عدوى غريتا غاربو

عدوى غريتا غاربو
تتوقف الموسيقى بجميع آلاتها: الكمان، والناي، والقانون.. ويترك لفيروز أن تصدح بمفردها، دون أي مرافقة، لتصنع لحظات «على دلعونا وعلى دلعونا، هوا الشمالي غير اللونا». ويلتهب السامعون في بعلبك، كأنما عصا قائد الأوركسترا أشارت عليهم هم هذه المرة. وفيروز تتظاهر بأنها تشيح بوجهها عن الجمهور الخافق، لكنها تتأمل بطرف عينيها، كيف دب السحر في المكان. قمر يضيء، وقمر يغني، باعثا في المشاعر خدرا مثل نسيم مفاجئ في ليلة صيف قصيرة.
من خلف الستارة، كان عاصي ومنصور الرحباني يراقبان الوجوه والأمائر وحركة التصفيق ودرجات الذوبان. وبعد انتهاء المسرحية، تعود فيروز، متعبة، فرحة، وترتمي على كنبتها وهي تسأل زوجها: «شو عاصي؟.. كيف؟». ويجيب منصور: «الناس بعدها هون، رافضين يفللوا.. قاعدين، مش رايحين».
الهوا الشمالي القارس غير اللون، وموال فيروز قلب أدراج قلعة بعلبك. أين فيروز؟ كثيرون يطرحون عليّ السؤال، وكأنني أعرف. وأنا لا أعرف. منذ عامين وهي تترك لي رسائل بأن أرد، وعندما أرد لا جواب من فيروز. وأنا خائف عليها من عدوى غريتا غاربو.
كانت غاربو صاحبة أجمل عينين في تاريخ السينما. وعندما خشيت أن تذبل رموشها قليلا تركت الشاشة وانزوت. لم تعد تسمح لأحد بأن يراها. لم تعد تريد أن يعرف عنوانها أحد. أرادت أن تترك في قلوب الناس صورة واحدة: الأهداب التي تملأ الشاشة ولا تترك دونها شيئا.
أخشى أن فيروز لا تريد أن تفارق تلك الثواني العشرين، لحظة كانت توقف العقول وتستوقف القلوب عندما تتوقف كل آلات الموسيقى من أجل أن تصدح منفردة «على دلعونا، على دلعونا». لكن أليست فيروز هي فيروز؟ ألم تبق كذلك حتى بعد غياب عاصي وانفصال منصور عن الحلقة الثلاثية التي أضاءت عقود لبنان؟ ألم تقف مشعة منفردة، في دبي وفي عمان، وفي دمشق؟
لكنه غريتا غاربو. هاجس النجمة التي تخاف أبدا أن تتحول إلى نيزك. هاجس الكبار الذين مهما بلغت هالاتهم، يبقون في داخلهم أطفالا يخافون

0 مشاركات:

إرسال تعليق