ذاكرة العراق الحلقة 4: الباجه جي: ورثنا الطائفية من الصراع بين الأتراك والفرس على العراق

قال إن الحضارة الجديدة بدأت في البلد مع العهد الملكي حيث تم إرسال البعثات والزمالات وتم بناء المدارس وصار هناك اهتمام بارز بالتعليم
الباجه جي مع زوجته عام 1990 («الشرق الأوسط»)
معد فياض
حدث ذلك عام 1933، كان في عمر الطفولة، عندما التقى ذات يوم خلال حفلة في مدرسته الأميركية الابتدائية بوالدة وأخت زميل دراسته، البنت تصغره بعامين، حيث يشع الذكاء من عينيها، بينما كان شعرها الأحمر غير مسترسل، وحتى اليوم لا يدري عدنان الباجه جي لماذا أثرت فيه هذه البنت وانطبعت صورتها في مخيلته، صورة سيبقى يتذكرها، ويعيد وصفها بكثير من العناية، وفي كل مرة يتحدث عن تلك المصادفة، سوف يكتشف المزيد من التفاصيل الدقيقة، ربما لون ثوبها، أو لون الشريط الذي كانت تربط به شعرها. يقول: «أول مرة التقيت بفتاة، كان عمري 10 أعوام، وكانت قد جاءت مع والدتها إلى حفل في مدرستنا ببغداد، حيث كان شقيقها معي في المدرسة وصديقي، كان عمرها وقتذاك 8 سنوات، ولا أدري ما الذي شدني إليها مع أننا كنا أطفالا».
وبينما ينشط ذاكرته كي لا تتبخر هذه الصورة أو الذكرى، أو بالأحرى الصورة الذكرى من رأسه، وبعد أربع سنوات من ذلك اللقاء سيكون عليه أن يلتقي بذات البنت الحلوة مع عائلتها، وهذه المرة سيكون اللقاء أطول، وسيأخذ مساحة أوسع، بعيدا عن الأرض، وفي البحر إذ سيعود من نابولي، عندما كان في زيارة إلى والده في إيطاليا، إلى الإسكندرية على نفس الباخرة التي تقل علي جودت الأيوبي وعائلته، ولم يصدق أن البنت التي كان قد التقاها مع والدتها وأخيها في الحفلة المدرسية قد كبرت وصارت أحلى.
يتذكر الباجه جي هذه الأحداث ويصفها، تماما مثلما يصف حقلا واسعا من الزهور البرية التي تمتد على مد النظر «لكن الاهتمام الحقيقي بيننا بدأ في نابولي عام 1937، إذ كان والدها رئيس البعثة العراقية في باريس، أي بمثابة سفير، ذلك أن الدول الصغيرة وقتذاك وحسب اتفاقية فيينا الأولى لا تعين سفراء بل وزراء مفوضين وهم رؤساء بعثات ويقدمون أوراق اعتمادهم إلى الملوك والرؤساء، وكذلك كان والدي في روما، فقدم والدها استقالته وكان عائدا مع عائلته إلى بغداد عن طريق روما ليأخذوا الباخرة إلى الإسكندرية، وكنت وقتذاك في زيارة إلى والدي في العاصمة الإيطالية، ، فصادف أننا صعدنا على نفس الباخرة، وقد أتاحت لنا هذه السفرة المزيد من اللقاءات وتبادل النظرات، ووقتذاك كان هذا أقصى ما يمكن أن يحدث بين فتى وفتاة»، كان يتحدث وهو ينظر إلى اللوحة الزيتية التي رسمت لزوجته، بورترية، وهي تقف في كامل بهائها، كان في الحقيقة يغازلها، اللوحة، فبانت زوجته خلال باب الصالة مبتسمة، وكنت بحاجة إلى طاقة تعبير غير الكتابة أو التسجيل الصوتي لرصد لحظات الحب هذه التي قادتهما إلى 72 سنة من عمر علاقتهما، علقت زوجته قائلة وهي لا تزال تبتسم: «كان تبادل النظرات يعني الكثير، فالرومانسية كانت هي التي تحرك العلاقات والمشاعر وليس مثل اليوم، اليوم ليس هناك مشاعر رومانسية للأسف»، ثم غابت في الغرفة المجاورة تسمع من خلالها الحديث وكأنها تريد أن تخفي مشاعر تفضح أول وآخر حب في حياتهما، بينما استطرد هو قائلا: «أنا لم أتسلم منها سوى رسالة واحدة بعثت معها الصور التي التقطناها مع عائلتها على ظهر الباخرة».
لكن اللقاء الحاسم سيكون في بيروت حيث كانا يدرسان هناك «عندما ذهبت إلى الجامعة الأميركية في بيروت كانت هي تدرس في كلية للبنات هناك، بالطبع كنا قد كبرنا فأنا كان عمري 19 سنة وهي 17 سنة، وكنا نلتقي هناك، لكن طوال السنوات التي لم نكن قريبين كنا نفكر في بعضنا من دون أن تكون هناك أي مراسلات أو اتصالات» وسيعيشان واحدة من أجمل وأعمق قصص الحب التي لن تتكرر مثيلاتها، قصة حب بدأت بينهما، ومن غير أن يشعرا، في عمر الطفولة، ولم تنتهِ حتى اليوم.
كان كل منهما يشعر بعواطف الآخر من غير أن يعلنا عن تلك المشاعر، فمهما كانت عائلتاهما متقاربتين اجتماعيا، ومنفتحتين فكريا، إلا أنها تبقى ابنة علي جودت، الرجل العربي القادم من الموصل والمنتمية إلى عائلة شديدة في تحفظها وتمسكها بتقاليدها، بينما هو سليل الباجه جي، الذين نشأوا على تعاليم الدين الإسلامي، وتمسكوا بعاداتهم البغدادية العريقة. تشع عيناه تألقا، يتدفق الحب في شرايينه فيفضحه وجهه الذي يشرق بابتسامة فيها بعض الخجل «ما كنا بحاجة إلى الرسائل حتى إذا لم نلتق لسنوات، فكلانا يعرف مدى حب بعضنا لبعض».
لكن واشنطن هي التي جمعتهما إلى الأبد، وعليه أن يبقى ممتنا، وهو كذلك، لأرشد العمري، وزير الخارجية الذي عينه لأول مرة سكرتيرا ثالثا في السفارة العراقية لدى الولايات المتحدة بمعية السفير علي جودت الأيوبي، والد حبيبة عمره.
كلما تحدث عدنان الباجه جي عن هذه القصة تتملكه مشاعر من السعادة والنقاء، سعادة كمن يحب اليوم لأول مرة في حياته: «كنا نخرج معا في واشنطن قبل الزواج، ولكن ضمن ضوابط، حيث كان يجب أن نعود إلى البيت في وقت معين يحدد من قبل عائلتها» وكان راضيا بسعادة عن هذه اللقاءات مهما كانت قصيرة أو محدودة.
شعر الشاب المتطلع توا لحياته العاطفية والعملية بأن طمأنة الروح والعقل والشعور بالرضا لم يعودا كافيين لخلق سعادته الحقيقية هناك «في واشنطن تعمقت علاقتي مع سلوى علي جودت، وطلبت من والدي أن يكتب رسالة إلى صديقه علي جودت الأيوبي، والدها، ليخطب ابنته لي، كما أن والدي لم يتمكن من المجيء إلى أميركا لغرض الخطبة، فبعث لي برسالة يقول فيها: (اشدعوة كأنك عباس المستعجل)، وهذا مثل يقوله العراقيون لكل من يستعجل في إنجاز أي شيء، وهو محق فقد كان عمري 23 سنة عندما أردت الزواج لكن شعور الشباب والحب دفعني لأهم خطوة في حياتي، وتزوجنا بعد عام واحد من وصولي إلى العاصمة الأميركية، ومن حسن حظي أن زواجي كان نتيجة علاقة حب عميقة جدا، وهذا ما جعلنا نستمر طوال 64 سنة من الزواج».
لم يشغل الزواج عدنان عن عمله ودراسته، لكنه (الزواج) غير خطط الزوجة بإرادتها وليس بمقترح أو بإشارة منه «كنت في واشنطن أدرس في جامعة جورج تاون لنيل شهادة الدكتوراه التي حصلت عليها سنة 1949، وهذه ما أخر سفرتنا الأولى إلى بغداد، التي تمت بعد 3 سنوات من زواجنا، بينما كانت زوجتي تدرس في جامعة هارفارد لنيل شهادتها العليا في الهندسة المعمارية، ثم جئت أنا لأغير كل شيء (خربطت عليها) خططها الدراسية، وصار النصيب مثلما يقال، وتزوجنا عام 1946، الحمد لله والشكر، ورزقنا بأول بنت، ميسون، سنة 1947» يتطلع إلى لوحة زيتية بورترية لزوجته معلقة فوق الحائط الذي يتصدر غرفة المعيشة في شقته، ويعقب «كان زواجنا ثمرة حب عميق وحقيقي وهو أول وآخر حب أشعر به لأول وآخر امرأة في حياتي، لم أحب أي امرأة سوى زوجتي التي أحببتها منذ بداية شبابي، وتزوجنا وصار عندنا 3 بنات».
بعد أن أنهى عدنان دراسته العليا ونال شهادة الدكتوراه عاد إلى بغداد مع زوجته وابنته البكر، ولم يسكن في بيت العائلة مع والده ووالدته بل «سكنت في بيت صغير استأجرته من مصطفى العمري في منطقة الصليخ، بجانب الرصافة، وفي هذا البيت رزقنا بابنتنا الثانية، ريمة».
عندما ترك عدنان بغداد لأول مرة، حيث كان عمره 11 سنة، لم تكن في هذه المدينة حياة اجتماعية خارج حدود البيوت والبساتين أو المزارع الخاصة، باستثناء «بعض الفنادق التي تم افتتاحها من قبل المسيحيين مثل (هوتيل زيا)، و(هوتيل جبهة النهر) و(هوتيل كارلتون)، وغيرها، كما افتتحت بعض النوادي، وهذا كله حدث بعد الاحتلال البريطاني للعراق إذ كان الإنجليز من رواد مطاعم هذه الفنادق وكذلك كان العراقيون. العراقيون منفتحون ويحبون حياة السهر والأنس، لكن ما كان موجودا في بغداد لا يقارن بما كان موجودا في بيروت والقاهرة».
لكنه عندما عاد من واشنطن مع زوجته وابنته كانت الحياة الاجتماعية قد تغيرت وتطورت كثيرا، وعلى حد وصفه «زوجتي مثلا كانت سافرة (لا تضع عباءة أو حجابا)، وكنا نذهب إلى نادي العلوية، واحد من أرقى وأشهر نوادي بغداد الراقية ويقع في شارع السعدون بجانب الرصافة، وقد أنشأه الإنجليز حيث اشتروا عددا من البيوت وبنوا هذا النادي. وكانت عوائل أعضاء النادي تسبح بشكل مختلط من النساء والرجال، وهذه النشاطات الاجتماعية بدأت منذ الأربعينات وتطورت جدا في الخمسينات، خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت نساء الطبقة الوسطى من زوجات وبنات الموظفين قد تركوا العباءة والحجاب كليا. أما اليهود في بغداد فقد كانت لهم نواديهم الفاخرة ومجتمعهم المترف الخاص كون غالبيتهم يعملون في التجارة وكانوا أغنياء ويملكون بيوتا فاخرة، كما كانت لهم مدارسهم ومتاجرهم ومستشفياتهم، وهذا لا يعني أنهم عاشوا منعزلين عن بقية العراقيين بل كانوا يختلطون معنا في نادي العلوية أو في الحياة الاجتماعية العامة».
لا نستطيع أن نحصل على شهادة حية عن المجتمع البغدادي في الأربعينات وحتى نهاية الخمسينات من القرن الماضي، أفضل مما تحدث عنه ابن هذا المجتمع العارف بأسراره وتقسيماته، يقول الباجه جي: «كانت بغداد اجتماعيا منقسمة إلى قسمين، الأول يمثله الأغنياء الذين كانوا يسكنون في شارع النهر وقرب السراي حيث تقع القشلة، وشارع أبو نواس، أما الفقراء فكانوا يسكنون في سوق حنون والشواكة والحيدرخانة، وبقيت النساء هناك يرتدين العباءات ويضعن الحجاب (البوشي)».
بغداد عدنان الباجه جي نحن لم نعشها، بالنسبة لنا هي موجودة في الصور الأرشيفية والكتب والقصص الصحافية، أما بالنسبة له فهو يراها واضحة وجلية، يتتبع خرائط أحيائها وشوارعها، بالنسبة له هي بغداد التي عاشها بكل تفاصيل أحداثها «يعتبر حي البتاويين من الأحياء الجديدة إذ كان عبارة عن منطقة بساتين وحقول زراعية، بل إن كل الأراضي التي كانت تقع بعد منطقة الباب الشرقي (حيث نصب الحرية موجود اليوم في قلب بغداد) كانت عبارة عن بساتين وأراض زراعية. وكان هناك بستان اسمه (بستان الخس)، الذي كان يزدحم يوم السبت من كل أسبوع بالعوائل اليهودية، فالمعروف أن اليهود لا يعملون يوم السبت». كان الجانب الشرقي من ضفة دجلة، الرصافة ينمو بسرعة، بينما بقيت أحياء الكرخ تحافظ على وجودها التقليدي «ففي جانب الكرخ فكانت مثلا منطقة كرادة مريم، حيث يقع القصر الجمهوري والمنطقة الخضراء اليوم، عبارة عن بساتين وحقول، وأتذكر أن عم والدتي كان يدعونا أيام الجمع (جمعة) في بيته وسط مزرعة بكرادة مريم، وكانت من أملاك وبيت زوجته وهي من عائلة غنية (كت خدا) وهؤلاء من زعماء المماليك الذين حكموا بغداد مائة عام، وكانت المنطقة تسمى بـ(الكاورية) مع تعشيق الكاف، ومفردها الكاوور، وتعني باللغة التركية غير المسلم (الكافر)، وللوصول إلى هناك كان ذلك يتطلب رحلة طويلة إذ لم تكن هناك شوارع معبدة، ففي بغداد كان هناك شارعان معبدان (مبلطان) فقط، هما شارع النهر الذي يمتد إلى سوق السراي والقشلة، وشارع المتنبي وشارع الرشيد، وأنا أتذكر أن شارع الرشيد، وقبل تعبيده، كان يغرق بمياه الأمطار في الشتاء، فيجد الحمالون عملا لهم، وهو حمل الرجال على ظهورهم أو أكتافهم لإيصالهم إلى منطقة آمنة من المياه».
بعد حصوله على شهادة الدكتوراه وعودته إلى ديوان وزارة الخارجية، تم تعيين عدنان الباجه جي قنصلا للعراق في مدينة الإسكندرية، وهنا سيتنقل هذا الموظف الشاب في السلك الدبلوماسي العراقي ما يشبه المعجزة في النزاهة الوظيفية، يقول: «عينت قنصلا للعراق في الإسكندرية بمصر، وخصص لنا منزل جميل، وكان عندنا شاليه على البحر في شاطئ سيدي بشر، وكان هذا ملك القنصلية وليس ملكي، لكنني اكتشفت أن لا عمل لي أو للقنصل هناك، ووجودي لا مبرر له، فاقترحت في رسالة إلى وزارة الخارجية إلغاء القنصلية، وهذا الأمر يحدث للمرة الأولى، وربما لم يحدث بعد ذلك، فلم أسمع في حياتي أن رئيسا لبعثة دبلوماسية يقترح إلغاء القنصلية وبعثته، وبالفعل تم إلغاء القنصلية وعدت إلى بغداد حيث تم تعييني معاون مدير الدائرة السياسية لشؤون الأمم المتحدة والمؤتمرات في وزارة الخارجية، وكان رئيس الحكومة وقتذاك نوري السعيد».
لقد رفض جده من أمه كل المناصب التي عرضها عليه الملك فيصل الأول بدءا بوزير العدلية (العدل)، وانتهاء بعضوية مجلس الأعيان، لأنه كان يعتقد أن الوظيفة قد تحيده عن مبادئه الإسلامية، كما رفض والده الاستمرار في الوزارة، لأن الوصي كان مرتبطا مع البريطانيين الذين يحتلون العراق، فليس غريبا إذن أن يقدم عدنان الباجه جي على إلغاء البعثة الدبلوماسية التي كان يترأسها من أجل الإخلاص لمبادئه وبلده، وهو بذلك يعطي درسا عمليا في معنى النزاهة وتقاليد الوظيفة، «فالموظف العراقي في بداية تأسيس الدولة العراقية وما بعدها كان يشعر بالفخر والاعتزاز لكونه موظفا بالحكومة، ولم يكن يفكر في أن الوظيفة هي وسيلة لجمع المال والانتفاع والثروة، بل على العكس كان هناك تقليد مفاده بأن الوظيفة هي شرف وواجب، على الرغم من أن الرواتب الشهرية كانت بسيطة جدا، يعني خريج الجامعة الحاصل على شهادة البكالوريوس كان يتقاضى 18 دينارا في بداية تعيينه، والبقية من غير خريجي الجامعة كانوا يتقاضون 7 دنانير أو 10 دنانير شهريا»، من غير أن يجعلنا نتخيل أن الحكومة العراقية كانت تجسد جمهورية أفلاطون الفاضلة، يقول معترفا: «كان هناك فساد إداري، ليس هناك زمن يخلو من الفساد، لكنه كان في نطاق ضيق ومحصور للغاية وقليل، ويتمثل في أمور بسيطة مثل استغلال النفوذ، وهذا لا يعد ضمن قضايا الفساد في المقاييس الاعتيادية وليس مثلما يحدث اليوم في العراق حيث سرقة ملايين الدولارات من المال العام وغيرها، ما كانت هناك سرقات. وإذا ثبت على أي موظف في الدولة أنه أخذ رشوة، مهما كانت بساطتها فيفصل من وظيفته في الحال وينبذ اجتماعيا ويسقط بين أفراد المجتمع، حتى من قبل عائلته، أما اليوم فمن يسرق من الدولة ويأخذ الرشاوى فيفتخر ويقولون عنه (هذا رجال وبطل)، لهذا أستطيع القول إن موظفي الحكومة العراقية كانوا أقل فسادا بين موظفي الحكومات في الدول العربية، وكانوا أكثر كفاءة من أمثالهم في الدول العربية».
ويمضي متحدثا في هذا الجانب الذي يعتبره مهما للغاية من أجل بناء الدولة الحقيقية، يقول: «كان الموظف العراقي يفتخر بأنه يعمل في الحكومة ويفتخر بنزاهته، وإذا كتب الوزير مذكرة شكر أو ثناء بحق أي موظف، فإن ذلك يكون مدعاة للاحتفال والفخر والمزيد من الشرف. كانت هناك تقاليد وقيم وأخلاق وظيفية، وقد استمرت هذه التقاليد بين موظفي الحكومة العراقية حتى مجيء صدام حسين للحكومة حيث انقلبت الموازين وفلتت التقاليد، إذ تم تحويل الموظف إلى أداة طيعة في يد النظام السياسي، ومما فاقم الأوضاع سوءا هو فرض العقوبات الدولية والحظر على العراق، وقبل ذلك كانت إدارة الدولة العراقية تسير بشكل مقبول أو جيد، على الرغم من وجود الظلم والاعتقالات والإعدامات، لكنني أتحدث هنا عن الإدارة، لقد كانت هناك على الرغم من كل شيء، دولة، لكن العقوبات الدولية التي فرضت على العراق دمرت الوضع الاقتصادي في البلد، وراتب الموظف تدنى إلى 3 دولارات في الشهر، وهذا ما جعل الفساد يستشري في العراق».
يصر الباجه جي، وهو ابن جيل ساهم مع الرعيل الثاني من بناة العراق في تأسيس قيم صحيحة لمؤسسات الدولة العراقية، منبها إلى أن «الحضارة الجديدة بدأت في البلد مع العهد الملكي حيث تم إرسال البعثات والزمالات وتم بناء المدارس وصار هناك اهتمام بارز بالتعليم، وهذه كانت سياسة الملك فيصل الأول والحكومات التي جاءت من بعده. ومع مرور الوقت صارت هناك طبقة جديدة من الشباب المتعلمين، الذين لا ينتمون إلى عوائل غنية ومعروفة في بغداد أو الموصل أو البصرة، وبدأت الطبقة الوسطى تستوعب أشخاصا من الطبقة الفقيرة وحتى من الأرياف، وهذا أمر جيد بلا شك لأنه عمل على تقوية روح المواطنة والهوية العراقية، كما ساهم الجيش بلا شك مساهمة كبيرة في هذا الاتجاه كونه يساوي بين الجميع، من خلال التدريب والنوم في قاعات واحدة، ولا يفرق بين هذا وذاك، على الرغم من أن الطائفيين من الشيعة كانوا يقولون بأن الجيش سني، وهذا غير صحيح، فالحكومات والجيش حاول كثيرا استمالة الشيعة وزجهم في العمل الحكومي أو العسكري، خاصة أبناء شيوخ العشائر، لكنهم كانوا يمتنعون ويرفضون المشاركة في العمل مع الحكومة بسبب فتوى كانت قد أصدرتها المرجعية الشيعية وقتذاك حرمت على أتباعها العمل مع الحكومة باعتبارها مع المحتلين، لكنهم دخلوا في الحكومة فيما بعد، ومنهم ناجي طالب وهو ابن شيخ عشيرة. العراقيون ورثوا الفكرة الطائفية من العهد العثماني بسبب النزاعات بين الأتراك والفرس من أجل السيطرة على العراق».
كان عدنان الباجه جي في السابعة والعشرين عندما تم تعيينه معاون مدير الدائرة السياسية في وزارة الخارجية لشؤون الأمم المتحدة والمؤتمرات، يصفها باعتبارها «دائرة جديدة تأسست وقتذاك، فأنا بقيت أكثر من سنتين ببغداد بعد أن اقترحت إغلاق القنصلية العراقية في الإسكندرية. وفي عام 1953 تم تعيين سفير جديد في واشنطن وهو موسى الشابندر الذي كان وزيرا للخارجية في حكومة رشيد عالي الكيلاني سنة 1941، ثم تم إبعاده من الحكومة قبل أن يرضى عنه الوصي والحكومة فتم تعيينه سفيرا، فطلبني أن أذهب للعمل معه كسكرتير أول، وكانت وظيفتي متابعة الشؤون السياسية، وكانت هذه المرة الثانية لي أن أخدم في واشنطن، وبقيت هناك 4 سنوات أخرى، إذ كان هناك ملحق عسكري واقتصادي وشؤون القنصلية، وملحق ثقافي مسؤول عن البعثات الدراسية والطلبة الذين يدرسون هناك على حساب الحكومة العراقية، وهؤلاء كانوا يصلون بفضل درجاتهم وكفاءتهم، من غير أن ننكر وجود وساطات لكنها قليلة، يعني إذا طلب وزير مساعدة شخص ما، فإن طلبه يستجاب بحدود المعقول وتوفر الشروط، وليس على حساب الآخرين الذين يتمتعون بالكفاءة، وهذه الأمور لم تكن واضحة وبارزة لندرتها».
في أكثر من إشارة هنا وهناك يؤكد الباجه جي موضوع الكفاءة، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب من غير أن تكون هناك تخمة في أعداد الموظفين، خاصة في السفارات العراقية، يقول: «كان عدد موظفي السفارة العراقية في واشنطن سنة 1945، مثلا قليلا جدا، إذ كان هناك السفير علي جودت الأيوبي والشخص الثاني مستشار السفارة العراقية سيف الله خاندان، وهو كردي عراقي لكنه عاش وأقام في إسطنبول ولا يعرف اللغة الكردية لكنه كان يتحدث العربية بلهجة تركية، وذات يوم التقى مع أحمد الشقيري في مناسبة وتحدث معه، فقال الشقيري: (أنا أستغرب ذلك أن مستشار السفارة التركية يتحدث العربية). وكان هناك أيضا عبد المنعم الكيلاني وهو أصغر أبناء عبد الرحمن الكيلاني (النقيب)، والمحاسب ياسين العمر، من البصرة، وموظف مسيحي وأنا الملحق الثالث. في المرة الثانية عندما عملت في السفارة بواشنطن كان عدد العاملين قد توسع إلى 10 أشخاص».
لم يفوت الباجه جي أي فرصة من غير أن يكتسب خلالها المزيد من المعارف والتجارب، وكانت فرص الاكتشاف المتاحة أمامه كثيرة، وتأتي تباعا، لكن أفضل هذه الفرص في حياته المهنية على الإطلاق هو عمله في الأمم المتحدة في نيويورك، نيويورك التي شغف بها، يقول: «إضافة إلى عملي في السفارة، فقد كنت أحضر اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، ومنذ أول اجتماع استهوتني نيويورك، فهي مدينة فريدة، وعظيمة، وتتوفر فيها إمكانيات هائلة وحياة من نوع آخر (غير شكل)» إذ أحب مسارحها وصالات السينما فيها، ودور الأوبرا، وأبنيتها ومكتباتها ومقاهيها.








0 مشاركات:

إرسال تعليق