، ولا تاريخ ليهود بابل بمعزل عن تاريخ بابل، ولا تاريخ ليهود الولايات المتحدة بمعزل عن تاريخ بلدهم.

12 ـ تُبيِّن الموسوعة أنه لا يوجد تاريخ للصهيونية مستقل عن تاريخ الحضارة الغربية الحديثة، ولا تاريخ للصهيونية غير اليهودية منفصل عن تاريخ الصهيونية بين اليهود، ولا تاريخ للصهيونية منفصل عن تاريخ العداء لليهود، ولا تاريخ للفكر اليهودي الغربي بمعزل عن تاريخ الفكر الغربي. ورغم إدراكنا للوحدة النهائية، إلا أننا طوَّرنا مفهوماً للوحدة الفضفاضة لا يَجُبُّ استقلالية كل ظاهرة عن الأخرى.

13 ـ حاولت الموسوعة ضبط المستوى التعميمي والتخصيصي، فقامت بتأكيد البُعد الإنساني العام في الظواهر اليهودية، ذلك البُعد الذي تحرص الدراسات الصهيونية والمعادية لليهودية على إخفائه، وحاولت أن تبتعد عن الأيقنة وتأكيد الخصوصية والتفرُّد (الذي تحرص الدراسات الصهيونية والمعادية لليهودية على إبرازه). ولكنها، في الوقت نفسه، لم تسقط في التعميم الذي يُفقد الظاهرة ملامحها وقسماتها ومنحناها الخاص. وقد بيَّنا أن هذا الخطاب التحليلي السائد في تلك الدراسات التي تُعنَى باليهود واليهودية والصهيونية يتأرجح بين التعميم الشديد والتخصيص الشديد. فالإبادة النازية لليهود إن هي إلا تعبير عن نمط متكرر عام هو العداء الأزلي لليهود من قبَل الأغيار. ويمكن أيضاً المغالاة في التخصيص، فيُقال إن الإبادة النازية لليهود إن هي إلا جريمة ألمانية خالصة ضد اليهود وحدهم. وذهبنا في هذا إلى أن الإبادة النازية لحظة نماذجية فريدة ولكنها تعبير عن نمط عام هو استخدام الإبادة (بصورة عامة) من قبَل التشكيل الإمبريالي الغربي كآلية إمبريالية لإعادة صياغة العالم ونقل الفائض السكاني الغربي خارج القارة الأوربية وإحلاله محل العناصر البشرية التي تتم إبادتها. ولذا فإن إبادة اليهود على يد النازيين تشبه إبادة سكان أمريكا الأصليين على يد المستوطنين البيض ولا تختلف كثيراً عن المشروع الصهيوني الذي كان يهدف إلى نقل الفائض السـكاني اليهودي خارج القارة الأوربية وتوطينه في فلسـطين ليحل محل الفلسـطينيين الذين يتم طردهم وإبادتهم أحياناً. ومع هذا، فالإبادة النازية لها خصوصيتها إذ أنها عملية الإبادة الوحيدة التي تمت داخل أوربا وليس خارجها، على عكس عمليات الإبادة الأخرى. كما أنها تمت بمنهجية صارمة لم تتسم بها عمليات الإبادة الأخرى.

14 ـ من خلال نموذج الحلولية، تحاول الموسوعة أن تطرح أساساً جديداً لعلم مقارنة الأديان يبتعد عن الرصد البراني للشعائر والعقائد ويحاول أن يصل للنماذج الكامنة التي تبين الاختلاف حين يُظَن الاتفاق، والاتفاق حين يُظَن الاختلاف. ففي ضوء نموذج الحلولية الكمونية أمكن إعادة تحديد علاقة اليهودية بالمسيحية، كما أمكن إعادة تعريف العلاقة بين المسيحية واليهودية والإسلام بحيث يتضح التقارب بين المسيحية والإسلام (والتباعد بين الإسلام واليهودية) على عكس ما هو مُتصوَر في كثير من الدراسات. وتحاول الموسوعة تفسير ظاهرة الإصلاح الديني (وما صاحبها من حركات صوفية متطرفة) باعتبارها تعبيراً عن تزايد معدلات الحلولية الكمونية ومن ثم تصاعد معدلات العلمنة. وبهذه الطريقة، أمكن الربط بين البروتستانتية والإنسانية الهيومانية رغم تعارضهما الظاهر.

15 ـ ارتبط بهذا تطوير مصطلحات جديدة تعبِّر عن مفاهيم جديدة. فبدلاً من «الصهيونية العالمية» نتحدث عن «الصهيونيتين (التوطينية والاستيطانية)» و«العلمانيتين (الجزئية والشاملة)». ويُلاحَظ أن المصطلحات المُستخدَمة في حقل الدراسات التي تُعنَى باليهود واليهودية والصهيونية تُجسِّد التحيزات الصهيونية والغربية، ولذا فقد تم إحلال مصطلحات أكثر حياداً محلها؛ فتم مثلاً استبعاد مصطلح مثل «الشعب اليهودي» الذي يفترض أن اليهود يشكلون وحدة عرقية ودينية وحضارية متكاملة (الأمر الذي يتنافى مع الواقع) ليحلّ محله مصطلح «الجماعات اليهودية»، وبدلاً من كلمة «الشتات» استُخدمت العبارة المحايدة «أنحاء العالم»، وبدلاً من «التاريخ اليهودي» تشير الموسوعة إلى «تواريخ الجماعات اليهودية». والمصطلحات البديلة ليست أكثر حياداً وحسب وإنما أكثر دقة وتفسيرية.

16 ـ حاولت الموسوعة أن توضح أن المؤشرات لا تشير بالضرورة إلى ما هو مُتَعارَف عليه في الأوساط العلمية. فهجرة يهودي إلى إسرائيل ليست بالضرورة تعبيراً عن انتمائه الصهيوني، وبناء معبد يهودي لا يعني بالضرورة تزايد معدلات التمسك بالعقيدة اليهودية.

17 ـ والعناصر السابقة، رغم أنها مرتبطة أساساً بحقل الدراسات الخاصة باليهود واليهودية، إلا أن تعميمها على حقول معرفية أخرى أمر ممكن، فقضية النماذج الاختزالية في مقابل النماذج المركبة يواجهها كل الدارسين في حقل الدراسات الإنسانية.

18ـ من خلال نموذج الحلولية، حاولت الموسوعة أن تُلقي أضواء جديدة على تاريخ العلمنة والعلمانية الشاملة وعلى تَطوُّر الحضارة الغربية الحديثة (من التحديث والحداثة إلى ما بعد الحداثة) ودور الترشيد (في الإطار المادي). وطرحت الموسوعة فكرة التراكم الإمبريالي بدلاً من التراكم الرأسمالي.

19ـ تحاول الموسوعة أن تبيِّن علاقة مفهوم الحلولية بمقولة التجاوز والإنسانية المشتركة (باعتبار الإنسان مقولة متجاوزة للطبيعـة/المــادة رغـم أنهـا تتبــدى من خــلالها، وباعـتبار ثنـائية الإنسان والطبيعة صـدى لثنائية الخـالق والمخـلوق وتعبير عن نموذج التوحيد). كما تحاول أن تبيِّن الدلالات المعرفية والإمكانات البحثية لهذه العلاقة.

20ـ تحاول الموسوعة أن تشـرح مفهـوم المسـافة (الحـيز الإنســاني) التـي تفصل الخالق عن المخلوق (والدال عن المدلول، والكل عن الجزء، والمطلق عن النسبي، والنموذجي عن الواقع). وأن تطرح حلاًّ لمشكلة القيمة في العلوم الاجتماعية؛ فالقيمة الأخلاقية معيارية ومثالية يحتكم إليها الفاعل الإنساني ولكنها لا تتجسد بالضرورة في الواقع، ومن ثم فهي لا تخضع للبحث الإمبريقي رغم تبدِّيها في سلوك الناس وطموحاتهم وأشواقهم.

21 ـ حاولت الموسوعة أن تطرح طرقاً جديدة للتعريف وإعادة التعريف: «التعريف من خلال دراسة الحقل الدلالي لمجموعة من المصطلحات المتداخلة المتشابكة» و«التعريف من خلال التفكيك وإعادة التركيب في ضوء الثوابت البنيوية والمسلمات الكامنة».

22 ـ بل تحاول الموسـوعة توسيع نطاق علم الاجتماع من خلال ربطه بمسـتويات جديدة من الوعي والنشـاط الإنساني، بحيث لا يُستبعَد المجهول ويبقى المعلوم، ولا يُستبعَد المعرفي (الكلي والنهائي) ويبقى السياسي والاقتصادي والملموس، ولا يُستبعَد الإنساني المركب ويبقى المادي الواحدي.

23 ـ تحاول الموسوعة أن تستعيد الفاعل الإنساني وتركيبيته، وأحد العناصر الأساسية هنا هو الإنسانية المشتركة (كبديل لمفهوم الطبيعة البشرية الجامد والإنسانية الواحدة). وتقترح الموسوعة إمكانية توليد معيارية من هذه الإنسانية المشتركة وتذهب إلى أن رفض العلوم الإنسانية الغربية لمفهوم الإنسانية المشتركة والثوابت الإنسانية العالمية أدَّى بها إلى السقوط في النسبية والسيولة والعمومية وأخيراً العدمية.

24 ـ تطرح هذه الموسوعة نفسها كمحاولة أولية لإعادة تأسيس أحد حقول الدراسة (دراسة اليهود واليهودية والصهيونية) انطلاقاً من رؤية عربية إسلامية. ونحن نذهب إلى أنه يمكن محاكاتها أو الاستفادة منها في محاولة تأسيس علوم إنسانية عربية بشكل منهجي. والموسوعة، كشكل من أشكال التأليف، تحاول تغطية المصطلحات والمفاهيم والأعلام في تخصص ما. وتحاول الموسوعة (في جانبها التفكيكي) أن تقوم بتفكيك المفاهيم السائدة، وهي في أغلب الأحيان مفاهيم غربية، ثم تحاول بعد ذلك (في جانبها التأسيسي) تأسيس نماذج تحليلية تتفرع عنها مفاهيم ومصطلحات نابعة من التجربة العربية والإسلامية، ومن زاوية رؤيتنا.

25 ـ يمكن القول بأن الموسوعة ككل هي موسوعة كتبها مؤلف يشعر أن الحداثة الغربية( التي تدور في إطار العقلانية واللاعقلانية المادية والعلمانية الشاملة) قد أدخلت الجنس البشري بأسره في طريق مسدود. وتطرح الموسوعة أسئلة معرفية (كلية ونهائية): ماذا يحدث للإنسان في عالم بدون إله؟ وماذا يحدث للإنسان في عالم نسبي لا توجد فيه ثوابت ولا مطلقات ولا قيم عالمية؟ وماذا يحدث للإنسان في عالم توجد فيه حقائق بلا حقيقة ولا حق؟ وما هو مصير الإنسان في عالم انفصل فيه العلم عن القيمة وعن الغائية الإنسانية؟. واليهودي الذي تم تهجيره إلى إسرائيل تحت مظلة الإمبريالية الغربية وتم تحويله إلى شخصية داروينية شرسة حتى يتسنى توظيفه في خدمتها، والذي تتم إبادته في ألمانيا النازية بطريقة منهجية، وتم دمجه في الحضارة الاستهلاكية حتى لم يبق من ماضيه وهويته سوى القشور وتم قمعه وترشيده من الداخل والخارج: أليس هذا اليهودي مثلاً صارخاً لما يحدث للإنسان في عصر الحداثة والعقلانية واللاعقلانية المادية؟ ومن هنا، فإن الموسوعة تطالب بالبحث عن حداثة جديدة لا تنتهي إلى موت الإنسان والطبيعة بعد أن أعلنت بصلف وخيلاء موت الإله.

26ـ ومع أن الموسـوعة حاولت إنجاز الكثير، إلا أن ما تقدمه هو أساساً برنامج بحثي وطرح لأسـئلة وإثارة لإشكاليات، أي أنها ورقة عمل بشأن الموضوعات التي تناولتها أكثر من كونها إجابات محدَّدة. وقد حاولنا أن نُحدِّد بعض معالم الإجابات وأن نوضح المنهج الذي استخدمناه في الوصول إلى هذه الإجابات. ومع هذا، تظل الموسوعة في نهاية الأمر جدول عمل، أي اجتهاداً أولياً.

وبقية مداخل هذا المجلد هو محاولة توضيح الإطار النظري الذي تنطلق منه الموسوعة فيتناول الجزء الأول الأساس الفلسفي، فنتناول المفردات الأساسية التي نستخدمها انطلاقاً من نموذجنا التحليلي، وما نسميه «إشكالية الإنساني والطبيعي والموضوعي والذاتي». أما الجزء الثاني فيتناول النموذج كأداة تحليلية. وتتناول بقية الأجزاء (الثاني والثالث والرابع) النماذج الأساسية الثلاثة المستخدمة في الموسوعة: الحلولية ـ العلمانية الشاملة ـ الجماعات الوظيفية. وبقية مجلدات الموسوعة هي محاولة لتطبيق هذا الإطار النظري على حالة محددة هي حالة اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل.


الباب الثانى: مفـردات


المرجعية النهائية، المتجاوزة والكامنة

كلمة «مرجع» من «رجع» بمعنى «عاد». يُقال «رجع فلان من سفره» أي «عاد منه»، و«المرجع» هو «محل الرجوع» وهو «الأصل». وفي التنزيل العزيز "إلى الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون" (المائدة 105 ) . ومن هنا كلمة «مرجعية» التي تعني الفكرة الجوهرية التي تشكل أساس كل الأفكار في نموذج معين والركيزة النهائية الثابتة له التي لا يمكن أن تقوم رؤية العالم دونها (فهي ميتافيزيقا النموذج). والمبدأ الواحد الذي تُردّ إليه كل الأشياء وتُنسَب إليه ولا يُردّ هو أو يُنسَب إليها. ومن هنا، يمكن القول بأن المرجعية هي المطلق المكتفي بذاته الذي يتجاوز كل الأفراد والأشياء والظواهر وهو الذي يمنح العالم تماسكه ونظامه ومعناه ويحدد حلاله وحرامه. وعادةً ما نتحدث عن المرجعية النهائية باعتبار أنها أعلى مستويات التجريد، تتجاوز كل شيء ولا يتجاوزها شيء. ويمكننا الحديث عن مرجعيتين: مرجعية نهائية متجاوزة ومرجعية نهائية كامنة.

1 ـ المرجعية النهائية المتجاوزة:

المرجعية النهائية يمكن أن تكون نقطة خارج عالم الطبيعة متجاوزة لها وهي ما نسميها «المرجعية المتجاوزة» (للطبيعة والتاريخ والإنسان). هذه النقطة المرجعية المتجاوزة، في النظم التوحيدية، هي الإله الواحد المنزَّه عن الطبيعية والتاريخ، الذي يحركهما ولا يحل فيهما ولا يمكن أن يُردَّ إليهما. ووجوده هو ضمان أن المسافة التي تفصل الإنسان عن الطبيعة لن تُختَزل ولن تُلغى. فالإنسان قد خلقه الله ونفخ فيه من روحه وكرَّمه واستأمنه على العالم واستخلفه فيه، أي أن الإنسان أصبح في مركز الكون بعد أن حمل عبء الأمانة والاستخلاف. كل هذا يعني أن الإنسان يحوي داخله بشكل مطلق الرغبة في التجاوز ورفض الذوبان في الطبيعة، ولذا فهو يظل مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي. كما أنه يعني أن إنسانية الإنسان وجوهره الإنساني مرتبط تمام الارتباط بالعنصر الرباني فيه. ومع هذا فبإمكان النظم الإنسانية الهيومانية (التي لا تعترف بالضرورة بوجود الإله) أن تجعل الإنسان مركز الكون المستقل القادر على تجاوزه ومن ثم تصبح له أسبقية على الطبيعة/المادة.

2 ـ المرجعية النهائية الكامنة:

يمكن أن تكون المرجعية النهائية كامنة في العالم (الطبيعة أو الإنسان)، ومن هنا تسميتنا لها بالمرجعية الكامنة. وفي إطار المرجعية الكامنة، يُنْظر للعالم باعتبار أنه يحوي داخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللجوء إلى أي شيء خارج النظام الطبيعي. ولذا، لابد أن تسيطر الواحدية (المادية)، وإن ظهرت ثنائيات فهي مؤقتة يتم محوها في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، ففي إطار المرجعية الكامنة لا يوجد سوى جوهر واحد في الكون، مادة واحدة يتكون منها كل شيء، وضمن ذلك المركز الكامن نفسه (ومن هنا إشارتنا أحياناً إلى «المرجعية النهائية الكامنة» باعتبارها «المرجعية الكامنة المادية» أو «المرجعية الواحدية المادية»). ونحن نذهب إلى أن كل النظم المادية تدور في إطار المرجعية الكامنة، ومن هنا إشـارتنا إلى المادية باعتبارها وحدة الوجود المادية.

وفي إطار المرجعية المادية الكامنة، فإن الإنسان كائن طبيعي وليس مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي، وإنما هو مُستوعَب تماماً فيه، ويسقط تماماً في قبضة الصيرورة، فتسقط المرجعية الإنسانية وتصبح الطبيعة/المادة هي المرجعية الوحيدة النهائية.

ويذهب دعاة المرجعية المادية الكامنة إلى أن رغبة الإنسان في التجاوز رغبة غير طبيعية، ومن ثم غير إنسانية (باعتبار أن الطبيعي والإنساني مترادفان)، وإلى أن الأجدر بالإنسان أن يذوب في الكل الطبيعي بحيث يظهر الإنسان الطبيعي. وبهذا المعنى، فإن المرجعية الكمونية المادية تشكل هجوماً على الإنسان ككيان حر مستقل عن الطبيعة/المادة وعلى مركزيته في الكون.

وقد وُصفت الوثنية بأنها محاولة إنزال الآلهة من السماء إلى الأرض (وإدخالها في نطاق المرجعية المادية الكامنة) بحيث تخضع لقوانين الأرض الطبيعية/المادية، ومن ثم يخضع الإنسان هو الآخر لهذه القوانين، إذ كيف يمكنه تجاوزها إذا كانت الآلهة نفسها خاضعة لها؛ مستوعَبة تماماً في الواحدية المادية الكونية؟ (والنزعة الوثنية لا تختلف في هذا عن النزعات العلمانية المادية الطبيعية التي ترجع كل شيء إلى الطبيعة/المادة وتنكر أي إمكانية للتجاوز الإنساني). أما الديانات التوحيدية، فهي نوع من محاولة الصعود بالإنسان إلى الإله في السماء (وإدخاله في نطاق المرجعية المتجاوزة). فالإنسان، بما فيه من رغبة في التجاوز، له قانون خاص ووجود مستقل عن المادة وعن الطبيعة. ومن ثم تُطرح أمام الإنسان إمكانية أن يعبِّر عما بداخله من طاقات غير مادية (ربانية إن شئت)، وأن يتجاوز قوانين الطبيعة والمادة ويحقق القانون الإلهي (أو الجوهر الإنساني) المختلف عن القانون المادي الطبيعي.

الرد (رد إلى)
«ردَّ الشيء» أي «حوَّله من صفة إلى صفة»، و«ردَّ الشيء إلى الشيء» «أرجعه إليه». والرد في اصطلاح الفلاسفة إرجاع الشيء إلى ما نتصور أنه عناصر أساسية وتخليته من العناصر الغريبة عنه. كأن نقول "رد المذهب إلى نقاطه الأساسية". وفي إطار المرجعية المادية الكامنة يتم رد كل الظواهر إلى المركز الكامن في الكون وهو الطبيعة/المادة وهو ما يؤدي إلى هيمنة الواحدية المادية، على عكس المرجعية المتجاوزة إذ لا يمكن رد الإنسان في كليته إلى شيء كامن في الكون، فهو يحوي داخله النزعة الربانية. وأية عملية تفسيرية تحليلية تتضمن عملية رد، إذ تُردَّ التفاصيل الكثيرة الظاهرة إلى الوحدة الكامنة غير الظاهرة.

المسافة والحدود والحيز الإنسانى
«المسافة» هي «البُعْد» وهي أيضاً «المساحة»، وقد تُستخدَم في الزمان فيُقال «مسافة يوم أو شهر». والمسافة مرتبطة تمام الارتباط بفكرة الحدود. والحد في اللغة يعني «المنع والفصل بين الشيئين»، و«منتهى كل شيء» هو «حده» (المعنى الأنطولوجي). والحد هو أيضاً تأديب المذنب كقولنا: «طُبِّقَ عليه الحد»، و«حدود الله تعالى» هي الأشياء التي بيَّن حرامها وحلالها (المعنى الأخلاقي). و«الحد» هو «التعريف الكامل» أو «تحليل تام لمفهوم اللفظ المراد تعريفه»، و«حد الشيء» هو «الوصف المحيط بمعناه المميَّز له عن غيره» (المعنى الدلالي). وأخيراً «حدّ الشيء» هو مصدر تميُّزه وهويته (المعنى النفسي). فكأن الحدود مرتبطة كل الارتباط بوجود الشيء وبمضمونه الأخلاقي وبإمكانية معرفته ودلالته وهويته.

ونحن نذهب في هذه الموسوعة إلى أن المنظومات المعرفية التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة (مثل العقائد التوحيدية) نظم تحتفظ بالحدود الفاصلة بين الخالق العلي المتجاوز ومخلوقاته، فهو مركز النموذج المفارق والمتجاوز له. ولذا، تظل المسافة والحدود قائمة بين الخالق والمخلوق لا يمكن اختزالها مهما كانت درجة اقتراب المؤمن من الإله. ومن هـنا، لا يمكن في الإطار التوحيدي أن "يصل" المتصـوف إلى الالتصاق بالإله أو الاتحاد به، فثمة مسافة جوهرية ثابتة. ولذا، فإن رسول الله نفسه (صلى الله عليه وسلم) لم "يصل"، بل ظل قاب قوسين أو أدنى في أقصى حالات الاقتراب. وهذا ما سماه أحد الفقهاء «البينية»، أي وجود حيز "بين" الخالق والمخلوق.

ووجود الحدود بين الخالق والمخلوق يعني أن المخلوق له حدوده لا يتجاوزها، ولكنها تعني أيضاً أنه له حيزه الإنساني المستقل، ولذا يظل الإنسان صاحب هوية محددة وجوهر مستقل، ومن ثم فهو كائن حر مسئول.

والمسافة بين الخالق والمخلوق يمكن أن تصبح ثغرة أو هوة إن ابتعد المخلوق عن خالقه وانعزل عنه ونسي خصائصه الإنسانية (المرتبطة بأصله الرباني) التي تميزه عن بقية الكائنات. ولكن إن حاول الإنسان التفاعل مع الإله وتذكَّر أصوله وأبعاده الربانية التي تميزه عن الكائنات الطبيعية، فإن المسافة تتحول إلى مجال للتفاعل ويصبح الإنسان نفسه كائناً مُستخلَفاً في الأرض يشغل المركز، وذلك بسبب القبس الإلهي داخله وبسبب تفاعله مع الخالق.

أما في المنظومات التي تدور في إطار المرجعية الكامنة (مثل النظم الحلولية)، يحاول المخلوق، أي الإنسان، أن يضيِّق المسافة بينه وبين الخالق تدريجياً إلى أن يصل إلى الإله ويلتصق به ثم يتوحد معه، وبذا يصل إلى مرحلة وحدة الوجود حين يصبح المركز كامناً في الإنسان وفي كل المخلوقات وفي العالم المادي، إذ تُلغى المسافة بين الخالق ومخلوقاته ويختفي الحيز الإنساني ويصبح الخالق ومخلوقاته واحداً، ويُردُّ الكون بأسره إلى مبدأ واحد فتُلغى المسافات وتُسد الثغرات، ويصبح الكون كياناً عضوياً صلباً (أو ذرياً مفتتاً) تسوده الواحدية المادية. وهنا يصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة ليس له ما يميِّزه عن بقية الكائنات، وتضيع الحدود بين الخير والشر وبين الدال والمدلول.

المركز
كلمة «المركز» من فعل «ركز»، ويقال " ركز السهم في الأرض " بمعنى «غرزه» و«ركز الله المعادن في الأرض أو الجبال» بمعنى «أوجدها في باطنها». و«المركز» هو «المقر الثابت الذي تتشعب منه الفروع»، و«مركز الدائرة» هو نقطة داخل الدائرة، تتساوى الشعاعات الخارجة منها إلى المحيط. ونحن نستخدم كلمة «مركز» في هذه الموسوعة بمعنى: مطلق مكتف بذاته، لا يُنسَب لغيره، واجب الوجود، لا يمكن أن تقوم رؤية للعالم بدونه. وفي إطار المرجعية المتجاوزة، فإن مركز الكون متجاوز للكون منزَّه عنه، أما في إطار المرجعية المادية الكامنة فمركز الكون كامن فيه. والمركز عادةً موضع الكمون والحلول أو النقطة التي تتحقق فيها أعلى درجاته، ومن ثم فإن العنصر (المادي) الذي يشغل المركز في المنظومات الكمونية تكون له أسبقية على بقية العناصر.

المبدأ الواحد
«المبدأ الواحد» عبارة تتواتر في هذه الموسوعة وتشير في المنظومات الحلولية الكمونية الواحدية (الروحية والمادية) إلى مصدر وحدة الكون وتماسكه وهو القوة الدافعة التي تضبط وجوده، قوة سارية في الأجسام، كامنة فيها، وتتخلل ثناياها وتضبط وجودها، قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلو عليها أحد. وهي النظام الضروري الكلي للأشياء؛ نظام ليس فوق الطبيعة وحسب، ولكنه فوق الإنسان أيضاً، لا يمنحه أو أي كائن آخر أية أهمية خاصة. هذه القوة قد يجسدها الموجود ويصل إلى كماله الطبيعي من خلالها، ولكنها هي أيضاً قوة غير متعينة لا تكترث بالتمايز الفردي. وهذه القوة يسميها دعاة وحدة الوجود الروحية «الإله»، بينما يطلق عليها دعاة وحدة الوجود المادية «قوانين الحركة»، أو أية عبارات أخرى. وحيث إن المبدأ الواحد كامن في الظواهر الطبيعية فنحن نشير إليه أحياناً باعتباره «المبدأ المادي الواحد». والمبدأ الواحد هو عادةً مركز النسق، وهو يأخذ أشكالاً مختلفة أهمها «الطبيعة/المادة»، وتنويعات أخرى عليها نسميها «المطلقات العلمانية».

المعنى والهدف والغاية
«المعنى» هو «ما يُقصَد بشيء»، و«معنى الكلام» فحواه ومضمونه وما يدل عليه القول أو اللفظ أو الرمز أو الإشـارة. ومن هنا تُستخدَم عبارة «معنى الوجود» أو «معنى الحياة»، أي أن الوجود له هدف وغاية (باليونانية: تيلوس)، و«الغائية» هي الإيمان بأن العالم له معنى وغاية (وعكسها هو «العدمية»)، وهذا ما تفترضه الديانات التوحيدية ("ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك" آل عمران 191) فإن كان للوجود معنى، فحياة كل إنسان لها معنى، ولا يمكن تصوُّر معنى لعالم تسود فيه الصدفة، وتتم عملية خلقه بالصدفة المحضة، أو تكون حركته حركة مادية آلية مثل حركات الذرة. فإذا كانت حركة الإنسان هي نفسها حركة المادة، وكانت حركة المادة حتمية وتتم خارج وعي الإنسان وخارج أية غائية إنسانية، فإن كل ما يحدث سيحدث، ولا يمكن أن تنطبق عليه معايير خارجة عنه، أي أن كل الأمور تصبح نسبية بل حتمية وتتم تسوية الإنسان بالأشياء. والعلم الطبيعي الذي يتعامل مع الأشياء أو مع الإنسان بمنطق الأشياء ينتج معرفة منفصلة عن القيم الأخلاقية، بل إن تَقدُّم العلم مرتبط تمام الارتباط بانفصاله عن القيمة والغائية (إلى أن تنفصل النزعة التجريبية عن النزعة العقلانية تماماً). ومن هنا التمييز بين «المعنوي» و«المادي»، فالمعنوي مرتبط بالهدف والغاية وهما يتجاوزان المادة، أما المادي فلا هدف له ولا غاية. ونلاحِظ أنه في الحضارات المادية (سواء الوثنية القديمة أو العلمانية الحديثة) التي تعلي شأن المادة وترى أسبقيتها على الإنسان، أي ترى أسبقية المادي على المعنوي، يظهر ما يُسمَّى «أزمة المعنى» التي يعبَّر عنها بتعبيرات مثل «الاغتراب» أو «اللامعيارية (الأنومي)» و«التشيؤ» و«التسلع» وغيرها. ويعبِّر الأدب الحداثي عن أزمة المعنى التي يواجهها الإنسان الغربي.

ويُلاحَظ أن النسبية الحديثة تأخذ شكلاً جديداً تماماً، فهي لا تنكر إمكانية الوصول إلى المعنى، وإنما تطرح إمكانية الوصول إلى معان كثيرة كلها متساوية في الشرعية. وهي تنكر من ثم فكرة الحقيقة الكلية، فالكل بطبيعته، مادياً كان أم روحياً متجاوز للأجزاء، ومن ثم يشير إلى ما وراء الأجزاء وما وراء المادة. فوجود الكل المتجاوز للأجزاء يعني أن الأجزاء خاضعة للكل، وهي خاضعة له حسب فكرة ما ومعنى ما، لوجوس ثابت متجاوز، مطلق، وفي نهاية الأمر ميتافيزيقا، أي الإله، وهنا لا يمكن الاستمرار في إنكار القصد والغاية والمعنى وهرمية الواقع. وفكر ما بعد الحداثة هو تعبير عن هذا الاتجاه الذي يشكل في واقع الأمر إذعاناً كاملاً لأزمة المعنى وعملية تطبيع اللامعيارية التي يواجهها الإنسان الحديث.

التجاوز والتعالى (مقابل الحلول والكمون)
«التجاوز والتعالي» تُترجَم بالإنجليزية بكلمة «الترانسندانس transcendence»، وهي من اللاتينية: «ترانس كنديري transcendere» من مقطعي «ترانس» بمعنى «وراء»، و«كنديري» بمعنى «يتسلق»، أي «يذهب وراء». وكلمة «تجاوز» عادةً ما توضع مقابل «كمون»، و«حلول» (وقد ترجمت الكلمة الإنجليزية إلى الكلمات العربية التالية: «صوري» - «مفارق» - «متسام» - «ترانسندنتالي» - وأحياناً «جواني»). والتعالي هو أن يعلو الشيء ويرقى حتى يصير فوق غيره؛ ولذا فهو شيء مفارق ليس فوقه شيء، وهو يجاوز كل حدٍّ معلوم أو مقام معروف. والشيء المتعالي لهذا السبب يتحدى التجربة المادية والتفسير العلمي المادي. وعكس التعالي والتجاوز الحلول والكمون. بالإنجليزية «مانثيزم pantheism»، و«إمننانس immanence» (انظر الباب المعنون «الحلولية ووحدة الوجود الكمونية»).

وفلسفة التعالي تذهب إلى القول بأن وراء الظواهر الحسية المتغيرة جواهر ثابتة أو حقائق مطلقة قائمة بذاتها مجردة من شروط الزمان والمكان، وأن هناك علاقات ثابتة محيطة بالحوادث ومستقلة، أي أن النظام الطبيعي، بكل ما يتسم به من تغيُّر وتعدُّد ونسبية وسيولة وراءه نظام يتسم بالوحدة والثبات والمطلقية، وثمة مركز ثابت للظواهر العارضة متجاوز لها (وهذا ما نسميه «المرجعية المتجاوزة»). ولذا، توصف أية فلسفة تذهب إلى القول بأن في العالم ترتيباً تصاعدياً تخضع فيه الحوادث للتصورات والتصورات للمبادئ بأنها فلسفة متعالية (على عكس فلسفات الحلول والكمون الواحدية التي تأخذ شكل مسطح أفقي تحوي مركزها داخلها أو تكون بغير مركز، ولا يكون فيها أعلى أو أسفل وتتسم بالواحدية).

وفي الأنساق التوحيدية، التعالي الحق هو ارتقاء يستمر إلى غير نهاية إلى أن يصل إلى اللانهاية. والتعالي النهائي، بهذا المعنى، لا يمكن أن يُرد إلى ما هو دونه لأنه لو رُد إلى ما هو دونه لفقد تجاوزه وتعاليه وتَنزُّهه، أي أن فلسفة التعالي الحقة تصل دائماً إلي أن وجود الإله يسبق كل الموجودات الأخرى، ومن ثم فهو سببها النهائي ولكنه منزه عنها وله وجود مستقل، وهو مركزها وهو الغاية التي تسعى نحوها. فالله تعالى هو المتعالي والعالي والعلي وهو «الكبير المتعال» البائن عن خلقه، أي أنه مركز الكون والمدلول النهائي المتجاوز للطبيعة والتاريخ المنزه عنهما. ورغم وجود مسافة تفصل بين الكائن المتجاوز العلي وعالم المادة، فإن له تجلياته في العالم المادي، فالمتجاوز والمتعالي هو اللامحدود اللامتناهي الذي يعبِّر عن وجوده داخل المحدود والمتناهي دون أن يُرد إليهما. وهذه التجليات تشكل انقطاعاً في النظام الطبيعي ولكنها تزوِّده كذلك بقَدْر من التماسك وباتجاه متصاعد لا يمكن فهمهما أو تفسيرهما في إطار مادي محض.

والعلمنة هي إنكار إمكانية التجاوز، فالعالم الطبيعي/المادي مكتف بذاته، يحوي داخله كل ما يلزم لفهمه (مرجعية كامنة). والإنسان جزء من هذا العالم، فهو إنسان طبيعي/مادي لا يمكنه تجاوز الطبيعة/المادة ولا تجاوز ذاته (الطبيعية) أو التحكم ضد التجاوز. فالإنسان القادر على التجاوز لا يمكن التحكم فيه تماماً، ولا يمكن تسويته بالكائنات الطبيعية إذ يظل داخله ما يتحدى القوانين الطبيعية المادية، ومن ثم فهو غير خاضع لقوانين المادة ولا يمكن حوسلته.

ويُلاحَظ أن تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة هو تاريخ تصاعُد معدلات الحلول (الكمون) والإنكار المتصاعد لأي تجاوز، ومن ثم فهو تصاعد للواحدية المادية وتصفية لثنائية المتجاوز/الكامن إلى أن نصل إلى الفكر التفكيكي وفكر ما بعد الحداثة الذي ينكر أي تجاوز وأية مركزية لأي شيء بل ينكر فكرة الكل نفسها باعتبار أن الكل متجاوز للأجزاء.

المطلق والنسبى
«المُطلَق» في المعجم الفلسفي (هو عكس النسبي) ويعني «التام» أو «الكامل» المتعرى عن كل قيد أو حصر أو استثناء أو شرط، والخالص من كل تعيُّن أو تحديد، الموجود في ذاته وبذاته، واجب الوجود المتجاوز للزمان والمكان حتى إن تجلى فيهما. والمطلق عادةً يتسم بالثبات والعالمية، فهو لا يرتبط بأرض معيَّنة ولا بشعب معيَّن ولا بظروف أو ملابسات معيَّنة. والمُطلَق مرادف للقَبْليّ، والحقائق المطلقة هي الحقائق القَبْلية التي لا يستمدها العقل من الإحساس والتجربة بل يستمدها من المبدأ الأول وهو أساسها النهائي. ويمكن وصف الإله الواحد المتجاوز بأنه «المُطلَق»، ويشـار إليه أحياناً بأنه «المدلول المتجـاوز»، أي أنه المدلول الذي لا يمكن أن يُنسَـب لغيره فهو يتجاوز كل شـيء. وقد عرَّف هيجل المُطلَق بأنه «الروح» (بالألمانية: جايست Geist) ويُقال «روح العصر» (أي جوهر العصر ومطلقه) و«روح الأمة» (جوهرها ومطلقها). وتَحقُّق المطلق في التاريخ هو اتحاد الأضداد والانسجام بينها، والحقيقة المطلقة هي النقطة التي تتلاقى عندها كل الأضداد وفروع المعرفة جميعاً من علم ودين، وهي النقطة التي يتداخل فيها المقدَّس والزمني (فهي وحدة وجود كاملة).

وفي مجال المعرفة، تعبِّر المطلقية (مصدر صناعي من «المطلق») عن اللا نسبية وهي القول بإمكان التوصل إلى الحقيقة واليقين المعرفي بسبب وجود حقائق مطلقة وراء مظاهر الطبيعة الزمنية المتغيِّرة المتجاوزة لها. والمطلقية في الأخـلاق هي الذهاب إلى أن معايير القيم - أخلاقيةً كانـت أم جماليةً - مطلقةٌ موضوعيةٌ خالدةٌ متجاوزةٌ للزمان والمكان، ومن ثم يمكن إصدار أحكام أخلاقية. أما في السياسة، فهي تعني سيادة الحاكم أو الدولة بغير قيد ولا شرط. والدولة المطلقة هي الدولة التي لا تُنسب أحكامها إلى غيرها فمصلحتها مطلقة وإرادتها مطلقة وسيادتها مطلقة.

أما «النسبي»، فهو ينُسَب إلى غيره ويتوقف وجوده عليه ولا يتعيَّن إلا مقروناً به، وهو عكس المطلق، وهو مقيد وناقص ومحدود مرتبط بالزمان والمكان يتلون بهما ويتغيَّر بتغيرهما، ولذا فالنسبي ليس بعالمي.

ونحن نذهب في هذه الموسوعة إلى أنه داخل المنظومات التي تدور في إطار المرجعية المتجاوزة (مثل الرؤية التوحيدية) لا ينقسم العالم بشكل حاد إلى مطلق ونسبي، فالمطلق النهائي الوحيد (المطلق المطلق) هو الإله المتجاوز وهو مركز النموذج والنسق والدنيا الذي يوجد خارجها، أما ما عداه فيتداخل فيه المطلق والنسبي، فالإنسان يعيش في الطبيعة النسبية ولكنه يحوي داخله النزعة الربانية التي لا يمكن ردها إلى العالم المادي النسبي، ولذا فهو يشعر بوجود القيم المطلقة ويهتدي بهديها (إن أراد). والكائنات نسبية فهي تُنسَب لغيرها، ومع هذا لها قيمة مطلقة، ولذا لا يمكن قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق لأنها مطلقة، ومن قَتَل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعاً. وأقل المخلوقات في الكون هي من صنع الله، ولذا فلها قيمتها المطلقة. وتداخل النسبي مع المطلق لا يلغي المسافة بينهما، ولذا فهما لا يمتزجان ولا يذوب الواحد في الآخر.

ويمكننا الحديث عن النسبية الإسلامية باعتبارها نسبية تنصرف إلى خطاب الخالق، فنحن نؤمن بأن ثمة مطلقات نهائية لا يمكن الجدال بشأنها، نؤمن بها بكل ما تحوي من عقل وغيب؛ منها ننطلق وإليها نعود، أما ما عدا ذلك فخاضع للاجتهاد والحوار.

أما في المنظومات التي تدور في إطار المرجعية الكامنة، كالنظم الحلولية الواحدية والمادية، فإن مركز العالم كامن فيه. ولذا، قد يتجسـد المطلق في أحد عناصر الدنيا (يتجسد فيه ولا يتبدى من خلاله) فيصبح هذا العنصر المادي أو الملموس هو المطلق والمقدَّس وأما ما عداه فمدنَّس.

وأي نموذج مهما بلغ من مادية ونسبية يحتوي على ركيزة أساسية تدَّعي لنفسها المطلقية والقَبْلية، ولذا فإن النماذج المعرفية العلمانية التي تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة تحتوي على مطلق علماني يفترض فيه أنه الركيزة الأساسية والمرجعية النهائية لكل الأشياء، يمنحها الوحدة والتماسك. وأهم مطلق علماني هو الطبيعة/المادة والتنويعات المختلفـة عليه مثل الدولة وحتمية التاريخ... إلخ. وكلمة «مُطلَق» هنا تكاد تكون مرادفة لكلمة «ركيزة أساسية» وكلمة «مـركز» أو «المبدأ الواحد» أو «اللوجوس»، فحينما نقول: "لقد حلَّ المُطلَق في المادة"، فنحن نعني "لقد حل المركز في المادة" وأصبح كامناً فيها غير متجاوز لها.

0 مشاركات:

إرسال تعليق