السلفية: التحولات والمآلات

السلفية: التحولات والمآلات

أَود قبل الدخول في الحديث عن السلفية في تحولاتها ومآلاتها، أن أُقدم ببعض المحترزات بقصد الدقة والإيضاح وسلامة المنهج والمصطلح: أولا: السلفية تيار عقدي إسلامي، يهدف في الأصل إلى تصحيح العقيدة والعبادة، وتنقيتهما وتنقية اعتقادات المسلم وممارساته من البدع الموروثة والطارئة. وكما كان الإمام أحمد بن حنبل في القديم، على سبيل المثال، أحد أعلام السلفية الكبار، لكنها ما كانت مقصورة عليه؛ فكذلك الأمر في الأزمنة الحديثة والمعاصرة؛ إذ كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب علما من أعلام السلفية في نجد وشبه الجزيرة العربية؛ بيد أن السلفية ما اقتصرت على نجد والجزيرة، بل انتشرت في القرنين الأخيرين في الحجاز واليمن وأفريقيا والهند والمغرب ومصر والشام، وعلى أيدي أُناس آخرين، متخذة في كل ناحية ظهرت فيها تلوينا معينا بحسب الأوضاع السائدة، مع الإبقاء على الجوهر أو المنزع الرئيسي المتمثل في القصد الحثيث إلى تصحيح العقيدة والعبادة والسلوك. والتلوين الخاص الذي اكتسبته سلفية نجد في الجزيرة هو اقترانها بالدولة السعودية في أزمنتها الثلاثة، في حين تحركت السلفيات الأُخرى في الأعم الأغلب خارج الأنظمة القائمة، لكن ليس في مواجهتها، باستثناء العقدين الأخيرين كما هو معروف.
ثانيا: قد يكون مفيدا في دراسة مبسوطة أو ممتدة، تتبع أصول السلفية التاريخية، باعتبارها منزعا أو حركة إصلاحية. لكن المقصود في هذه الكلمة استطلاع وقراءة التحولات التي حصلت للسلفية ولأهل السنة؛ ولذا يتكرر لدي هنا مصطلحان: السلفية الحديثة، والسلفيـة أو السلفيات الجديدة. وأقصد بالسلفيـة الحديثة تلك التي بدأت ظواهرها في القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلادي، كما أقصد بالسلفية الجديدة تلك المنازع التي ظهرت في العقود الثلاثة الأخيرة.
قمت قبل سنتين بترجمة كتاب مايكل كوك الشهير: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي». وقد فهم الباحث هذا المبدأَ أو الواجب باعتباره يمثل في الإسلام، ما يمثله مبدأ المسؤولية الفردية أو المواطنة حقوقا وواجبات في الأنظمة السياسية الحديثة. لكن لأن الأصل في اعتناق هذا المبدأ أو الواجب الدين ونصوصه، فقد ترتب على ذلك وجود إحساس ووعي غلاب لدى كل مسلم تقريبا بضرورات الحراك من أجل الخيرين الخاص والعام. بيد أن لهذا الوعي أو الاعتقاد وجها آخر، مفاده الإحساس بالذنب، والخوف من المعصية؛ في حالة عدم القيام بواجب الأمر والنهي، عجزا أو خوفا. وقد جمع المؤلف الأميركي آلاف النصوص من سائر المذاهب العقدية والفقهية بشأن هذا المبدأ أو الواجب؛ لكنه لاحظ أن هذا الحراك ظهر وتطور بداية لدى الفقهاء والمحدثين ذوي الميول السلفية. أَما الأهم فيما توصل إليه، فهو أن الاندفاع المستمر لتصحيح العقيدة والعبادة كان الأَولوية المطلقة للسلفيين؛ في حين اهتم فقهاء المذاهب أكثر بالتصحيح والإصلاح الفقهي والسلوكي، دون أن يعني ذلك عدم اهتمام السلفيين بفقه السلوك.
لقد انصرف السلفيون في اندفاعاتهم الأولى والثانية في القرنين التاسع عشر والعشرين، إلى تصحيح عقائد المسلمين وعباداتهم، وتطهيرها من البدع العرفية الموروثة، ومن المستجدات البدعية التي بدأت تظهر فيها أيضا، وقد تركزت جدالاتهم للتطهير الديني ضمن أهل السنة والجماعة على العقيدة الأشعرية، والمقولات والممارسات الصوفية. ثم تعدى الأمر ذلك للهجوم على التقليد الفقهي، والمذاهب الفقهية السائدة بسبب سيطرة التقليد عليها، وسد باب الاجتهاد.
والواقع أن الأشاعرة والماتريدية والمتصوفة ورجالات المذاهب الفقهية، كانوا هم أيضا قد بادلوا السلفيين في نجد والحجاز واليمن ومصر هجوما بهجوم. وصحيح أن دفاع هؤلاء عن التقليد الفقهي كان ضعيفا لاعتبارهم الاجتهاد ابتداعا، لكن الأمور الأُخرى التي ردوا فيها على السلفيين لقيت بعض الاستجابة والاستحسان، ومنها الدفاع عن الأشعرية باعتبارها عقيدة أهل السنة، والدفاع عن التصوف باعتبار أن هناك تصوفا سنيا وآخر بدعيا، والدفاع عن صحة إيمان سائر المسلمين وعدم استحلال التكفير، لأنه لا يجوز تكفير مسلم بذنب، والدفاع عن اكتساب الجديد بما يتفق ومصالح المسلمين.
على أنه لا ينبغي هنا أن ننسى أن السلفيين ما انفردوا بالهجوم على الأشعرية، وعلى التقليد في المذاهب الفقهية، وعلى التصوف، بل شاركهم في ذلك من عرفوا بالإصلاحيين منذ أواخر القرن التاسع عشر وإلى منتصف القرن العشرين. فقد رأى الإصلاحيون ومن بعدهم الحداثيون أن الأشعرية ضد العقل ومسؤولية الإنسان عن أفعاله، ووافقوا السلفيين بالتخلي عن التقليد الفقهي والمذهبي، واتباع ما أدى إليه الدليل الشرعي مهما خالف العرف والتقليد. واعتبروا التصوف دليلا على التخلف وعصور الانحطاط. وكما نرى فإن حجج السلفيين والإصلاحيين ضد التقليد الإسلامي العقدي والفقهي والصوفي مختلفة، لكنها تضافرت في فترة ما، فدفعت باتجاهات بعضها إيجابي، مثل فتح باب الاجتهاد. لكن ثلاثينات القرن العشرين شهدت افتراق الفريقين، وظل السلفيون مصرين على تكفير المبتدعة، وتبديع الصوفية، والحط من الأشعرية. وفي النهاية، وفيما بعد سبعينات القرن العشرين، ما عاد المتشددون في مصر واليمن والعراق والمهاجر وآسيا الوسطى، يصلون مع الآخرين، بسبب الاختلاف العقائدي، والاختلاف الشعائري. وما استطاع السلفيون التأثير على الإحياء الصوفي الذي يتفاقم في العقود الأخيرة. لكنهم إلى جانب الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية بباكستان، استطاعوا - إلى جانب عوامل أُخرى - تفكيك تماسك المذاهب الفقهية وضرب العقيدة الأشعرية - إلى جانب عوامل أُخرى بالطبع. وقد أمكن لهم، بسبب الظروف التي طرأت في النصف الثاني من القرن العشرين، أن ينشروا ثقافة وعقيدة الولاء والبراء، تجاه الديانات والثقافات الأُخرى، لكن داخل المجتمعات الإسلامية أيضا.
تركز جهد السلفيين إذن، وعلى مدى نحو القرن، على تصحيح العقيدة أو فرض الصراط المستقيم، فتناولوا بذلك في الأعم الأغلب القسم الأول من مصطلح أهل السنة والجماعة، أي أنهم ركزوا على السنة، سنة النبي – صلى الله عليه وسلم - والسلف في التوحيد، والعقائد النصية، والعبادات، والسلوك الفردي. وقد سلكوا في الدعوة لمذهبهم هذا مسلكين متلازمين: الحملة على التقاليد السائدة داخل المجتمعات الإسلامية في العقائد والتصوف والفقه والأعراف الشعائرية والتشبه بالكفار. والوجه الآخر: تكوين جماعات سلفية منفصلة داخل المجتمعات الإسلامية، مما أدى إلى ما يشبه الانشقاق الديني. لقد وصلت الحركة السلفية إلى ما يشبه الانشقاق، لأن التقليد العقدي والفقهي تداعى بالفعل، وما استطاعت السلفية الحلول محله، بل ظلت فريقا متميزا ضمن المشهد العام. وقد حصل أكثر ذلك في العقود الماضية خارج المملكة العربية السعودية، في الأعم الأغلب. وما وصل هذا التطور إلى نهاياته، ومن مدخل آخر عبر الولاء والبراء والتحزب، إلا في التسعينات من القرن الماضي - ويعود ذلك إلى الانضباطية القوية التي فرضتها الدولة، ولأن هناك علماء مؤثرين ما كانوا يقبلون من تلامذتهم وأتباعهم الوصول بالافتراق إلى أبعاده القصوى.
وإذا كان السلفيون قد اهتموا في الأغلب الأعم بإصلاح العقيدة والعبادة والشعائر والسلوك، فإن الحركات الإسلامية الجديدة، التي عرفت فيما بعد بحركات الإسلام السياسي، تركز اهتمامها على إصلاح الشأن العام، أو شؤون جماعة المسلمين. وأهم تلك الحركات كما هو معروف الإخوان المسلمون بمصر، والجماعة الإسلامية بباكستان. ولأنها حركات جديدة أصلا وفصلا، فهي تركز على المتغيرات التي أصابت الأمة الإسلامية نتيجة التغريب والاستعمار، وصراع الحضارات. وترمي إلى إصلاح أمور الأمة وإعادتها إلى الشرعية عن طريق نظام سياسي قائم على الشريعة، التي تقول إنها غادرت الدولة، وتوشك أن تغادر المجتمع.
فإذا كانت السلفية تعتمد تقوية وتعبدية فردية أو شبه فردية، تسدد العقيدة والسلوك، ويمكن أن تؤثر في إصلاح الشأن العام من خلال الطاعة والجماعة والنصيحة وتوخي الخير العام؛ فإن حركات الإسلام السياسي الإحيائي والثوري، ترى أنه لا فائدة من وراء ذلك، ولا فصل بين الدين والدولة أو بين السياسة والشريعة؛ بل لا بد من سواد الشريعة في شؤون الدولة والمجتمع، كما كان عليه الأمر في مجتمعات المسلمين قبل عصر الاستعمار. وتوجه حركات الإسلام الثوري هذا، هو التحول الثاني في قلب أهل السنة والجماعة في القرن العشرين. التحول الأول الذي أنجزته السلفية يعتمد كما سبق القول تقوية فردية متشددة، كانت موجودة ضمن أهل السنة والجماعة على مدى العصور السالفة، لكنها كانت تنتظم في آليات للضغط والتأثير، وبخاصة في ظروف الأزمات. ولأن هذه الآليات تعطلت في الأزمنة الحديثة، وما عاد يمكن ظهور مذاهب عقدية أو فقهية في زمان تدعو فيه السلفية ذاتها إلى إزالة المذاهب لصالح الاجتهاد، وإن يكن اجتهادا اتباعيا. أما التحول الثاني فقد أحدثته حركات الإسلام السياسي الإحيائية والثورية، التي اعتبرت الشأن العام شأنا دينيا أو ينبغي أن يكون كذلك، وهذا التحول شاركت فيه أخيرا أو في العقدين الأخيرين بالتحديد أجزاء واسعة من السلفية، أي السلفية الوهابية وغيرها.
لقد كان الاقتران بين السلفية والدولة في المملكة العربية السعودية، تجربة جديدة لها ميزاتها ولها أعباؤها ومسؤولياتها. تمثلت الميزات في الإمكانيات التي أُتيحت، والفرص التي ظهرت وتطورت. فالسلفية بتمييزها الدقيق في الأصل بين الشأن الديني التعبدي، والشأن العام القائم على وحدة الجماعة، ورعاية مصالحها؛ كانت تستطيع ومن على منصة هذا التمييز، الإسهام في دعم مشروعها الأصلي للاستقامة الدينية، والإسهام أيضا أو المشاركة في إقامة دولة جديدة يسود فيها الود بين الديني والمصلحي. لكن الواقع أو الذي حصل أنها ما استطاعت بالاجتهاد والتجديد مساوقة التجربة المدنية والمصلحية للدولة، كما أنها ما استطاعت الاحتفاظَ طويلا بولاء الأجيال الشابة، فانصرفت عنها أو تجاوزتها أجزاء واسعة من المتدينين باتجاهين: الاتجاه الإحيائي والأُصولي لجماعات الإسلام السياسي، والاتجاه العنيف لجماعات الإسلام الثوري. وقد أدى الاتجاه الأول إلى المزاوجة بين السلفية والإخوانية، أي فهم الشأن العام والمصلحي باعتباره مشكلة دينية. أما الاتجاه العنيف فقد حول الإسلام - كما هو معروف - إلى مشكلة عالمية.
وهكذا، فإن المشكلة في السلفية ومعها ليس في أنها جنت هذا الأمر أو ذاك؛ بل في أنها، وهي الحركة الرئيسية للإصلاح الديني الإسلامي لأكثر من قرن، ما استطاعت إنجاز هذا الإصلاح. ثم إنها فوتت على الإسلام والمسلمين فرصة المشاركة في إقامة نموذج للتواد بين الديني والسياسي في الأزمنة الحديثة والمعاصرة، كما كان عليه الأمر في النموذج السياسي الإسلامي الوسيط. والأمر الثالث أنها بالفشل أو بالقصور أو بهما معا، تركت الساحة مفتوحة للإسلام الإحيائي والثوري لإحداث حالة من العداء بين الدين والدولة في ديار الإسلام، وتحويل الإسلام إلى مشكلة عالمية. والنتيجة أن لدينا اليوم في عالم الإسلام، وبعد قرن ونيف على الفعالية الإسلامية ؛ ثلاثة نماذج أو تبلورات للحراك: نموذج الدولة الدينية ذات النظام الشمولي، الذي ينقسم الجمهور من حوله، في إيران. ونموذج الدولة ذات النظام العلماني والجمهور ذي الأشواق الإسلامية، في تركيا. والنموذج الإحيائي والأصولي والثوري، الذي يسعى إلى استعادة الشرعية الدينية والشعبية، بإقامة الدولة التي تطبق الشريعة، وهو الغالب في البلاد العربية.
ومرة أُخرى: هل السلفية مسؤولة عن ذلك كله؟ طبعا لا. لكننا في مأزق كبير وممتد ومتعاظم، والسلفية جزء منه.

0 مشاركات:

إرسال تعليق